أَوْهَادُ ما بين الحَرَكة والسُّكون

المُدَوّنة الرمزية لعبدالكبير ربيع
الثلاثاء 2022/02/01

تخطيطاتُ سوادٍ على مَدارِج بياض، تلتقطُ تقاسيمَها من هندسةٍ رمزية: هياكلُ، لحاءات، أطياف، وما يشبه أبجدية مموهة. هي مآلٌ بَرْزَخي، بين كتل واضحة تحققت ذات يوم، في محيط وجوه وأشجار وأجسام ناهضة، وما خلّفته بعد امّحاء ظاهرها، من جوهر يمتحنُ صَبوات اليقين. لذا كلما تحدث عبدالكبير ربيع (1944) عن تمثيلاته، فهو يستعمل مفردات قادمة من هذا البرزخ المعتم: “الظلال” و”الأثر” و”المطلق”…، تبدو هنا كلمة “خيالات” المعبرة عن عمق الظلال، موحية بالقصد، مثلما “الأطياف”، التي تنتقل من الكائنات إلى الحبر الراسم للدوال، المكثفة والمجردة معا، والصاعقة بإنتاجها لبدائل الأشياء، تماما مثلما يونع سطر من نقطة، جاء في كتاب “المقابسات” لأبي حيان التوحيدي “النقطة في الجوهر صورة، والصورة هي في الكمّ نقطة، والوحدة في جميعها مستوية شاملة، محتوية غالبة؛ فإليها يجب أن يرمي الرامي، وعنها يجب أن يحمي الحامي، فليس فوقها مذهب ولا دونها مبتغى” [1].

يمكن إذن قراءة توليفات عبدالكبير ربيع، من جهة استرسالها في رصف النقاط/السطور، وتقليب احتمالات تجاورها، وتَضامِّها وتقاطعها المنكفئ على أَوْهَادِه الداخلية السحيقة، لصوغ مدونة كتابية بالأثر المرئي. وبناء على هذا الافتراض يتجلّى عمل هذا الفنان الوافد من مخاضات الحداثة الفنية المغربية في ستينات القرن الماضي، وأحد صائغي عنفوانها، بما هو مؤلف سردية رمزية تقول حدوس الورّاق القديم وتوق الفنان المعاصر وهواجسه، عن الولادة والموت، الوحدة والتعدد، الصخب والسكون، والنقطة والصورة؛ ليُطِل بمحمولها المجازي، وباختراقيتها في الأسلوب والرؤية، وتطويع القواعد وأشكال السند، على “ما بعد” ملكوت اللوحة، و”ما بين” طبقاتها، المصاغة من قماش وورق وخشب، وسوائل بماهيات متقلّبة.

ولم يكن عبدالكبير ربيع القادم من أرومة الغابة وسكينة الجبل، ليترجم شيئا آخر إلا سَجِيَّتَهُ في التطلع إلى الفهم، وتقليب بلورة الحقائق، عبر أزيد من خمسة عقود من التجريب والتنويع، والمحو وإعادة التشكيل، ثم درء لعنة العادة والإتقان. هكذا تلاحقت عشرات المعارض والإقامات الفنية، والكاتالوغات والكتب الجماعية، والنصوص التي كتبها،  بتطلع مبدئي إلى المروق البصري، والشك الفكري، والتَّخَطِّي الأسلوبي، للتَّحَقُّقات العابرة في الذاكرة والزمن، والاحتفاظ فقط بنسق ناظم لمسعى المصور/الكاتب إلى التوائم مع رهانات كبرى، قصاراها: الخروج من الكم، وبيان عبقرية الظلال، وتكوين أبجدية أخرى للحركة والسكون، واستيضاح أطياف الواحد المتعدد، ثم استنبات المطلق من الهباء. وسرعان ما ستتردد أسماء وتقاليد كلاسيكية قاعدية في جمله ومحاوراته، من “رامبرانت” إلى “ماتيس” إلى “رونوار” إلى “غويا” إلى “بيكاسو”…، كما ستسكن ما بين سطور نصوصه المكثفة، وتَوَلُّعات يده وخيالاتها، وتستوطن أصول المشغل ومرافئه القصوى. مشكلة “الما بين” و”المابعد”، حين تعيد رسم نطاق الشغف الخالد.

