أغلفة‭ ‬العزلة

"الجائحة"،‭ ‬الوقت،‭ ‬الكتاب،‭ ‬وفراغ‭ ‬التوقعات
الأربعاء 2020/04/01

إطلالة من وراء الغلاف

لم تمثل لي الفسحة الوقتية المتاحة اضطرارياً أهميةً كبيرةً، فمتقاعد مثلي- يحف صدى مموسق بمهنته “للقعود” عن العمل – لم تأت العطالة هبة طارئة جلبتها تداعيات فايروس كورونا ، ولا دلالة إضافية لها عن الفراغ الذي يحسه العاطلون بالضرورة ، وبمفاجأة كورونا الزائرة بلا حياء، تداعياً من زائرة الحمّى في قصيدة المتنبي.

ازداد إيقاع الفراغ أو العزلة بالمعنى الأدق، إيقاع يتألف يومياً حين يطلع من نشرات الأخبار ومن هواتف الأصدقاء الذين صار لمكالماتهم مدى زمني أكثر، فلا أجمل من مهاتفة في وقت مفتوح كما نشاء. العادات اليومية ستأخذ وقتاً أطول: إزاحة الستائر لاستقبال كمية الضوء الخارجي الممكن – نكاية بنا وتضامناً للطبيعة مع تسونامي كورونا لم تظهر الشمس خلال أسبوعين في هذا المكان القصي من الجنوب الأميركي المعتاد على الشمس الربيعية الخجول في مثل هذا الوقت – ثم التوجه لإعداد كأس الليمون بالماء الدافئ. سألاحظ أنه صار بطعم الدواء منذ تكررت التوصية بأن يكون علاجاً، ثم كأس الحليب الساخن والفطور السريع.

لا طعم لشيء، فالهاجس العلاجي والوقاية، تؤطّران الأفعال كلها، وتنزعان المتعة عن أفعالنا اليومية. تمارين رياضية قليلة لا يتقبلها الجسد بسلاسة، بعد أن انقطعت يومية المشي في ساحات التريض في الهواء الطلق، أو في النادي الرياضي الصحي الذي أقفل أبوابه منذ البدء.

من خلف الشبابيك لن ترى حركة زائدة. ثمة فراغ موحش لا تقطعه إلا سيارة البريد التقليدية، أو عربة النفايات الخضراء التي لا تزال تشع بشعارها فكّر بالأخضر!

للأخبار وجودها الكابوسي حين أذهب للتلفاز: أرقام تتدافع وتملأ الذاكرة بالخوف.. تتزايد وتتعقد الأمور كلها. والترقب يغدو معلقاً بالنشرات والبريد القادم عبر الرسائل النصية والفيديوهات.

للكتاب الآن وجود خاص .حتى ما كان موجوداً بالقوة على الأرفف صار له وجود بالفعل بين الأيدي. أعود للمجلات وأعدادها الخاصة: سيميائيات وتآويل، سير حياتية وذكرى، وقصائد جديدة وقاصين جدد، ونظريات في النقد والسرد، في الرسم والرسامين، في الكتابة كقدر واختيار ولعبة ماكرة، وبحر لسفن تائهة وسيرينيات تغوي البحّارة والمبحرين ولا شمع لِحجْب أصواتهن.. وانزلاق لذيذ نحو المصير.. ثم حنين للهرب والراحة بعيداً.

دواوين محمّلة على النت.. وروايات لأصدقاء أتجول بين صفحاتها وأقارنها باللحظة الكورونية القائمة.. ثم أنتقي شيئاً للقراءة وأنتظر بتعب. أغلفة الكتب جمدت في اليدين تمددت حتى صارت مجازاً . فأرة الحاسوب (ماوس الكيبورد) تتمثل لي حقيقة، فأنفر منها متحاشياً نداءات المواقع والصفحات والفيسبوك والصحف الرقمية والبريد. سأكتفي منعزلاً بما برمجته على الهاتف منها بعد فراغي من فراغ الفطور والمرور بالأشياء التي غدت أيقونات ذات هيئة تمثالية، ثم أهرع ثانية للتلفاز. أتغافل عن النمو العددي والأرقام المرعبة، وأبحث عن أمل في أنباء تتواتر عن علماء من بلدان عدة يتسابقون لدرء الوباء بعقار مناسب. أتساءل  كل مرة: أيبحثون عن وقاية لمن لم تصبه الجائحة أم علاج لمن أصابته؟ وبين الوقاية و العلاج يتأرجح الأمل ولا جديد يطمئننا. وتظل أسئلتنا كقلقنا.. كخوفنا في مهب الريح العاتية.

