أهل‭ ‬الحرب

الأحد 2015/11/01
تخطيط: حمد الهيناوي

لم يسبق له أن رأى في منامه كابوساً، جلَّ ما يعرفه عن هذه الحالة قليل، ولم تكن هذه المعرفة القليلة تثير فيه ما كان يحدث لمن هم أكبر منه سناً؛ ممن يروون الكابوس، وممن يستمعون إليه‭.‬

اليوم فقط، والسماء ما تزال سوداء والوقت ليل، فتح عينيه منتفضاً على صوت تفجير قوي هزّ أركان البيت، وربما المدينة، أعقبته ولولات نسوة وصرخات أطفال، حينها أيقن أن ما يشاهده ليس سوى ذلك الذي كان الكبار يسمّونه كابوساً‭.‬

مرّت الدقائق بطيئة وثقيلة وهو واقف أمام باب داره وقد امتلكه الذهول عمّن حوله، وراح ينتزع نظراته من تلك المشاهد التي تنهض أمامه: أعمدة الدخان تتصاعد من بعيد، الوجوه المغبرّة لأناس يروحون ويجيئون أمامه وهم يركضون ويصرخون بخوف وغضب، الإضاءة القوية المنبعثة من مصابيح سيارات كبيرة وصغيرة لا تنفك تصدر أصوات زاعقة، الأتربة التي لوَّنت الفضاء والجدران والأبواب والنوافذ بلونها، ومياه غزيرة تتدفق في الشارع مختلطة بالوحل والدم‭.‬

أصبح فريسة يتناهبها قطيع من الذئاب، وبالكاد كتم صرخة صعدت من أعماقه وأغلق فمه عليها‭.‬

استحالت الثواني إلى دقائق، والدقائق إلى ساعات، والساعات إلى‭..‬ ولمّا ينته الكابوس‭.‬

اللعنة،

قالها في نفسه وهو يستغرب ما يحدث له، وسؤال كبير راح ينداح في بحيرة حيرته، فتذكر ما جرى له قبل ساعات من استلامه للنوم‭..‬ إذ كان ورفاقه في الملعب البلدي يتنافسون في مباراة ودية بين طلاب صفه الحادي عشر “الفرع الأدبي”، وطلاب الحادي عشر العلمي، كانت المباراة حماسية ولم تخل من روح المرح والنشوة، ولقد زاد الهدف الذي سجله في مرمى الفريق الآخر من سروره كثيراً‭.‬

بعد انتهاء المباراة، وفي الطريق إلى البيت، ملأ ورفاقه كل شارع سلكوه بصدى أصواتهم، إذ كانوا يسردون تفاصيل ما حدث في ساحة الملعب، ويُعلّقون على من أجاد وعلى من قصَّر، كان شارع القوتلي القريب من الملعب أول من دخلوه، هذا الشارع الذي ما إن يَرد ذكره في جلسة تضم من تجاوز عتبة الشباب حتى تنبسط أساريره ويخفق قلبه، فلقد كان لهذا الشارع لدى عشاق أيام زمان مكانة خاصة، سرعان ما انعطفوا نحو الشارع العام، أو شارع السيد الرئيس الذي سمي باسم الرئيس السابق لوالد الرئيس الحالي، الضيق والمزدحم كعادته بالسيارات المارة والمركونة على جانبيه، وبعربات الباعة المتجولين، وبالمارة من كل الأجناس‭..‬ مشوا فيه مثنى وثلاث حتى وصلوا إلى مدخل حيّهم الشعبي المعروف باسم رجل إقطاعي سابق، والواقع على الضفة الشرقية من نهر جغجغ الذي يقسم مدينتهم إلى قسمين‭.‬ مازال يذكر كل هذه التفاصيل، وتفاصيل أخرى، حتى حين دخل ورفاقه شارعهم الذي يتفرع عنه زقاقان مثل نهرين صغيرين يتذكره، ويتذكر كيف توجه كل واحد منهم إلى بيته، بقيَّ هو واقفاً لدقائق أمام باب منزله، استعداداً للاستماع إلى محاضرة من أبيه، المحاضرة التي تبدأ عادة بالسؤال عن سبب تأخره عن موعد العودة إلى البيت، يليه سرد مكرَّر عن ماضيه المجيد الذي كان يعمل فيه ويدرس، لتكمل أمَّه الفصل الثاني من هذا المسلسل، تبدؤه هي الأخرى بحكاية ابن جارهم محمود الذي يدرس ويعمل ويعيل عائلته بعد أن استشهد والده في معارك حلب، دون أن تنسى قولها: بعد عمر طويل لوالدك، سندنا وحامينا، هذا الجار الذي بات يكرهه، ويرجو أن يحدث له مكروه كي يتخلص منه ومن سيرته؛ ولكن ذلك لم يحدث‭.‬