سِفْرُ الخروج من الكم

فنون

ما بين نص “الأوقات السبع لاسترسالي التصويري” و”بيكاسو: رسام المطلق”، وأعمال حملت عناوين “تكوينات” و”مثل استرسال في لحظة تدركها الحواس” و”ما يشبه ملاحقة العدم” و”مدركة على مستوى الضوء الذي يغيرها”، و”وسم” و”غيغو” و”الصخور السوداء”، و”الحبوس”، و”الجوهرة السوداء” و”إيقاع عمودي”…. يعبر عبدالكبير ربيع امتحانات الشكل والمتجلي، المخاتل في تبيين الأصل والقعر، لم يكن المعنى هو ما يحاصر قصد الفنان، ويدفعه إلى تقليص سطوة الفتنة في السطح، وإنما ما يتبقى بعد ازورار الكمّ عن امتداده وعُتُوِّه؛ ولا جرم بعد ذلك أن يُقرأ مسار تحولاته في الفهم والتمثل وتصوير السطوح الظاهرة بما هو “سِفْر خروج”، يبدأ بقاعدة الألفة مع المحيط البليغ في بروزه، قبل أن تنجم لحظاته على مرافئ التغريب، والطباقية مع ما يحلو للرسام وسمه بـ”الأثر”. ذلك ما يفسر التصنيف الواعي لمؤرخي الفن الحديث بالمغرب، بشتى طبقاتهم، من عبدالكبير الخطيبي إلى موليم لعروسي إلى محمد راشدي، إلى آخرين، لبدايات عبدالكبير ربيع، بوصفها تأرجحا للـ”الما بين” و”الما بعد” قياسا إلى النفس الانطباعي، في أعماله الطليعية المقترنة بتَقَفِّي تصادي اللون مع مبهجاته في الصفحة الواحدة، داخل أعمال حملت عنوانين “دروب تطوان” و”دروب الحبوس” و”فاس الجديد”، مع أعمال خرجت من الحامل إلى العابر كعمله “مقطورة”؛ ألوان تركز نفس البطولة في السطح المتضائل للسند، حين يحمل ضغوط المحيط ويزهد في حياده، وتولعه بالكمال والوفاء، لحساب ترسيخ قلق الإبصار في استيعاب الكم.

في عمله “دروب تطوان” (1977)، رُهن السطح لتشطير تدرجات الزرقة في الهيئات، لكي تبدي خيالاتها في معاكسة الضوء واقتحام التعرجات، ثمة شبه خريطة لتناظر أحجام البياض في مدارج الخفوت أمام مقامات الزرقة الباهتة. مكعبات ومستطيلات ومثلثات ناقصة وأخرى عشوائية تكون معالم العمق الموضوعي، لمن عبر يوما في زقاق مدينة، وانتهى دونما ضجيج ولا هوية، ولا خروج عن الحجم. بيد أن ما يوحي منذ الوهلة الأولى بأن ثمة قَصْدا للخروج من الكمّ إلى هندسة المثال، هو سلوك اللحاء اللوني على حامله، لا تكون الاستقامات عمودية مشدودة لتمثيل الأجساد في سعيها إلا حسابا لوضع القائم في المقام، فلا يَمْثُل السائر في دروب المدينة إلا استجابة لما كانته تلك المماشي في خيال صانعها، هي أثر مؤجل، وحين حان أوانه ترجمه اللون والكتلة والتقاسيم. والشيء الأكيد أن الملامح كلها اختصرت في الامتداد القاطع، لتدرجات الأزرق في البياض. ذلك ما تقوله على نحو جدلي مقابلٍ لوحات “دروب الحبوس” و”فاس الجديد”، حيث يطل البياض بما هو فراغ الكم، الذي يشتهي الظلال، نورانية تلغي الامتلاء ليكون الأثر في الحنايا، خطوطا تتشرب مقامات ما بعد الرمادي وما بين تدرّجات الأحمر والأزرق والأسود… لا تكون اللوحة خارج الكم إلا لكي تصنع خروجا، يكثف جدلا لامرئيا، بين مكونات ما هو مركزي، حين تضحى نسقا محسوبا في المساحة، ليس نقطة ولا حركة ولا سكونا وإنما ما بينها وما بعدها.

