أكتب الحقيقة الغائبة

الجمعة 2016/04/01

كيف لي أن أدّعي بأن الفاجعة حرّضتني، مزّقت روحي، شتّتني، وجعلتني تعويذة غريبة لهذه الحرب؟! وإذا كانت هذه هي الحقيقة، فإن حروف الغد الجديد لم تستسلم للدم، لا، ولا إلى الدّمع، رغم أنها مؤلمة، وصارخة، ولم تتعثر خطواتي في متاهات النزوح القسريّ والمأساة، ولم تستسلم روحي المتعَبة للذهول، وكانت تكافح الصدمات اليومية بالمزيد من الإبداع، وتناضل بفنّ من أجل مستقبل أفضل، ولهذا، كانت الولادة من تحت أنفاس الخراب والاغتراب، وكانت الكتابة بحبر الدّم، وبدمع العاشق، وألم الفراق المرّ، وكان لا بدّ للكاتب، كما أرى، أن يكون صوت المقهورين في الأرض إبداعًا، وأن ينشر شهادته قبل الرحيل الأخير، إذ أن الكتابة في لحظة الدّم ليست مادّة استهلاكية أو إعلانية أو شهوة جنسية عابرة، إنها الولادة الجديدة، وَمَنْ قال إنّ الكاتب يموت بعد نشر نصّه؟! إنني أرى في ذلك ولادته من خاصرة النص الإبداعي، وبعد الولادة الجديدة لا بدّ أن يأتي الموت الإبداعي أكثر من مرّة!؟ فالكتابة ـ ها هناـ من دون إبداع مميّز رغوة عابرة، مجرّد تقليد أو سرقة أو شهوة ساذجة للشهرة، تودي بالنص إلى سلّة الإهمال والنسيان والموت، إذ لا شيء يدوم إلى الأبد غير الحبّ والفن والإبداع.

من هنا ولدت روايتي الأخيرة “الخاتم الأعظم”، إذ كنتُ أبكي حين أصوّر مشاهدها وتغيب عن عيوني الحروف، فأمسح خديّ وجفنيّ، وأضعُ رأسي فوق طاولتي للحظات تكاد تقتلني، بل إنها كانت تهزّني، تقتحمني، تناديني أن أستمرّ في فعل الكتابة، وكانت تقول لي: إن دموع اليتامى والثكالى والعذارى والشهداء تناديك، وكنت أسمع أصواتهم، ومناجاتهم، وأحسّ بآلامهم وأحلامهم، ومن هنا، ربّما، كانت البداية في لحظة الدّم لإصدار الرّواية الأخيرة.

كان أمامي ككاتب أمران لا ثالث لهما، الأوّل أن أكتب الحقيقة الغائبة التي أؤمن بها في زمن الاستبداد السّياسي والمخابراتي القمعي، والتطرف الدّيني، والفوضى، والأمر الثاني أن أصمت مع الصامتين وأنتظر حتى المشهد الأخير من سيناريو الحرب، وليس سرًّا أنني أخترت الخيار الأوّل، ولم أنتظر أيّ مكافأة ما من أيّ طرف من أطراف الصراع في وطني سوريا، وما أكثر الأطراف الشرسة في وطني، وإذا كان التاريخ مجموعة الأكاذيب المتّفق عليها، كما قال نابليون بونابرت، ولا يخفى على أحد أنّ أقسى الجرائم تلك التي تمّ ارتكابها باسم المذاهب الدّينية، فإنّ الكتابة في لحظة الدّم والحرب ليست كذبة كبرى، أو مذهبًا متطرّفًا، أو حكاية مسلّية، أو مسرحية هزلية، وليست كتبًا تاريخية تعتمد على الحكم والتفسير، وإذا تهاوت مترنّحة في مستنقعات التسييس الفكري، والانحياز السّياسي، والحكم الاستبدادي، والتطرف الدّيني، فإنّها بذلك تنضمّ إلى أقسى الجرائم التي لا يعاقب عليها القانون الوضعي، ولهذا، لا بدّ لها أن تنحاز إلى الحقيقة الإبداعية، الإنسانيّة، والإنسان الكوني، ولعمره، فالاستبداد لن يدوم، والحروب لن تدوم، فالرّواية ـ ها هنا ـ أصدق من التاريخ، ومن تحليلات السّياسيين، وكما نعلم فإنّ الآخر، أو بالأحرى، القارئ ذا الروح المثقّفة لا ينبذ نصًّا يماثل إنسانيته وحريته ومعاناته، بل إنّه يحفظه في ذاكرته، وقلبه، ولسانه، أمّا ما عدا ذلك فإنه ينبذه ويحتقره، ومن هنا، فإنّ النصّ في لحظة الدّم إمّا أن يولد حيًّا، خالدًا، أو يموت في الرحم العقيم قبل الولادة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.