إيلي معلوف موسيقى عكس التيار

تعبِّر موسيقى الجاز عن سحر اللحظة، فهي مزيج من الأناقة والمرونة. يقول لويس أرمسترونغ عن موسيقى الجاز “نحن نعزف الحياة” ويضيف غاي بيدوس “لا يمكنك أن تُعلّم أحدًا حس الفكاهة، فهو مثل موسيقى الجاز تمامًا، إيقاعٌ داخلي، نمتلكه أو لا نمتلكه”.
الأربعاء 2018/08/01
إيلي معلوف يحمل بداخله مزيجًا ثقافيّا حقيقيّا

يَعتمد المؤلف الموسيقي وعازف البيانو إيلي معلوف على مزيج من الارتجال اللحظي ودقة التقنية في تقديم موسيقاه. شكلت علاقته مع الموسيقى محور حياته، بدأ العزف على آلة البيانو خلال فترة الطفولة وامتدت هذه الموهبة عبر الزمن لتجعل منه اليوم واحداً من أهم عازفي البيانو. ترك إيلي معلوف لبنان في السابعة عشرة من عمره واتّجه نحو فرنسا في رحلة لتحقيق حلم الموسيقى الذي يسكنه. هذا التعطش إلى المعرفة والإتقان دفعه إلى التسجيل في دورات للتعلم على أيدي أعظم موسيقيي الجاز مثل غاري بورتون، وكلير فيشر، ومارك ليفين، وميشيل بيتروتشياني الشهير. كما درس عالم الهارموني الواسع على يد بيرنار موري مؤسس Bill Evans Piano Academy في باريس. تشكلت لدى إيلي معلوف ذخيرة موسيقية استثنائية أثارت حماس عشاق الموسيقى الأكثر تطلباً، وجعلتهم يقبلون على حفلاته في جميع أنحاء العالم.

يحمل إيلي معلوف بداخله مزيجًا ثقافيّا حقيقيًّا. هذه القدرة على التنسيق الدقيق بين عالمَي الموسيقى الغربية والشرقية أدت إلى تعاونه مع أهم الموسيقيين والفنانين من الثقافتين على أهم المسارح العالمية. جدير بالذكر أن الموسيقي إيلي معلوف سيقدم أجمل مؤلفاته في واحدة من أهم حفلات مهرجانات بعلبك الدولية وذلك في 17 أغسطس 2018، وسيفتتح الحفل بقطعة موسيقية ألفها خصيصا للمهرجان كعربون محبة ووفاء لوطنه لبنان.

الجديد: إيلي معلوف، اللقاء الحقيقي نصله عبر الطريق الأكثر تعقيدا، هل تعتقد أن الصدفة هي التي جمعتك بالبيانو، أم أنّ اللقاء كان بديهيًّا لا يحتمل الشك؟

اِيلي معلوف: أعتقد أن اللقاء الحقيقي هو الأكثر بساطة، حيث أنّ مسار الحياة يأخذك صوبه. ناداني البيانو قبل أن ألتقيه. كان وجوده من حولي نادرًا، سمعته عبر التسجيلات والرّاديو، وأتذكر كيف كان يجذبني خلال طفولتي عبر أغاني الرحابنة، حتى تلك التي ليس له دور أساسي فيها. أتذكر أنّ أول لقاء بيني وبينه كان في المدرسة. كان هنالك بيانو قديم ملمسه قاسٍ، قد خفت أن يكون هذا هو ملمس آلة البيانو فعلا! المشاكل الميكانيكية التي كانت موجودة في آلات البيانو من حولي جعلتني أهتم بإصلاحها، وذلك بالاعتماد على مجهودي الشخصي وبمساعدة كتاب وصلني من بلجيكا؛ ما سهّل كسر الحاجز بيني وبين الميكانيك المعقد لهذه الآلة. وفي عمر السادسة عشرة حصلت أخيرًا على أول بيانو يخصني، خلال تلك الفترة تبلورت فعلا العلاقة بيننا وأخذت مسارًا مختلفًا هو الذي حدّد مصيري اليوم.