التسوق هو الآخر صار فعلاً محفوفاً بتداعيات الفراغ الكوروني المفاجئ. العربات الطافحة بالمواد شيء لم أعهده في أسواق مدينتي والحي الذي أعيش فيه منذ تسعة أعوام. كنا نتندر إذ ينتقي المتبضعون حبّات مفردة من الأشياء، ويمضون خفافاً دون عناء. وها هم اليوم يتسابقون كما في ميدان تنافس ليحصلوا على ما هو متاح. عربات التسوّق المثقلة. الأيدي الناعمة والأرجل المرتبكة ، وتترك دلالة  الشراء علامة على زيارة السيدة المتطفلة كورونا، تصاحب حمّاها حمّى التبضع والخزن بآلية الخوف الذي أعاد الإنسان إلى طبعه لا تطَبّعه مثل سنورات (قطط) الحكاية الشعبية اللائي ألقين الشمع المدرّبات على حمله في مجلس الوزير تأدباً، وتراكضن ليصطدن الفأر الملقى بحيلة خبيثة أمامهن. وعدْنَ قططاً فحسب، يلقين شموع الأناقة والتأدب؛ ليصطدن ما يحسبنه للقادم من أيام العزلة.

 الجائحة أنثى.. والفايروس ذكر

تأتي لفظة العزْل عربياً مرادفة للحجْر.. ذلك موجع. فالحجْر يُستخدم للقاصرين والممسوسين والمخرّفين، فيحجر عليهم ذووهم، ويقيدون تصرفهم بما يملكون. لكنّ العزْل يحمل معنى الإبعاد والتبرؤ؛ فيكون المعزول مداناً بخطر عدواه. كلاهما مرٌّ بالغ القسوة. وأقرب تمثيل صوري له هو عزلة الطائر عائداً إلى محبسه بعد أن سئمه الفضاء.. وذلك الحَجْر يأخذ قسوته كالعزل من إيقاعه اللغوي في هذه الجائحة. ولكن ما الجائحة؟ وكيف اهتدى المختصون إلى هذه المفردة ذات الوقع المنفّر المخيف؟

إنها مؤنثة، ارتاح لها العقل الذكوري، وهجر من أجل ذلك الوصف المذكر: الوباء. وحتى مرادفاتها المعنوية مؤنثات. هكذا يقترح المعجم للجائحة وجمعها المؤنث السالم- يا للسخرية من سلامتها! ألفاظاً مثل: المصيبة/الداهية. ويستطرد تأكيداً للعقلية الذكورية: الجائحة داهية أو مصيبة تصيب الرجل! في ماله فتجتاحه كله. والسنة الجائحة الجدبة هي الغبراء القاحلة. كلها مؤنث. ولا وجود لوباء أو مرض فاتك أو شديد. هناك المزيد من العداء الأنثوي: الجائحة في المعجم هي “آفة” سماوية تتلف الثمر أو وتذهب له.

ربما هو اللاشعور اللغوي الجمعي الذي يلصق بالأدواء والمشكلات هذا الوصف: عاصفة/جائحة/داهية/قاحلة/آفة/غبراء..

التباعد الاجتماعي: روميو محجوراً

تطلب منا تعليمات الوقاية من الجائحة أن نسلك التباعد الاجتماعي. أبتسم مردداً لنفسي: وأيّ تقارب يفترضونه سوى حميم العلاقات وقريبها المؤقت. وإلا فأين الجوار والصحبة؟ والمعارف لا أحد.. فلماذا يقترحون التباعد؟ لأغراض في نفوسهم فحسب. الأسرة لن تتمكن من التقارب. الأحفاد عادوا في يومهم الدراسي الأخير قبل الإغلاق بوصية ينفذونها تماماً. ابتعد عن جدَّيْك لأن مناعتهم ضعيفة أو معدومة. لا تزرْهم ولا تدخل سكنهم. الهاتف أيضاً سيعود لوظيفته العاطفية التقليدية مسرحاً للأسئلة البليدة: كيف الحال؟ كونوا على حذر.. وداعاً..

الرومانسيون والرومانسيات هم ضحايا نوعيون للجائحة، فالقبلات والأحضان وتشابك الأيدي ممنوع ضمن الحملة العاطفية لمقاومة الوباء. وصاروا مادةً لصانعي الطرف والنكات، ولرسامي الكاريكاتير – ضمير الجماعة في الأزمات والصعاب – بديلاً للرغبة بالقُبل قبَل قطتك والشريكة تفعل ذلك. أصبح تقبيل القطط إشارةً ذات محمول عاطفي (إيروتيكي في نشاط استثنائي وسط الجائحة؟) صارت الأمثولة: ويحب قطَّتها قطّي! انزياحاً عن الحماسة البدوية الساذجة: ويحب ناقتَها بعيري! أحد رسامي الكاريكاتير في مدينتنا نشر في الجريدة المحلية رسماً عن الكورونا مستدعياً مشهد الشرفة مقلوباً: جولييت من شرفتها تنادي روميو بدلال ولهفة: أين أنت؟

يخرج روميو لها من شرفته دامعاً حزيناً ليقول: أنا في الحَجْر!