في لوحة فارقة من نهاية الستينات، الحاملة لولع المحو والعبور في تجربة عبدالكبير ربيع ثمة عمل حمل عنوان “مقطورة”، عربة يقطرها جوادان، كثفت رحلة الخروج من الكتلة والكمّ إلى الصفة، شيء شبيه بتفاحات سيزان، حيث اللون ينقل ثقل المحيط، وحيث يقول الظاهر دوال أبي حيان “مبدأ الجوهر الصورة والمادة، ومبدأ الحكم النقطة والوحدة، ومبدأ الكيف السكون والحركة” [2]، وهو ما تتحايل عليه استكانة اللون المُغَبَّش على معبر لا يقين له، يجتبي ما بعد الوقت في تثبيت برازخ الظلال، هي الحركة والخروج من الثبات والمعدن وجبلة الانتقال. وهل يكون الانتقال إلا زمنا؟ يبدو رهان ربيع منذ البدايات على سؤال الطيف الثابت، أي الخيالات المستقرة، المجردة من الانتماء لعصارات الوقت، في اللوحة لا تعوزنا الاستدارات، ثمة مقطورة يجرها جوادان، هما جزء من امتحان الكمّ، الذي ثبتته الحركة في اللون والضياء، فلا حركة خارج إدراكنا لكُنْهِ تَجَلّيها في فهمنا وتحمّلنا، لذا كانت ما بين دروب الحبوس وفاس استجابة لوعي الاستدارات، في الوجوه والأجساد والجدران، ثم استقامتها وفراغها من ملامحها، وتعبيدها القاعدة لاسترسال السطور المنطلقة خارج الشكل.

لقد كانت أبجديات ما بعد الاستدارات والاستقامات الملونة بأثر المحيط، تستهدف التخلص من ثقل الكتلة، شخوص قادمون من صلابة السواد دون رهان على التمثل ولا على الفناء، لإعلان قناعة تشبه تلك التي أبداها رونوار في تعقيبه على عمل بيكاسو “لم يعد هناك من يستطيع استخدام الأسود دون أن يحدث فجوة في اللوحة، إنه ليس لونا، لكنك جعلته الآن ينطق بلغة اللون” [3]، وتدريجيا يُستدرج المعبر خارج اللون، وفي فيئه الثقيل المغبش للهوية والمَعْلَم، نحن لا نعرف شيئا، في البداية، قبل أن نعلن خضوعنا لما تقوله الأشباح في استسلامها لوضع التكثيف اللوني. في النهاية ثمة إصرار على تخطي أسيجة الكتلة التي تعوّضها المساحات.

مدونة التسطير والتدوير

فنون

تحمل الأبجدية في جوهرها رهانا على نقل ما في الأذهان والخواطر، إلى تدوين على سطوح ظاهرة، مسعى لا يتخذ له منحى مضبوطا ومنتهيا في شكل الحروف على الصحائف، وإنما في تمثل الراقم للقول، وسعيه لاستيضاحه أو تعقيده، تحسينه أو تقبيحه، إبراز حوافه أو إخفائها، يتعلق الأمر في هذا الصدد برغبة “تعيين” للدوال الحاملة للمعنى، بما هي تصرف في رقعة ذات كنه بصري، وفي عملين حملا عنوان “الله” وضع الكاتب/الفنان عبدالكبير ربيع الحبر في ارتباك اللايقين، على بياض السند المضاعف، على نحو يرهب رغبة تليين الانحدارات، يتعلق الأمر بعملية إيجاد نظير لتخطيط كلمة “الله”، مع رغبة في الإفضاء بما يحفُّها من توتر في الذهن واليد، ثمة تربيع وتدوير لتعيين الإدراك، في العمل الأول تتالى التقعير من نقطة انبثاق لما يشبه ألفا، بتضاعيف امتداداته في اللام، فيبهت الشكل المثالي للتعيين الناقل للفظ، ويبرز أقرب ما يكون إلى توقيع، يخط تحته ثلاثة أسطر، بينما يدغم العمل الثاني، الحامل للعنوان ذاته، الألف واللامين في تعقيف مسنون ينتهي بتربيع للهاء، بينما تترقرق من حواف اللفظ المسطر، دموع الحبر، شكل يحاكي شغفا بنقل الملتهب في الصدر إلى بياض الصحائف، حيث غاب الاكتمال الحرفي. لكن التقعير والتحديب، المنظورين، يترجمان أيضا قدرة المدونة الحرفية على التجرد من طبيعتها، وأصلها، وتشوفها الدائب إلى تخطي السكون والثبات إلى الحركة، لاسيما في اتصالها بمبدأ “الاعتقاد”، وقد أورد ابن خلدون بصدد هذا الانتقال، العبارة التالية “وبيانه أن في الكتابة انتقالا من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس؛ فهو ينتقل من دليل إلى دليل” [4]، ولعل في إدراك الاقتران بين وظائف “رسم الكلمات” واستحضارها في الخيال، وشرطها المعنوي، ما يقرّب مسعى ربيع، من إعادة صوغ مبدأ “التسطير” بما هو شكل للكتابة منذور للتجاوز.

