إحداثيات غرفة

مع ذكرى من الصيف الماضي
الثلاثاء 2020/09/01
لوحة: خالد تكريتي

هدير المكنسة الكهربائية يصلك متقطعاً من الغرفة المجاورة، ويشبه، مع بعض التعديل، صوت صفارات الإنذار في حرب نسيتَ إن كنت قد عشتها حقاً، وفي حياة أخرى، يمكن أن يكون تجسيداً حياً لصداع مزمن. لو نهضتَ الآن وقفزت من الأرض إلى المنضدة، ثم قفزت مرتين أو ثلاث مرات في الهواء ثم عاودت القفز من المنضدة إلى الأرض، فلن يراك أحد، ولن يتغيّر شيء في الإحداثيات التي تمنح هذه الغرفة مكانها المحدّد في العالم.

إحساس جميل، تفكر، دون أن تعرف ما هو بالضبط. تتذكر ما قالته لك أمك ذات صباح في الصيف الماضي، “هناك ضجيج دائم في الغرفة”، لكنها لم تستطع أن تحدّد نوع الضجيج ولا مصدره، ولم تشأها أن تعتقد أن الضجيج في رأسها فحسب، فقلت لها إنه ضجيج المدينة، وهو أمر اعتيادي في هذا الوقت من اليوم، مع أنها كانت السادسة والنصف فجراً.

وها أنت جالس هنا، لا تفعل شيئاً، ولا تفكّر بفعل شيء. ليس الوقت مناسباً لأغنية، بما أنك لا تعرف متى سيتوقف هدير المكنسة، لذا تجلس بصمت، محدقاً في الهواء، بينما الضوء يملأ الغرفة تدريجياً مثلما تملأ المياه مغسلة مسدودة. تقف وتقفز مرة واحدة، على السجادة السميكة، ثم تقفز مجدداً، في مكانك، بما أنها فكرة سخيفة جداً، وغير مضمونة النتائج، أن تحاول القفز إلى المنضدة.

ارتطام

الارتطام بفكرة لا يختلف كثيراً، خصوصاً في درجة الألم، عن الارتطام بشخص، بجدار، بشجرة، بعامود إنارة ما احتمال أن يرتطم المرء بجثة؟ واحد بالمئة؟ أقل.. أكثر؟

ما احتمال أن يرتطم المرء بجثته؟ كأن يكون سائراً في زقاق إيطالي، في نابولي مثلاً، حاملاً خريطة يفترض أن تقوده إلى أقدم مطعم يقدم البيتزا التقليدية، حين تسقط عليه جثته من شرفة متوارية فوق حبال الغسيل المنشورة، كفكرة أليفة عن السعادة، بين المباني القديمة.

ما احتمال أن يرتطم رجل عار بامرأة عارية في الشارع العام؟ ما احتمال أن ترتطم سيارة برجل عار أو بامرأة عارية في الشارع العام؟ ما احتمال أن يرتطم حشد من العراة بحشد آخر من العراة؟ ما احتمال أن يرتطم الراديو القديم بمكيف الهواء الجديد؟ ما احتمال أن يرتطم سوبرمان بنجيب محفوظ خلال عودته إلى البيت من زقاق المدق؟

أعرف شخصاً ظلّ يرتطم بنفسه، وفي الوقت نفسه ظلّ يحاول تفادي الارتطام بنفسه. لذلك، من الناحية الفلسفية، سواء ارتطم بنفسه أم لم يرتطم، فإنه في حالة ارتطام دائمة بنفسه. أما العالم، وغياب العالم، والحب، والموت، فقصة أخرى.