2020  حيَّتان برأسين وحبلا مشنقة

لا أؤمن بالطِّيرة والتطيّر، إنها ربط لا علّي – غير سببي بين الشيء ودافعه ونتائجه. لكنني غير مطمئن لهذه السنة. هل كانت كبيسة؟ منذ البدء أهدتنا مصافحات قاسية مؤلمة: شفا حرب بين اثنين ثالثهما العراقيون بلا رابط! ثم هز مدينة ناشفل حيث أسكن  إعصار رهيب، خلال الدقائق العشر التي سلّم بها علينا ممطراً عاصفاً مسرعا بدرجة 160 ميلاً في الساعة، ترك عند الثانية صباحاً أكثر من 25 قتيلاً جلّهم تحت أنقاض بيوتهم. هُدمت مبانٍ لمدارس ودور ومؤسسات وممتلكات خاصة.. كل شيء بدا في الصباح أثراً بعد عين.. الصور الجوية التي التقطتها درون (بلا طيار) تشي بآثار قصف أو معركة ليلية لمن لا يعرف ما فعل التورنيدو… لم نستفق من الواقعة حتى حلّت الجائحة.

أيّ سنة هذه؟

 2020

تأملت هيأتها الخطية وأنا أعلق التقويم الجديد على الجدار. تراءت لي حيتان تطلان برأسيهما من العدد 2 المكرر، والصفران الدائريان كحبليْ مشنقة. أين نهرب منها. لا اختيار إلا الحبل أو رأسي الأفعوين. خيار نجا منه الرجل الهارب من الفيل الهائج في كليلة ودمنة: فاختار أن يتدلى بالحبل ويرقب الحيّات في الأسفل، متلهياً بغمس إصبعه في كوارة العسل على جدار البئر بانتظار أن يسقط إلى القرار.

حين دخلناها، بل قبل ليلتين منها كنت ممدداً في غرفة الطوارئ في زيارة لأسرة ابنتي في كندا. قضيت ليلة الميلاد الحوّائية التي تسبق الكرسمس أعاني من ارتفاع ضغط الدم بدرجة حيرت الأطباء.

ثلاث رسائل تلقيتها في نهار واحد: النادي الرياضي يرجو أن نستمر في اشتراكنا الشهري، معلناً توقفه (المؤقت)..، متحف فريست للفن البصري، مركز المتعة اللونية والحركية والمعارض المدهشة في مدينتي يرسل رسالة رقيقةً بالمعنى نفسه: مُقفل مؤقتاً، وانتظرونا وادعمونا، أخيراً مكتبة الحي راعية السأم ومعالجة فوضاي وارتباكاتي وتوتري وملجأ عزلتي الموسمية هي الثالثة تعتذر وتقفل، وتعِد بلقاء لا تاريخ له.

هل سيطول الأمر إذن أم سيحل السلام مع الغضوب الجائحة الكاسحة اللامرئية؟ ومؤقتاً نقتات صمت عزلتنا وسلامها العابر.

ولكن أيّ سلام ستمنحه العزلة وأخبار الموت تتزايد، والوباء خارج السيطرة في أكثر الدول والمجتمعات تقدما تقنياً وطبياً…؟

أخبار الأهل والأقارب تزيد الأسى الذي أحسه على ما يضرب البشر في قاراتهم كلها: صرنا نفقد أفراداً قريبين. تجسدت الفاجعة وصارت ملموسة، وعلى القلب الواهن أن يحتمل: بأكواب الليمون والحليب، بكتب الورق والشبح الرقمي، وبالمذياع والتلفاز، خداع الهاتف وحيل الحاسوب، وتقاطعات الأمل واليأس.

أنظر الآن إلى المطر الليلي، ولا أجد له طعماً. تساوت الشمس والغيوم، غيوم العزلة وشمس الفضاء الطلق. عالم يتغير نحو المجهول لافتته الموت اليومي والفاقة والعزلة.. أغلفة تتضاعف.. تتوالد بكثرة كسرعة تمدد الجائحة التي لا يرضى المتداولون أن ينسبوها لوباء أو مرض أو قدر غاشم.. لأنهم أبطال خيّرون، والكون من صنع امرأة ولدتنا ثم تخفت في هيئة جائحة/ داجية/عاصفة/جدباء/قفراء… خالية إلا من ابنتها الأقرب والأحب: المنيّة، بعد أن وأد الآباء ابنتها المدللة المتغنجة: الأمنية.

العزلة التالية

يختم ماركيز روايته “مائة عام من العزلة” بمشهد ذي دلالة في عزلتنا الراهنة. أوريلاندو يقرأ في رقاق ملكيادس المكتوبة قبل مائة عام، والتي أيقن أن قدره مكتوب فيها. تلك اللحظات تهب الريح العاصفة فتقتلع الأبواب والنوافذ والسقف والأسس.. فغدت ماكوندو إعصاراً مخيفاً من الغبار والخراب. مدينة المرايا أو السراب تجتثها الريح وتنفيها من ذاكرة الإنسان.. فالسلالات، التي منحها القدر مائة عام من العزلة، لا يمنحها القدر على الأرض فرصةً ثانيةً.

ولكن أما من أمل بأن يمنحنا القدر الغامض ذاته عزلةً تتجدد فيها النفوس والأمكنة، ويطلع منها نسل جديد كذلك الذي توقعه خليل حاوي وهو ينتظر الصاعقة التي تتفجر منها الحياة…؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.