أن تبقى هذه الحكاية

الجمعة 2016/04/01

في تصوّري أن أفضل ما يمكن أن يفعله روائي جيّد في لحظة الدّم والخراب هو أن يمارس فضيلة الصمت، التأمل بهدوء، أن يحافظ على “الرّوائيّ” داخله فلا يُقحمه في كتابة انفعالية لم تنضج بعد، ولا في حكاية لم تتّضح معالم شخوصها ولا زوايا أحداثها. عليه أن يكون روائيًا باردًا لا يملّ من تأمّل ما يحدث من شرفة عالية تطل على مشهد الخراب. لكي لا أُفهَم خطأ، الرّوائيّ هو البارد، أما الإنسان فكيف يكون إنسانًا إنْ لم ينفعل أو يبكي أو يحزن، بل ولا ضير أيضًا أن يلعن سدنة الحروب وتجّارها وسماسرتها.

الرّوائيّ إنسان في النهاية، ولا يمكن لرواية جيدة أن يكتبها إلا روائيٌّ إنسان. ولكن الرّوائيّ ليس مؤرخًا ولا موثقًا لأحداث وتواريخ وحروب. عليه أن يتذكر ذلك. وإذا كان المؤرخ يكتب تاريخ الجماعات فإن على الرّوائيّ أن يكتب تاريخ الأفراد، تمامًا كما نصحنا أبونا الكبير “كونديرا”.. صَوَّرَ “تولستوي” أرض المعركة الضاجّة بجثث القتلى في “الحرب والسلم” ولكن بعد ستين سنة من حدوث المجزرة، ولذا استطاع أن يخلّد هؤلاء الذين ما كان مؤرخ لينتبه لهم: ضحايا الحروب الذين لا يكترث بهم أحد قدر اكتراثه بالسّاسة وقادة الجيوش. قبض “تولستوي” على مشاعرهم الطازجة فألهبَ بها نصّه ومنحه بذلك طاقة بقاء. ليست هذه دعوة للانتظار ستين سنة قبل أن ينخرط روائي في كتابة الحرب والدّم، ولكنها دعوة لتَشَرُّب الحدث وهضمه حتى يصبح جزءًا من الكاتب لا يمكن فصله منه، تمامًا ككبده وطحاله. دعوة لعدم الانسياق وراء انفعالٍ لحظي، أو إغراء خطابي، أو دغدغة مشاعر وطنية زائفة، أو قول ما يود الجميع سماعه. ما أسهل أن ينتقي روائي عربيٌّ اليوم مأساة إنسانيّة من سوريا أو اليمن أو ليبيا أو غيرها من شرقنا الأوسط المضرج بالدّم والخراب ويسطّر تفاصيلها في رواية، ولكن ما أصعب أن تبقى هذه الحكاية/ المأساة في ذاكرة القارئ وتؤثّر فيه، وفي أجيال من بعده، إن لم يكن الفنُّ هو أُسّها وأساسها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.