حتى مشاعر السعادة التي داخلته حين دخل إلى البيت ولم يرَ أحداً، لا أباه ولا أمه، مازال يتذكرها جيداً، حينها انطلق من شدة الفرح إلى البراد وفتحه وتناول بسرعة بعض الطعام الموجود هناك، ليتوجه بعدها مباشرة إلى فراش النوم‭.‬

يذكر حينها أنه لم ينم مباشرة، بل تناول كتاب العلوم، وذلك خشية دخول أمه إلى غرفته وضبطه وهو نائم، وكذلك من أجل تجنب توبيخ المدرس له في المدرسة حين يطلب منه غداً تسميع الدرس، غير أن أمر سلطان النوم كان أقوى من كل هؤلاء، فاستسلم دون مقاومة، ومازال يذكر أيضاً، وهو ما يزال على عتبة النوم، كيف اقتحمت أمه غرفته مثل أبي عبدو؛ رجل الأمن الذي كان يتردد بين الفينة والأخرى على المدرسة، وسحبت الكتاب الملقى على صدره وغطّته باللحاف ثم غادرت الغرفة وهي تندب حظها‭.‬

كل ذلك يتذكره جيداً، بكل تفاصيله، بل وبما رافقه من مشاعر وأحاسيس وحتى روائح‭.‬

أجاب مدرس الفلسفة رداً على سؤال أحد الطلاب عن الكوابيس:

(الكوابيس صور وحالات لمنغصات الحياة التي مررنا بها في الواقع، وأحياناً نتيجة ملء البطن بالطعام قبيل النوم ).

تذكر ذلك أيضاً وتساءل باستغراب:

- كيف يحدث لي ذلك وأنا لم أكن يوماً مرتاحاً وسعيداً مثلما كنتُ في نهار هذه الليلة؟ ربما كان ذلك بسبب تناول الطعام قبل النوم، ربما!

ازدادت حيرته وأحس بنفسه طفلاً تائهاً في بلد غريب، كان دبيب الخدر في تلك اللحظة قد بدأ يسري في أنحاء جسده جيشاً من نمل، هزَّته المفاجأة وتحولت إلى ما يشبه الصاعقة حين أحسَّ بالجفاف في جلْد يديه وبأخاديد عميقة على صفحة وجهه‭.‬

-ما هذا؟

صرخ صوت مرعب في داخله وهو يكاد لا يصدق: (كيف حدث لي ذلك وأنا كنت قبل ساعات من دخول غرفة النوم، بل دخول البيت، فتى لا يتجاوز عمره السادسة عشرة؟ حتى أني كنت حينها في الملعب، وهناك سددت هدفاً رائعاً أدهش الجميع‭..‬ هل يمكن أن يحدث لي كل هذا في يوم واحد، بل في ساعات لا في سنين؟).

- مرعب مرور هذا الزمن !

قفز هذا القول إلى ذاكرته فجأة دون أن يعرف من هو قائله‭.‬

- “لقد هَرمنا”‭.‬

وقفزت هذه الجملة إلى ذهنه أيضاً مع صورة قائلها التونسي وهو يبكي على الشاشات الفضية‭.‬

صور وأشكال مختلفة من وجوه عجزة حيَّه الشعبي راحت تتدافع أمام عينيه وهي تردد بمرارة (العمر يجري مثل الماء، بسرعة شديدة، البارحة فقط كنا في مثل أعماركم، وها نحن كما ترون، هذه هي سنة الحياة)‭.‬

العمى!

معقول!

…‭.‬

أخذ يترقب بأمل ورجاء لحظة انتهاء هذا الكابوس، وانتفاضه من الفراش وحضور أمه أو والده وقد حمل القادم منهما كأساً من الماء وهو يتمتم بالبسملة كما يحدث عادة في بعض المسلسلات العربية‭..‬ طال الزمن واستطال ولم يحدث ذلك‭.‬

وكشريط سينمائي بدأت تتسارع أمام ناظريه وجوه غريبة ومشاهد أكثر غرابة ملأت كل مكان يجد نفسه فيه:

تفجير أبنية، بتر أياد، نحر أعناق بدم بارد، إبادات جماعية، وأناس من كل الأعمار: أطفال ونساء وعجائز‭..‬ يفرون من أمام الدبابات والطائرات التي تلفظ البراميل كوحوش خرافية، وأشباح لها أجساد بشر ورؤوس ذئاب تسوق أمامها جماعات من البشر بوجوه من شمع، وكل ذلك تحت رايات زادت السماء سواداً وحلكة‭.‬

