أكثر من عودة مسرحية تونسية

الأحد 2023/01/01
عودة الحياة إلى المسرح في تونس، وغير تونس، مهمة

يهتم محرران وكاتب يعملون في “مؤسسة العرب” بالشأن المسرحي التونسي. هذا الفريق الثقافي التونسي، المحرران والكاتبان حنان مبروك وناصر المولهي والكاتب حكيم المرزوقي، يرصد اليوم عودة محسوسة للمسرح في بلد كان دوما يفخر بإنجازاته المسرحية وباستضافته للمهرجانات المسرحية العربية.

تكمن أهمية المسرح التونسي في أنه مسرح طبيعي. هناك نشاط مسرحي ملموس في دول الخليج، لكنه نشاط وافد، ولا يعكس الحضور المسرحي بين المواطنين الخليجيين. لا شك أن المسرح المصري رائد بكل الاعتبارات، لكن المصريين حسموا أمرهم مبكرا بأن كان المسرح مسرحين: الأول، مسرح نجوم وأفيات وضحك؛ والثاني مسرح جاد يصعد وينزل وفق أمزجة اجتماعية وحكومية متذبذبة. لست خبيرا أو ناقدا مسرحيا، ولكني أحيل أيّ مجادل بأن المسرح المصري ليس مزدوج الشخصية إلى مسرحيات عادل إمام أو سمير غانم أو محمد صبحي، ليخبرنا إن كانت أعمالا مسرحية أم استعراضات.

المسرح التونسي طبيعي، ليس لأنه جاد فقط، بل لأنه بالأساس عمل يؤديه الفنانون التونسيون. هؤلاء الفنانون يعملون في بيئتهم، ويعكسون همومها ومشاكلها واهتماماتها الثقافية. كم أصابوا وكم أخطأوا، هذه قضية نسبية نتركها للنقاد. لكنك لا تستطيع أن تنكر وجود المسرح التونسي، أو أن تتغاضى عن عودته الجارية اليوم. على الأقل هذا ما يخبرنا به محررو “العرب” وكتابها. وعلى الأقل هذا ما نحسه إذا أجرينا مقارنة مع أداء السينما التونسية المتواضع التي بالكاد تذكر.

مع عودة المسرح التونسي، تعود إليه العروض المسرحية العربية. التونسيون قساة مع أنفسهم، فلا ينتظر المسرحيون العرب كلاما حنونا من المسرحيين التونسيين أو من النقاد. ستجلد العروض وتنتقد، لكن ما يهم أنها تعود. هذا هو الوجه الصحي من الصورة.

من الصعب حصر الأسباب التي أدت إلى انحسار الفعل المسرحي العربي. التأزم السياسي والحروب الأهلية وسطوة الإسلام السياسي وتراجع الدعم الحكومي من ضمن العوامل. حتى في دول الخليج، تغير مزاج استضافة الحركة الثقافية وانحسر، على الرغم من أنها بقيت بعيدة نسبيا عن مشاكل الدول العربية الأخرى. لكن من الضروري تشخيص أن الفعل المسرحي هو جزء من فعل ثقافي عام. التأثير الثقافي في عالمنا العربي شهد انحسارا كبيرا. لا نريد أن نقول إن الأسباب تتعلق بالوضع السياسي والتخويف الإسلامي وطغوة السلطة، بل لأن المواطن العادي فقد الاهتمام.

لم يفقد العربي الاهتمام بالثقافة، ليجلس بلا شيء. ما حدث أن الثقافة، ابتداء من الكتاب وصولا إلى خشبة المسرح، تمت إعادة تعريفها باستخفاف. في مرحلة أولى، تم اختزال الثقافة بشاشات الفضائيات الترفيهية. الثقافة صارت ترفيها فقط: فيديو كليب ورقص ودراما خفيفة. في مرحلة ثانية، وهي لا شك الأخطر، ضاقت الثقافة بأوجهها ورحابتها لتحشر نفسها على شاشة الموبايل. كل شيء تم اختزاله في ما يمكن أن يعرض على شاشة الهاتف. ما هي حظوظ العمل المسرحي لو قرر شخص أن يشاهده من على شاشة محمول: شبه معدومة. لا الشاشة يمكن أن تنقل صورة عن خشبة مسرح، ولا نتخيل أن مهتما سيصبر على مشاهدة مسرحية من ساعة أو ساعة ونصف من على شاشة صغيرة. لو تحدثت مع صديق هذه الأيام عن المسرح، فسيرد عليك بمقطع ضاحك من ثوان من مسرحية “مدرسة المشاغبين” ومركب ليكون جزءا من سخرية من قضية ما.

أصابنا الملل. اجلس بجانب أصدقاء لتشاهدوا معا مسلسلا أو فيلما من على فضائية، وسترى كيف تتناوب أعينهم بين شاشة التلفزيون وشاشة الموبايل. لا تستغرب أن تسمع صوتا فتتلفت لتجد أحدهم يضع الهاتف على أذنه ويستمع لشيء آخر لا علاقة له بالمسلسل أو الفيلم.

ثم جاء تيك توك ليقدم بعض الإنقاذ. لا أساس لأيّ تقييم لتيك توك. إما تحبه أو تكرهه. لكنه أخذ حيزا ملموسا من الاهتمام. وها هو الآن يفقد حظوته، مثلما فقدت تطبيقات أخرى اهتمام الناس بها.

هذا ما يجعل عودة الحياة إلى المسرح في تونس، وغير تونس، مهمة. في عودة الناس إلى المسارح، ثمة استعادة للهدوء المطلوب كي تستعيد حياتنا إيقاعها المتوازن. المسرح لا يهم كل الناس، ولا يتابعه الجميع. لكن السينمائي (أو المخرج الدرامي التلفزيوني) سيلاحظ النشاط المسرحي المجاور وسيسعى لأن يضع موبايله وتيك توك جانبا ويستعيد نشاطه ويقدم المبتكر والجديد. سيفكر الروائي، أو مشروع الروائي، كثيرا قبل أن يكتب رواية وينشرها على حسابه ليضعها – بريشها ودون تمحيص – على أرفف معارض الكتب. ارتفاع الذائقة سيحث الكتاب أن يتريثوا وأن يقدموا أفضل ما عندهم. الروايات – وهي ولع متزايد لمن لا يحسن كتابة الشعر – فن أدبي رفيع لا يقارن بقفشات وتهريج المقاطع الفيديوية على يوتيوب وواتساب وتيك توك. أعتقد أن الفنون التشكيلية، بحكم طبيعتها، كانت الناجي الوحيد من إسفاف أو إهمال العقود الماضية.

بوادر الحياة تأتينا اليوم من تونس: شكرا للتونسيين.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.