بالطبع يمكن النظر إلى العملين في بعدهما المتصل بإعادة إنتاج تداخلات “صورة اللغة” أي هيئتها المتعينة، باعتبارها نسيجا لترددات طبقات الكلام المجتمعي، بمقاماته المختلفة، وفي الفوارق المنتسجة في استعمالات الألفاظ والكتابة، ومن هذا الافتراض يتأتى للناظر والمؤوّل أن يصل الصوغ الفني لمبدأ التسطير (ومن معاني التسطير في العربية الكتابة) بمؤثرات الشكل العام لاستعمال الأبجديات عبر اللغات، فيدرك قصد الفنان في حديثه عن تأثيرات اللغات الشرقية (اليابانية والصينية..) لكن الفهم هنا سيبقى مفصولا عن جذوره الراسخة في إدراك فقه القول وقواعد التسطير في ثقافة ارتبطت في شق كبير منها بنسخ “المصحف” وما اقترن به من تنزيل بصري للعربية ودوالها ومسالك رمزها في تبيين البلاغة.

بناء على هذا المقترب يمكن الانتقال من صيغ التعيين للكلمات ومنها “الله” في العملين السابقين إلى الصبغة الغالبة على مدونة الفنان الرمزية، حيث تتجلى “الأسطر” متراكبة ومتقاطعة تدغم الحواف ببعضها، في استقامات عمودية وأفقية لإحلال التربيع محل التدوير تارة، أو التكعيب محلهما تارة أخرى، مع إبراز الفراغات في التقاطع، لتكوين معالم ما بعد الأبجدية الظاهرة، ومن ثم يمكن فهم طبيعة الوسم الذي أطلقه ربيع على بعض هذه الصيغ الصباغية المتلاحقة، إذ عنونها بـ”تكوين”؛ أي إخراج السطور من جبلّتها، وإعادة تخليقها على السند، حيث تونع السطور والتربيعات والاستدارات من سطح أبيض في الغالب، أو أبيض مكدّر بلون الصحائف الصفراء، ثم متواليات يتشرّب فيها بياض السطح مقامات قزحية، وتدرُّجات مزدوجة أو ثلاثية الألوان، وتتخلل أغلب تلك الهياكل نقطة في البؤرة، خضراء أو حمراء أو صفراء أو زرقاء، نقطة واحدة لتجلي الفارق، شيء شبيه بتوشية خاطفة في عمق مخطوط مكتسح بالحبر. وسرعان ما نعيد تقليب قاعدة الصلة بين تكوين الكلمات والأسطر، ومدونة تشكيل الدوال بما تواضع الرائي على فهمه، وما غاب عنه، وما قد تحتمله الكتابة من إيغال في تجريف ملامح الكلمات. يمكن هنا النظر إلى العديد منها بما هي تنويعات على العملين السابقين المُفْشِيْين لسرّ التسطير، لاسيما حين تحوم تعرجات التخطيط الأسود على مدار مقفل، يكون في كل مرة تهويما حروفيا لحرف “الهاء”، ويزهد الفنان في منحها عنوانا؛ ففي إحداها تحتوي الدائرة أربعة خطوط، وتنغلق استدارتها البيضاوية المرتبكة على ألف في الخارج جهة اليمين، مع نثار حبر في أعلى الدائرة وترقرقات له في الأسفل، هو صيغة متروكة لبداهة المجاورة والتصادي مع ما احتفظ به الذهن من نزوع إلى إعادة تسطير اسم الخالق، وتجريب إعادة تخليق المكتوب، محوا وتجريفا للحدود وتكييفا للحركة والسكون.

