إشكالية التواصل في المسرح

الأربعاء 2021/09/01

يكشف السجال الذي شهدته النظريات النقدية الحديثة عن جدل طويل حول وجود التواصل أو عدمه في المسرح على غرار التواصل اللغوي، وذلك لأن عملية التواصل تفترض تبادل الأدوار بين قطبيها بحيث يتحول المُستقبِل بدوره إلى مُرسِل، وهذا ما دفع بعض الباحثين، وخاصة جورج مونان، إلى نفي وجود التواصل في المسرح كتبادل متناظر بين القطبين، وفي الاتجاهين، على الرغم من تلازم الوجود المادي للمُرسِل والمُستقبِل معاً، وتلازم التطابق الزمني لعملية الإنتاج المسرحي وإنتاج التواصل، كما بين دو مارديني في دراسته حول التواصل، لكون المتلقي في المسرح ليس مُستقبِلاً يتحول إلى مُرسِل كما في مجال الحوار العادي، وحتى عندما يبث بدوره رسالة، فإن رسالته تكون من طبيعة مختلفة عن الرسالة الأولى، إلاّ في حال المسرح القائم علي مشاركة الجمهور بشكل فعال كما في المسرح التحريضي، وخاصة بعض عروض بسكاتور، ومنها عرضه المسمي “المادة 218” (العنوان يشير إلى قانون مدني ألماني يتعلق بالإجهاض) الذي نجح في إقامة حوار مع الجمهور حول هذا القانون، بل وأحرز أيضاً تغييراً سياسياً، فقد شارك الجمهور في هذا العرض بتعليقاته، كما قدم وجهات نظر معارضة للقانون، وفي نهاية العرض صوّت ضده. وأدّى هذا العرض إلى مظاهرات وشغب في الشوارع. وكان بمقدور بسكاتور استخدام العمال من جمهوره عنصراً في عروضه، وقد سمح لهم بالفعل بأن يكون لهم دور في الفعل الدرامي. وعلى الرغم من تأثر بريشت ببسكاتور فقد نبذ هذا التحريك الهستيري للجماهير.

من أشكال المسرح القائم على مشاركة الجمهور أيضاً، مسرح الجريدة الحية الذي ارتبط استخدامه بظروف تاريخية محددة استدعت التوجه المباشر إلى جموع كبيرة بهدف توجيهها أيديولوجياً من خلال تقديم أحداث اليوم في نهاية النهار على شكل استعراض كبير، كما هي الحال في فترة كومونة باريس 1871 وما بعدها، أو تقديم الأحداث الساخنة على شكل قراءة مقتطفات من الصحف، أو عرض مشاهد تمثيلية قصيرة بهدف إعلامي أو تحريضي، كما هي الحال في بداية الثورة الروسية، أو استقصاء الظرف الاجتماعي السياسي، وخلق فرص لمعالجته، كما حدث في الولايات المتحدة إبان فترة الإصلاح في الثلاثينات من القرن الماضي. وقد أفرز هذا الشكل المسرحي أشكالاً أخرى أهمها: المسرح الوثائقي الذي ظهر في الستينات خلال الحرب الفيتنامية، وعروض الهابننغ التي اعتمدت أسلوب التعامل المباشر مع الجمهور، ودفعته إلى التفاعل مع الأحداث.