أحس أن الأيام تتوالى بسرعة مذهلة حتى أنه نسي أمر الكابوس، وأخذ يسأل عن عائلته؛ والده وأمه وأخته، سأل كل من يعرفه من الجيران ومن أهل الحي، فجاءته الإجابات مبتورة وغير مفهومة، كان الجميع في حالة توتر وحزن شديدين، لا حديث لديهم سوى إحصاء عدد ضحايا هذه الأشباح الغريبة، والتفجيرات التي لم تستثنِ مدناً كثيرة في وطنه، وأحاديث كثيرة غريبة تطرق مسامعه لأول مرة، كالحديث عن علامات الساعة بالتزامن مع ظهور هذه الأشباح، والاعتقاد بظهور المسيح الدجال في مكان ما من بلده، وبعودة الإنسان إلى أصله بدليل أكل مقاتل كبد عدوه‭..‬ ازداد فزعه وهو يشاهد كل ما يسمعه يتجسد أمامه، كأنه أمام فلم سينمائي عجيب، شبيه بالفلم الأجنبي “ملك الخواتم” الذي شاهده ذات مساء، وتخيل أن هذه الأشباح لا بدَّ وأنها مزقت والديه وأخته، وأن دوره قادم لا محالة‭.‬

في ليلة حالكة توارى فيها القمر خشية ابتلاع الحوت له، والناس عنه غافلون، وجد نفسه مع مجموعة من أهل مدينته قرب الحدود مع الدولة التي تحدُّ وطنه من الشمال كما قرأ في كتاب الجغرافيا؛ وعلى مرمى من مدينة نصيبين التي تجاور مدينته، تلك المدينة التي كانت تظهر واضحة أمام عينيه كلما كان يزور مقبرة الحي ليهدي ليلة كل جمعة سورة ياسين لأرواح الأموات، طمعاً بكرم أهل الميت، ومكافأة له، وذلك أسوة بكثير من أطفال وفتيان الحي، الذين كانوا يرتلون الآية في غمغمة برقية، لا يُسمع منها سوى البسملة في أول الترتيل وكلمة آمين في آخرها، ثم التحديق في أيدي أهل الميت‭.‬

على هذه الحدود المرسومة بتدبير من السيدين “سايكس بيكو” كما قرأ مراراً في كتاب التاريخ، أطلق المهرّب الذي كان يقطع بعض أسلاك تلك الحدود ويعالج بعضها ليسهل عبور الفارين، صوتاً آمراً: هيا اعبر بسرعة‭.‬ هيا يا حمار‭.‬

وبدل أن ينفذ الأمر ويقفز من فوق الأسلاك، تجمد في مكانه وراح يتأمل في تلك العتمة الشديدة وجه صاحب الصوت: أهذا أنت يا أستاذ خالد!

صرخ صاحب الصوت بحنق وغضب: هيا اقفز يا ابن العاهرة‭.‬

وقفز كالملدوغ، خجلاً، وربما خوفاً، وانطلق بسرعة مبتعداً عن المكان، عن الحدود والمهرّب وحتى عن مدينته التي يُحبّ، وهو فريسة لأحاسيس الدهشة والخجل‭.‬

كان الفجر الذي بدأ بالطلوع قد أخذ يزيل سواد الليل عن وجه السماء التي فوقه، ويصبغ الأشياء بلونه الوردي الشفيف، تنهّد بأسى والتفت نحو مدينته التي كانت ما تزال غارقة في العتمة كلوحة غير طبيعية، لم يتسن له أن يهمس لمدينة الحب، كما كان وكثير من سكانها يطلقون على مدينته، بكلمة اعتذار، أو يلوّح لها مودّعاً، خشية اكتشاف الجندرمة لأمره ورفاقه وهم لا يزالون غير بعيدين عن الحدود‭.‬

بقدمين مقيدتين بأثقال كثيرة، بدأ يحث الخطى مبتعداً عن الحدود‭.‬ وقد ازداد لهاثه، وتسارعت دقات قلبه كطبل، حانت من رجل في مثل عمر والده التفاتة نحوه وقال له حاثاً إياه على الركض:

- أسرع يا خال، دقائق وسنصل‭.‬

ظنها ممازحة من الرجل، أو سخرية، فتابع إكمال سيره بصمت وذهول‭.‬

كان كل شيء يغيم ويغوص وراء أفق بعيد وحالك: مدينته، المباراة‭..‬ وكل ذكريات ليلته الجميلة تلك‭..‬ بل حتى أسلاك الحدود التي مزَّقها ذلك المهرّب اللعين‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.