ولأن التكوين لا اكتمال فيه، كتابة وصورة، حركة وسكونا، فإن الإيهام بالنقصان مما يؤرق عمل عبدالكبير ربيع، تعليم الناظر أن ما نسعى لحصاره بالأصباغ وبالحبر وبالأسطر، مغتن بالنقص الموحي، والارتباك المولد لاحتمالات السبك، فتتجلى الأعمال في بنيات مكتملة لقول “النقصان” وإنفاذ أثره، كأنها مجرد احتمالات تبرعمت في تصاميم تسطير يشتهي التحقق، وينسكب من جنباته فيض التلوين، تصاميم كُشِف عنها النقاب على نحو خافت، فبدت محفوفة بكل الأسيجة الحافظة للمعنى من التبدد.

فَـيْءُ الفُروعِ على الأُصُول

فنون

 في مقطع من كتاب المزهر للسيوطي، يقول “الحقيقي يمضي لسننه لا يُعترض عليه، وقد يكون غيره يجوز جوازه لقربه منه” [5] ولعل جدل الإضمار والتبيين في تكوين الأعمال البصرية، في اتصالها بتقاليد الكتابة، هو ما جعل عبدالكبير ربيع، يرتهن للوجود البرزخي، بين حدود المؤقت والمطلق، والعابر والمقيم، وستحيل الأعمال على بعضها في شتى مقاماتها التجريدية أو الناظرة إلى المحسوس، قصاراها إعادة تمثيل وقع الظلال على الكتل، بعد محو السُّطوع اللّوْني، وتجاوزه إلى العمق، شيء شبيه بما يشخُص للعين في الصور الشمسية للأبيض والأسود، حيث ترسم التقاسيم بالنور والظلال، خارج عنفوان البروز. وفي هذا السياق، يتضح أن القصد هو إدراك الأصول و”الماهيات”، قبل امتداداتها وفروعها، وما قد تتشرّبه من سمات مبهرة للرائي؛ أصول الأجساد والأشجار والعمائر والصخور والماء وحتى اليباب. ذلك ما تنبئنا به سلسلة أعمال تشخيصية أنتج بعضها في العشرية الثانية من هذا القرن، لا تشبه في سعيها ما أنتجه في ستينيات وسبعينات القرن الماضي من أعمال تراهن على الخروج من الكمّ إلى اللون، وإنما تجاور تجربة التسطير وتنهل من نسوغها. هو تحديدا ما نجده في لوحات “الصخور السوداء” و”بولمان” و”دعاء جليل للتقاسم” وقبلها في “درس شجرة”.