ضمن هذا السياق يرفض المنظر المسرحي الفرنسي باتريس بافيس مقاربة نظرية المعلومات، وسيميولوجيا وسائل الاتصال للعرض المسرحي بوصفه رسالةً مكونةً من علامات صادرة عن خشبة المسرح لمتلقٍ يجلس في مكان محلل الشفرات (وهو موضوع إشكالي بحث فيه كير إيلام بشكل تفصيلي)، ويصف هذه المقاربة بأنها مقيدة ومزيفة لأن المسرح ليس وسيلةً ومصدراً للمعلومات المرسلة كما يحدث في الرسالة التلغرافية، كما أنه ليس وسيلةً لفظيةً ذات طبيعة نفعية، بل إنه يظل خطاباً ميتاً من دون التناول التأويلي لعلاقة (القارئ/المتلقي). ولذلك يؤكد بافيس على عدم إمكانية تطوير دراسات التلقي على أسس سايكولوجية، أو اعتبارات اقتصادية اجتماعية تقام من خلال المسح الشامل للجمهور المتلقي، فعلى الرغم من أن معرفة المؤثر الذي يستجيب له المتلقي، والمعايير الاقتصادية التي تجعله يصنع ذلك مسألة لها أهميتها، فإن هذه البيانات الإحصائية الكمية لا تلقي الضوء على طبيعة العلاقات الأيديولوجية الجمالية التي تجذب انتباهه.

إن تلقي العمل المسرحي، حسب بافيز، شيء مباشر ومفيد، ولكن بسبب طبيعة كون المتلقي مواجهاً للعرض المسرحي ربما ينشأ تصور أن علاقته بالعرض علاقة خارجية ثابتة، أو أنه هدف لإشارات جاهزة صادرة من خشبة المسرح، في حين أن العكس هو الصحيح، إذ تجب محاولة إيصال هذه العلاقة إلى سيطرة تبادلية بين خشبة المسرح والمتلقي، سواء كان التفاعل يحدث مع العرض، أو مع النص في الوعي غير الكامل للمتلقي، فلا يزال موقع المتلقي المواجه للعرض هو أهم شيء (أمام – في داخل – منفصل عن)، في حين أن العمل القائم على موضوع المعرفة هو الذي ينشئ العرض.

وفي ضوء ذلك يَعدّ بافيس الحديث عن وسيلة اتصال بين المتلقي وخشبة المسرح إساءة لاستخدام المصطلح اللغوي، فإذا كان المتلقي يستجيب للرسالة الصادرة من خشبة المسرح، والمحددة بنظرية المعلومات، ونظرية وسائل الاتصال فما هي شروط الاستجابة؟ وكيف يحدث التبادل بين المتلقي والممثل إذا كان لكل منهما منطلقاته الخاصة؟ ولكن بافيس لا يقدم إجابةً وافيةً على هذين التساؤلين، بل يكتفي بذكر نقطتين تتسمان بالعمومية هما:

1- انتقال القصة من خلال المنظومات الدلالية المختلفة.

2- الحدث، بمعنى كسر الإيهام بين المتلقي والممثلين الذين تكون أجسادهم مثل الدعائم المادية للقصة (وليست القصة نفسها).

كتب

وإذا كان ثمة أيّ تبادل بين المتلقي والممثل فإنه يحدث في أندر الأحوال (المسرح الحي مثلاً) حيث لا يقوم الممثل بأداء دور، بل يقدم نفسه للمتلقي، ويتصل به على مستوى وجهات النظر حول فن الممثل.

ويعزو بافيس عدم قدرة سيميولوجيا وسائل الاتصال، التي تشغل نفسها بتشكيل العلامات المنقولة من العمل الفني، على حصر التبادل بين المتلقي وخشبة المسرح إلى كونها لا تدرك هذا التبادل كعملية جدلية بين المتلقي وخشبة المسرح الواضحة تماماً أمامه. فهذه المقاربة تقطع الدائرة التأويلية، إذ لا تمكن إقامة تبادل مباشر (سواء كان الفعل كوميدياً أو تراجيدياً) إن لم يشعر المتلقي بأنه قد أستثير من رؤية القيم والإجراءات الفكرية والجمالية، وبذلك تفشل في أن تتطابق مع إدراك المتلقي العادي لها، وتزعج أدوات الفهم عنه، فحينما يقوم بمشاهدة فاصل كوميدي لن يفهم شيئاً، ولن يضحك على شيء إن لم يواجه، هو بنفسه، خشبة المسرح ككل بمعاييره الذاتية، وشعوره بالتفوق على الشخصية الفجة الماثلة أمامه على خشبة المسرح، وفي الوقت نفسه تقييمه لهذه العلامة. ومن الواضح أن بافيس يتبنى في رؤيته للكوميديا هنا نظرية نورثروب فراي، التي تذهب إلى أن القارئ، أو المتلقي يرتفع، في المرحلة الخامسة من مراحل الكوميديا (ويقصد بها الكوميديا التي يكون عالمها أشد إيغالاً في الرومانسية) فوق مستوى الفعل، ويراه من وجهة نظر عالم أعلى وأنظم.