الجديد: يقال إنّ الطفل هو الكائن الوحيد القادر على الاندهاش، هنا الطفولة هي حالة استثنائية من النقاء والحساسية الفائقة، نظرتك إلى البيانو تجعلنا نحسّ بأنك تراه للمرّة الأولى؛ إلى أيّ درجة تحتفظ بالطفل داخلك لتعيش هذه الدهشة وأنت تجلس قبالته؟

اِيلي معلوف: أربط فعلا الدهشة بالبراءة والنقاء اللذين يعتبران أهمّ مكونين لشخصية الطفل. أشعر بأنه كلما تقدم بي العمر زادت دهشتي بسحر هذه الآلة. بعد كلّ هذه السنوات ما زلت أتساءل من أين ينبع نغمها وكلّ هذا الإحساس الذي يسكنها. البيانو آلة غريبة، إن صحّ التعبير، فهي تجمع بين الجانب الميكانيكي المعقد للغاية وبين إحساس عميق وعال. أحيانا، خلال عزفي، يعتريني شعور قوي بالدهشة فأقول: يا إلهي، ما أجمله! وأعتقد أنّ هذا الشعور بالدهشة ضروري ليظلّ الإنسان في حالة عطاء دون ملل.

الجديد: البيانو من الآلات التي تمتلك درجة عالية من الهيبة، حضوره يخلق جواً من الرهبة بالنسبة إلى العازف والمستمع؛ كيف استطعت رفع الكلفة بينك وبينه بهذا الشكل لنشعر بأن الآلة تخضع لك بشكل تام؟

إيلي معلوف: أشبّه اللقاء الذي جمع بيني وبين البيانو بالاجتماع بشخص مبهر، في اللحظات الأولى يشعرك وجوده بالرهبة والخوف من الخطأ، فتفتقر تصرفاتك إلى العفوية، ولكن عندما تبني علاقة قربٍ معه يصبح التعاطي ألطف وأجمل. سقوط الحاجز بين البيانو والعازف يجعل العلاقة عفوية وطبيعية فيها إجابات دون أسئلة. أريد الإشارة كذلك إلى حساسية الآلة الموسيقية عامة والبيانو خاصة، يجب التعاطي معه بشكل رقيق وبعناية فائقة دون إصرار، هذا النوع من التعامل يجعل الآلة تطاوع العازف فيهتدي إلى أسرارها وخباياها ويُخرج منها نغمًا يطرب المستمع.

الجديد: نحن لا نحس بحجم البيانو الكبير في حضورك، فأصابعك تحصره في حيّز حميميّ، ولكنها ترسل منه ألحانًا بحجم المدى؛ من منكما لملم روح الآخر وإلى أيّ درجة تشعر بالتشتت وأنت بعيد عنه؟

إيلي معلوف: لملم البيانو روحي ولملمت روحه، لأن الآلة تشبه الإنسان. هناك آلة قريبة من الروح، بسيطة بوجودها وعظيمة بعطائها، هذه الآلة تشدك فترغب في العودة إليها كلّ مرة. كما أن هناك آلات متجبّرة تجعلك تبتعد عنها. يلزمك بعض الوقت لتقترب من الآلة النبيلة لتعتادها وتعتادك. البعد عن البيانو بأهمية الاقتراب منه، ففي البعد يُخلق نوع من الشّوق الملهم وهذا الشعور يعطي العازف القدرة على العودة بطاقة إيجابية، ولكن قد يتعرض العازف إلى نوبة من الحنين والشوق إلى البيانو لا يمكن أن تهدأ إلا بلقائه. صعوبة البيانو تكمن في حجمه وثباته، فهو آلة يجب أن تذهب أنت إليها ولا يمكنك المجيء بها إليك.

الجديد: لمْستك على البيانو حاضرة جدًّا؛ هل تعتقد أن البيانو يهذّب الأيادي أم أنّ الأيادي المهذّبة تجد طريقها إليه؟

إيلي معلوف: أعتقد أنّ الروح المهذبة تجد طريقها إلى البيانو، وأنّ البيانو يُخرج الجزء الأكثر تهذيبًا في روح الإنسان ويصقله ليلمع. لا شك في أن البيانو يعطي -بمرور الوقت- أناقةً ودقةً للمسة اليدين. الموسيقى تهذّب كلّ شيء، جمال النغم النابع من البيانو ينقي الروح والجسد وينعشهما.