في عمل حمل عنوان “وسم – 7” (2018)، تنتصب الجذوع العاتية لشجر غابة الصنوبر، متجاورة، متشابكة الفروع والأغصان. في مركز اللوحة ثمة شجرة قُطْب، بارزة في المنظور التوزيعي للكتل على مساحة السند، تبدو داكنة، مُسَرْبَلَة بفيء ما يحف جوانبها، من امتداد غابوي، وتتشرب غلالة السواد المتأتي من تداخل غصون الصنوبر، تلوح على يسارها سبع شجرات متباينة الامتلاء، يميز الناظر بينها جدعا ضامرا، تبدو مُرقّشة في استوائها أمام الدفق النوراني، الذي يتخلل شبكة الغصون في الأعالي، واسِماً خرائط الشعاع في الجذوع المتراصة. وعن يسار الشجرة القطب سبع شجرات أيضا، تبدو مستقيمة في تواترها، تنقل الانكسار المناقض للضياء، حيث يهيمن الظل على الجذوع. تتشابه الأشجار في تجاورها، وفي استقامتها وفيئها، وفي ارتهانها للدفق الشمسي في السماء، وفي نهوضها من تربة تنتأ من أديمها الصخور، وقد خط الرسام على صخرة منها بالأحمر رقم سبعة؛ تتجلى الصلابة الأسطورية لماهية الغابة، شجرا وحجرا وروحا موحشة، و أَوْهادَ تيهٍ، هي ما ينبعث  للوهلة الأولى من تلوين السواد الرصاصي وتشخيصاته للهالات، بيد أن ثمة أيضا الفيء الكبير للغابة على الكون، (في العربية الفيء هو الظل، لكنه يعني الغنيمة أيضا)، الغابة حجاب وملجأ، وكنف للكائنات التي تتشابه في النهاية في جبلتها، وارتهانها للشمس والتربة، قبل أن تصطنع الحضارة المقامات. وقبل أن يوسم البشر (وربما الشجر أيضا) بميسم الهويات والأعراق والجغرافيات والعقائد. تنتصب الشجرة في انشطار السُّباعيتين لتنوب عن اللامنتهي المفارق لضآلة الكائنات.

يفصح العمل البصري هنا عن جوهره، على نحو طباقي: فهو ما قبل “الوسم” و”ما بعده”، في كينونته الخالصة، وتشوفه إلى البقاء، ومجابهة الفناء، تقول الخطاطة الصورية معناها بحقيقتها، كما قد تقوله بمشابهاتها ومجاوراتها المجازية، هي لوحة للتصاريف والأرض والشجر والصمت، والبدائية الساكنة في جوهر الفرد.

تركيب

فنون

لقد أنجز عبدالكبير ربيع حلقات مشروعه الفني، برغبة تبديد الوهم عن الأثر المخفي للكتابة، ولظلال المعنى (حملت أغلب كاتالوغاته عناوين متصلة بالظلال “علامات ظل”، “حالة ظل”، “دلائل ظلال”…)، ولم يكن تَوَلُّعه بالسّواد إلا لحاء لمسعى تخطي منطقة البرزخ الرمادي، بنسخه وإزالة أقنعته، وشأن فنانين طليعيين عديدين في خريطة الفن العربي، كان التحول من مقامات تمثيلية شتى مظهرا من مظاهر الاستئناف الأسلوبي، بتطويع الأداة والمنظور وأشكال السند واحتمالات التكييف المادي للوحة، ما بين الصباغة والرسم والكولاج والحفر والليتوغرافيا…، بمقدار ما كان تغلغلا في نقل الولع بالأسئلة الكبرى للفن والحياة: الكم والحرية والسكينة والامتداد والمطلق ووحدانية الفرد، أسئلة لا يمكن وضعها في قالب “الروحانية” فحسب، فهي متصلة بجوهر هندسة القيم أيضا، ولها جذورها في النظر العقلاني العربي، في نثرياته الكبرى، ولذا كان ربيع منغرسا في ذلك التراث اللفظي، بقدر تماهيه مع صورة الوشّاء والمنمنم القديمين، ومهاراتهما في تجريد الحسي وتجسيد الغائب. ولذا مَثّلت مُدوَّنته الرمزية وأعماله البصرية إحدى أبرز إنجازات الفن المغربي الحديث والمعاصر.

هوامش:

[1] تحقيق: حسن السندوبي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، 1992، ص 156.

[2] نفسه، ص 156.

[3] نقلا عن: فرانسواز جيلو وكارلتون ليك، حياتي مع بيكاسو، ترجمة: مي مظفر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000، ص 261.

[4] المقدمة، تحقيق: عبدالسلام الشدادي، بيت العلوم والفنون، الدار البيضاء، 2005، ص 312.

[5] شرحه وضبط حواشيه: محمد جاد المولى وعلي محمد البجاوي و محمد أبوالفضل إبراهيم، المجلد 1، دار الفكر، القاهرة، (د.ت)، ص 355.

فنون

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.