وعلى النقيض من آيزر، الذي يرى أن وضع المتلقي في موقع منفصل عن الأحداث يمكنه من أن يرى نفسه كلاعب لشخصية كوميدية، وهو دور تدفعه إلى القيام به خبراته السابقة في المشاهدة، يؤكد بافيس أن وضع متلقٍ ما في سياق متوحد مع الشخصية الكوميدية يخلق نوعاً من التبادل مع خشبة المسرح: إنسان يضع نفسه مكان الشخصية.

ويذهب السيميائي الإيطالي كير إيلام إلى أن المتلقين يفوضون، إذا جاز التعبير، الممثلين على المسرح بمبادرة الاتصال، ويعقدون اتفاقاً يمنحون بموجبه هؤلاء الممثلين نسبةً مرتفعةً من النطق. ويملك هؤلاء المتلقون حق الانسحاب من الاتفاق لحظة يكتشفون أن الممثلين يسيئون استعمال المبادرة الموكلة إليهم. ويوضح إيلام، في هذا السياق، أن لرد فعل المتلقين تأثيره في العرض نفسه، وفي تلقيه معاً، فاتصال المتلقي – المؤدي يمكن أن يؤثّر، في غياب أيّ تأثير آخر، في درجة التزام الممثل بعمله. ويحدد لهذا الاتصال، بوصفه عاملاً سيميائياً، ثلاثة تأثيرات رئيسة مهمة بالنسبة إلى تجانس الاستجابة الإجمالي، هي: الإثارة (الضحك في ناحية من القاعة يثير رد فعل مماثلاً في ناحية أخرى)، التثبت (يجد المتلقون دعماً لاستجابتهم من الآخرين)، والتوحد (يلاقي أحد المتلقين تشجيعاً فيتنازل، نتيجة لذلك، عن وظيفته كفرد من أجل الانخراط في وحدة أكبر يعدّ نفسه جزءاً منها).

ويعزو إيلام الارتباك الرئيس الذي أثاره إنكار مونان للتواصل بين المتلقي والعرض، فضلاً عن السبب السابق، إلى تحديداته نفسها للاتصال، وللشفرات التي يعتمد عليها، فقد أصرّ على أن يكون المرسِل والمتلقي على حد سواء في وضع يسمح لأيّ منهما أن يستخدم شفرةً واحدةً، ومجموعةً من القنوات المادية، ومن ثم بنقل رسائل متشابهة، في حين أن التصور الأشمل لعمل الاتصال، الذي يعدّه إيلام تصوراً مقبولاً بشكل عام اليوم، هو أن يكون المتلقي ملمّاً بشفرة المرسِل وكفى لكي يصبح قادراً على فك شفرة الرسالة. وفي ضوء هذا التصور يعتقد إيلام أن المتلقي المجرب إلى حد معقول يستطيع أن يفهم العرض بلغة الشفرات الدرامية والمسرحية التي يستخدمها المؤدون.

ولكن على الرغم من اعتراض إيلام على وجهة نظر مونان، فإنه يأخذ التحدي الجريء الذي أثاره على محمل الجد، فهو ينبه إلى صعوبة تحديد تعامل الممثل – الحضور، وأكثر من ذلك، إلى خطورة اعتبار العرض لغةً مماثلةً للكلام مباشرةً، ومن ثم إلى خطورة اعتباره موضوعاً مناسباً لنماذج تحليلية مأخوذة مباشرةً من اللسانية.