موسيقى

الجديد: يحتفظ تعبير اليدين كما نظرة العيون بإحساسهما عبر الزمن؛ إلى أيّ مدى تحتفظ ببراءة الإثنين معا؟

إيلي معلوف: الحفاظ على البراءة في مجتمع مضطرب إلى هذا الحدّ صعب وشبه مستحيل، لكن لحظة التواصل التام مع الموسيقى، خاصة في لحظات الارتجال، توصل الروح إلى درجة خالصة من النقاء، وهنا على الموسيقي أن يتبع مسار إحساسه وألا يحيد عنه أو يقاوم. إنّ تسليم النفس في هذه اللحظة يجعل الوصال حقيقيًّا بين الآلة والعازف والمستمع بشكل لا خداع فيه، وهذه هي قمة البراءة.

الجديد: سجلت مجموعة من موسيقاك على البيانو عام 2008؛ حدثنا عن التجربة وتأثيرها على مسارك الموسيقي؟

إيلي معلوف: سجّلت ألبوم “Through life” “عبر الحياة” في نيسان عام 2007، ولم يكن التسجيل على البيانو فقط، بل كان بمشاركة أربعة موسيقيين على آلات أخرى. التسجيل بالتعاون مع فنانين آخرين يكسب الموسيقيّ خبرة إضافية، أما تسجيل الفنان لعمل يخصه فيكسبه راحة نفسية واندفاعة إلى الأمام. يشكل التسجيل حالة من الاستقرار للموسيقيّ، هذا الشعور يجعله قادرًا على التفكير في الخطوة التّالية. تلقّيت بعد تسجيل الألبوم أصداء جيّدة وما زالت تصلني بعد عشر سنوات من صدوره.

 للأسف، لا يمكنني أن أنكر أنّ الموسيقيّ يصاب بخيبة أمل عند اكتشافه أن الإنتاج الفنيّ يكاد يكون منعدمًا اليوم، فبالإضافة إلى إدارة الموسيقيّ الفنيّة لعمله عليه الاهتمام بالجانب التسويقيّ أيضا. تعرّض الألبوم إلى مشاكل في التوزيع ولم ينل نصيبه من التسويق مثلما يجب لذا سأعيد إصدار نسخة ثانية مع إضافة مقطوعة لم تكن موجودة في الألبوم الأول. هذه المقطوعة عبارة عن “صولو” بيانو تعبّر عن لحظة ارتجالٍ عند تواجدي في الأستوديو خلال تسجيل موسيقى فيلم. كما أطمح إلى إصدار عدد محدود من هذا الألبوم على أسطوانة “فينيل” لما تمتلكه من أناقة سمعية وبصرية.

الجديد: تنتقل أصابعك بين البيانو والبزق، لا تفترق الآلتان على المسرح بحضورك، كيف جمعت بينهما؟

إيلي معلوف: إنّ العزف على آلتين مختلفتي الأفق يشبه التكلم بلغتين مختلفتين تماما، على العازف أن يعيش فترةً طويلة في بلدِ كلتا الآلتين وثقافةِ كلتيهما من أجل اتقان العزف عليهما، وأنا شخصيًا مزيج من ثقافتين؛ شرقية وغربية.