إذا مشيت بصورة مستقيمة نحو المرآة، فلن ترتطم بالمرآة. سترتطم بدموعك. وستشعر بألم شديد في عينيك. فرضيات معقدة يناقشها علماء الارتطام حول العالم:

قاعة جامعية فارغة، مقاعد شاغرة تمارس الجنس الجماعي مع بعضها ومع النوافذ والأبواب. مقاعد ونوافذ وأبواب أخرى تقف بمحاذاة الجدار وتتفرج. كم حادثة ارتطام إذن يحتمل وقوعها في هذه القاعة؟

موجة ترتطم بموجة أخرى. الأب يقول إن ذلك يحدث طوال الوقت. الأم تقطب جبينها وتستعيذ بالله. الجدّ الخرف يذهب إلى المغسلة للقيام ببعض التجارب. الطفل الضرير يقول إن هذه الصورة تذكره برجل يمشي دائرياً إلى الخلف حتى يصل إلى ظله. ولا يصل.

ماذا عن الأشجار؟ الورود في قصائد ريلكه ترتطم دوماً بالسماء، بالضوء، بالأصص، بالطاولات، بالأفكار والمشاعر البسيطة والمعقدة، ببعضها بعض.. لماذا إذن لا ترتطم الأشجار ببعضها؟ لماذا لا تكون تلك الرعشة الخفيفة على سطح بحيرة في المساء، تعبيراً عن الألم الصامت الذي تشعر به شجرة عندما ترتطم، بينما تسير في نومها، بشجرة أخرى نائمة؟

الذكريات أيضاً حادثة ارتطام مروعة. هكذا، يكاد لا يمرّ يوم لا أرتطم فيه بأبي: أبي في البيت، أبي في الشارع، أبي يقرأ الجريدة، أبي طفل يجرّ عبر الحدود عربة محمّلة بأشياء تموت قبل أن تصل، أبي في المطار، أبي في السجن، أبي في القبر… أبي وردة أبدية ترتطم بالضوء الأبدي في قصائد ريلكه.

الجذور، تحت الأرض، ترتطم بالجذور

المياه، تحت الأرض، ترتطم بالمياه

الأسماء، تحت الأرض، ترتطم بالأسماء

العظام، تحت الأرض، بيضاء ناصعة كالمرايا

حين ترتطم ببعضها، تزداد بياضاً،

صوت لامع يصرخ في أعماق الليل،

جيفة عصفور ميت ترتطم بالسماء.

رجل يخرج من ذاته

يحمل كرسياً صغيراً، بالكاد يتسع له، ويجلس في الشمس، خارج ذاته، وكلما مرّ أحدهم وسأله مستغرباً: ما الذي تفعله خارج ذاتك؟ يجيب “بات المكان شديد الازدحام في الداخل”، وأحياناً أخرى يجيب “البرد شديد في الداخل”.

بعد فترة، يقرر الرجل الذي خرج من ذاته أن يمضي في نزهة، لذا يحمل كرسيه ويمشي، وبعد مدة يشعر بالتعب، فيضع كرسيه على الرصيف، وبعد قليل ينظر حوله فيرى مكاناً غريباً تماماً، وحين يبدأ المارة بالنظر إليه باستغراب شديد، يفكر في سره، “يبدو أنني ابتعدت كثيراً عن ذاتي”، فينهض ويبدأ رحلة العودة إلى المكان الأول، لكنه يجد نفسه، كل مرة، يبتعد أكثر، حتى يوقن أنه لن يصل أبداً إلى ذاته.

تمطر، ثم تمطر بشدة. يدخل أخيراً إلى متجر ملابس مستعملة، يبيع ملابسه مقابل قبعة ضخمة يضعها على كامل جسده ويخرج مجدداً إلى المطر، ويواصل رحلة البحث عن ذاته.

وهكذا لا يعود أحد يسأله عن اسمه أو عما يفعله هنا، إذ كلما التفت أحدهم نحوه، لا يرى سوى قبعة ضخمة، تمشي وحيدة تحت المطر.

بعد الظهر، أمام مشهد البحر، في أبوظبي

(إلى م. م)

“كان الهاتف يرنّ بلا توقف”، يروي لي الصديق بينما نسند ظهرينا إلى الكنبة، تفصل بيننا زجاجة فودكا شبه فارغة، ناظرين إلى البحر المفتوح أمامنا؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.