ويقترح إيلام نموذجاً للاتصال المسرحي  يبين فيه، أولاً، أن العرض المسرحي يتسبب في تكاثر عوامل اتصاله، ففي كل مرحلة من مساره يبرز مركب من المكونات الكاملة أكثر مما يبرز عنصر فرد، إذ من الممكن، مثلاً، تعيين مصادر الإعلام المسرحي في الكاتب المسرحي (حيث يكون ثمة نص درامي يشكل ما قبل – النص، ويكون في الوقت نفسه مكوناً أساسياً للعرض. وأرى أن هذه الفكرة تتعامل مع النص بوصفه بنيةً عميقةً للعرض توجد فيه بذور الإخراج، الذي يمكن أن يكون بمثابة المكون التحويلي: بنية سطحية)، استناداً إلى النظرية التوليدية التحويلية في علم اللغة، كونه يُشتق من المكون الأساسي، الذي يشكل تنظيماً للمسرحية على المستوى المجرد قبل حصول أيّ عملية تحويل تتوافر على معطيات العرض المرئية والسمعية التي تتمثل بالبنى الإخراجية المضافة، أو المبتكرة، أو المستبدلة، أو المطوَّرة، أو المرجعية. وينتج عن الجمع بين المكونين: الأساسي والتحويلي مكون ثالث هو المكون التركيبي. ويضيف إيلام إلى مصادر الإعلام المسرحي كلاّ من: المخرج الذي تحدد قراراته وتعليماته اختيار المرسلين إلى حد كبير، وكذلك الشكل الذي تأخذه إشاراتهم، وتشفير الرسائل، ومصمم الديكور، ومصمم الإضاءة، ومؤلف الموسيقى، ومدير المسرح، والتقنيين، والممثلين أنفسهم بوصفهم صانعي قرار، قادرين، ومبادرين، وموارد أفكار. وعلى ذلك لا يمكن الاستغناء عن أيّ من هذه المصادر الممكنة التي تكون لها جميعاً تأثيراتها الكبيرة على العرض في أشكال المسرح الأكثر غنى، حيث تقوم أجساد الممثلين وأصواتهم فيه بدور المرسلين، في الدرجة الأولى، إضافة إلى خصائصها المجازية المجاورة (كالملابس واللوازم الأخرى)، ثم سائر عناصر المجموعة التقنية.

مسرح

ونتيجةً لتكاثر المكونات والأنساق في العرض المسرحي، فإن من المستحيل، حسب إيلام، التحدث عن رسالة مسرحية مفردة، بل عن رسائل متعددة تستخدم في آن واحد من أجل إنشائها قنوات كثيرة، أو ضروب كثيرة من ضروب استعمال قناة في الاتصال تجتمع في تركيب جمالي، أو إدراكي. ويمكن للمتلقي أن يفسّر هذا المركب من الرسائل على أنه نص موحد بما يتفق والشفرات المسرحية والدرامية التي في حوزته، ويمكنه أن يقوم ، أيضاً، بإرسال الإشارات صوب المؤدين (الضحك، التصفيق، والهمهمة… إلخ)، على طول قنوات بصرية وسمعية، والتي يمكن أن يفسرها كل من المؤدين والتلقين كتعبير عدائي، أو تقريظ، أو ما شابه ذلك.

ولكن إيلام يستدرك هنا، وكأنه تذكر إنكار مونان للتواصل بين المتلقي والعرض، فيشير إلى بروز عامل أكثر تعقيداً في معظم أشكال المسرح، وهو كون اتصال المؤدي – المتلقي لا يأخذ شكلاً مباشراً (عدا ما يحصل مع المونولوجات، والأبيلوجات، والكلام على انفراد، والمناجاة) بل من خلال توسط السياق الدرامي، حيث يتوجه متكلم تخيلي إلى مستمع تخيلي، فما يجري إبانته أمام الجمهور هو هذه الحال الاتصالية الدرامية. وفي ضوء هذا الاستدراك يلزم إيلام أيّ نموذج للاتصال المسرحي أن يأخذ في اعتباره التواء علاقة الممثل – المتلقي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.