الجديد: علاقتك بالبيانو تختلف عن علاقتك بالبزق، عزفك على البيانو علاقة أخذ وعطاء، حضور كليكما قوي ومساوٍ للآخر، علاقة ندّ لندّ؛ أما علاقتك بالبزق فهي أكثر حميمية، مكانه في حضنك يجعلنا نحس بأنه متطلب أكثر وبأنك تعامله بشكل مختلف، كيف تفسر هذا الاختلاف؟

إيلي معلوف: العزف على البيانو من أغرب وأجمل ما يمكن رؤيته على المسرح، عازف البيانو يتصل بهذه الآلة الهائلة مستخدما أطراف الأصابع وأطراف القدم، وهنا تكمن قمة الرّقة والدقة في الوقت نفسه. من خلال هذه اللمسة تُبنَى علاقة عميقة مع الآلة وتنسينا ميكانيك البيانو المعقد مترجمة إياه إلى نغم سلس. كما أعتبر البيانو من أكثر الآلات الموسيقية تأثيرًا على الفرقة بأكملها، أشبّهه على المسرح بالسفينة الشراعية والعازف هو قبطان هذه السفينة الذي بإمكانه تغيير مسار الفرقة. أما العلاقة مع البزق فهي مختلفة كليا، أشبهها باجتماع روحين هشّتين لتخلقا كائنًا قويًّا. العزف على البزق يعطي إحساسًا مختلفًا بالقرب حيث أنّ إصبع العازف يلمس الوتر مباشرة دون وسيط. الفرق بين الآلتين هو أنّ للبزق لونًا خاصَّا يأخذك إلى أرض معينة وإلى شعور بالانتماء إلى ثقافة تلك الأرض، بينما بات البيانو آلة عالمية تتكلم جميع اللغات وتحتضن جميع الثقافات.

الجديد: يضيع المستمع عند الحديث عن الآلات الوترية ذات العنق الطويل، هل يمكنك توضيح الفرق بينها؟

إيلي معلوف: من الصّعب على المستمع أن يفرق بين عائلة الآلات ذات العنق الطويل لاقترابها واختلافها في نفس الوقت. أنظّم منذ سنوات محاضرات من أجل شرح الفرق بالتفصيل، حيث أخذني ولعي بالبزق إلى التعاون مع العديد من صنّاعه. جدير بالذكر أنّ امتداد هذه الآلات شاسع ثقافيًّا وجغرافيّا ويصعب شرحه في جواب قصير.

الجديد: يسجل التاريخ مرور العظماء ولو بعد زمن طويل، لكنه ينصفهم، إلى أي مدى تثق بأمانة التاريخ اليوم وسط هذه الفوضى الذوقية التي يعيشها العالم؟

إيلي معلوف: التاريخ يكتبه المنتصرون كما هو معروف. يعيش العالم اليوم حالة مرعبة من الفوضى في جميع المجالات وخاصة في المجال الفني والموسيقي، لا أعلم إلى أي مدى يمكنني أن أثق بأمانة التاريخ اليوم ولكنّني مؤمن بوجود أشخاص ما زالوا قادرين على المقاومة، منجذبين إلى الفن الراقي وباحثين عنه.

الجديد: يعيش العالم اليوم صراعًا بين الماضي والحاضر، بين الزمن الجميل وزمن الرداءة، هل ما زال الجمهور يحتفظ بأذن راقية أم أنها في طريقها إلى الانقراض؟ وفي هذه الحالة ما السبيل إلى تحقيق الأمنيات من وجهة نظرك؟ هل هو تعايش مع الواقع أم اتّباع ما نؤمن به والسباحة عكس التيار؟

إيلي معلوف: فعلا، يعيش العالم اليوم صراعًا بين الماضي والحاضر، ولا أعتقد أنه صراع أجيال فقط، إنما هو رغبة ملحّة عند البعض في العودة إلى الجوهر والتخلّي عن كلّ هذا التلوث الفكريّ. إنّ عددًا من الناس اليوم يفضّل الأكل الطبيعي، والتواصل الطبيعي، وحتى الاستماع إلى الموسيقى من خلال أسطوانات تعطيها مجالا واسعًا لتطربهم، بدل الموسيقى المضغوطة، وهذا مؤشر على أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش هذه الفوضى الفكرية إلى الأبد. أنا مؤمن كليًّا بأنّ طريق تحقيق الأمنيات هو الطريق الأصعب وهو السباحة عكس التيار، وأعارض بشدة من يقول بأن “رأي الناس هو الأهم”، أقول له “كُلْ على ذوقك، واسمع على ذوقك”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.