ابتسامة ساخرة

الأحد 2023/01/01
لوحة: وليد نظمي

أكره من يصور حياتنا على أنها لون واحد يسوده الصفاء والنقاء، وكذلك لا أحب من يصورها بجانبها المظلم والقاتم، والحقيقة أن حياتنا مزيج من الخير والشر، والحزن والسرور، والرجاء واليأس، تختلف حظوظنا من هذه الطبائع باختلاف أوقات الزمان والبيئة والمكان، قد يكون ظاهرها سعادة ورضا، ويكون باطنها ألما واضطرابا، وقد كتبت هذه القصة مرارا وأعدت صياغتها كثيرا، ولا أعرف لمَ أكتبها، ولماذا أعيد صياغتها بهذه الكثرة المملة، وأنا أظن أن القصة التي أريد أن أقصها عليك خليقة أن أشوّقك إليها وأنبّهك إلى دقائقها، لهذا ترددت فيها ترددا لم أعهده في سابقها، ولعلي أفعل ذلك تكلفا، لترى أنت أخليقة هذه القصة بالعناية، أم ليس لها خطر ولا شأن؟

 وقصتي هنا عن إيمان، معلمة متزوجة، لها طفلان، فتاة وصبي، أنجبتهما في عمر مقارب لا يفصل بينهما إلا سنتان، وقد بلغ أكبرهم العشر سنوات، ولديها سالم، زوج تحبه حبا شديدا، ويبادلها ذات الحب، وكانت حياتها تبدو هادئة، ناعمة البال، لا يخالطها قلق، ولا يظهر فيها أيّ اضطراب.

 عشرة أعوام مرت على زواجها الهادئ، وها هي تجهز حجرتها للإحتفال بعامها الحادى عشر، تنثر الورد على السرير، وتخفض الأنوار، وتشعل الشموع، وتصنع عشاء رومانسيا.

 وسالم كان كسائر الأزواج ينعم بهذه المواعيد، يستمتع بما تدخره من لذة وبهجة، وقد أقبل على تلك الأمسية ظاهر الرضا، واضح الابتهاج، متهيئا للنعيم، ومتعجلا نحوه.

 كان وجه إيمان في تلك الليلة أكثر إشراقا، وكان نشاطها في تجهيز هذا الموعد أشد حدة من سابقه، وشعر بحاجة في سؤالها عن هذا النشاط اللافت، وهذه البهجة “ما أرى أسعد منك هذا العام في استقبال هذه المناسبة“، قالت وهي تضحك “ما يمنعني أن أكون أسعد الناس، وقد أتممت عقدا من الزمان في خدمتك ورضاك، هل كانت عشر سنوات سعيدة لك؟”، أجابها وهو يبتسم “لم أجد في حياتي من هو أسعد منّي بك”، أضافت والسعادة تملأ وجهها “هل قصرت معك فيها بشيء؟ هل نمت يوما جوعان البطن واللذة؟ هل ضاقت بك الأيام ولم تجد في صدري سعة لحمل آلامك؟ هل قصرت يوما عن رعاية لك، أو انشغلت عنك بالأطفال”، تعجّب من أسئلتها الجادة، وأخذها على هزل “معاذ الله أن يظهر منك تقصير، لو حملتني الأيام للماضي، لن أجد امرأة تصونني وتصون داري مثلك”، ثم برزت من إيمان ابتسامة سخرية، ثم صمت وسهو، ثم نظرة جادة اتبعتها بجملة “أريد منك أن تطلقني، وتعتقني من هذا الزواج“.

 كان طلب إيمان مفاجئا لسالم، لكنه كان خليقا بالروية والتفكير، كيف لها بعد كل هذا أن تطلب الطلاق، لعلها كانت تمازحه، أو أنها تختبره، لم يأخذ سالم طلبها على محمل الجد، لكنه كان كافيا ليقلب حاله، ويعكر مزاجه، ويجعله في حالة اضطراب وقلق، أعادت طلبها عليه ثانية، وثالثة ورابعة، حتى صار سؤالا جادا، لا هزل فيه.

سؤال إيمان كان يظهر أن الحب قد يجانب البغض، وأن الأمن يجاور الخوف، وأن بين الافتتان والاشمئزاز لحظة، وأن بعد كل هذه السعادة سيأتي شقاء، لن يفهم سالم كيف بدأ كل هذا، وأين سينتهي.

 كان سؤالها كمن يطلب التقاعد بعد سنوات الكد والعمل، والحرية بعد سنوات السجن والعبودية، لن يحسن سالم في فهم هذه الكيمياء في مزاجها، كيف تنتهي ليلة رومانسية بهذا الطلب الغريب، كان يطلب منها تبريرا لهذا الطلب، وهذا حق بسيط له، بينما كانت تقدم تبريرات يجدها سخيفة، تعبت، حان الوقت لأستريح، كلها تبريرات لم يجدها منطقية، ولا مقنعة، وكان ينظر أن ما في ظاهر قولها أمر باطن لم تبوح به.

وانتهت ليلتهما بصراخ، وشجار لم تعهده دارهما، ولم يألفه صغارهما، فصارت دارهما كأرض كانت مطمئنة، حتى أفسدت اطمئنانها غضب أهلها وثوراتهم، أظهرت إيمان جموحا لم ير منها سابقا، وهي بذلك تظهر جدية طلبها، وحسم قرارها، إما بالسلم، أو بالثورة.

لوحة: وليد نظمي
لوحة: وليد نظمي

وأنفقت إيمان أسبوعها تنام في الغرفة وحيدة، وينام سالم في غرفة أخرى، ورغم أنهما كانا يحاولان تجنيب طفليهما هذه الثورة، فيقومان بدورهما تجاههما بأحسن الأمر، ويرعيانهما أفضل الرعاية، إلا أن الحب الذي كان يسود بيتهم صار مفقودا، وأن القطيعة بين والديهما صارت جلية وواضحة، وهي كلما ألحت عليه بطلب الطلاق، ألح عليها يسأل عن السبب، حتى باحت عن سبب لم يخطر بباله، ولم يكن يرغب في سماعه، قالت له أحب رجلا آخر، وهل الحب جريمة، وقد استعذت بالله من الحرام، وطلبت أبغض الحلال، وأما وقد سمعت ما سمعت منّي، فلا أظن أنك تقبل أن أكون بعد اليوم في ذمتك.

وخليق برجل شرقي كسالم بعد هذا الكلام أن يحمل على إيمان فيأدبها بالضرب، أو الحبس، ولن يلومه بعد قولها هذا أحد، لكنه كظم غيضه، وصبّر نفسه عن الأذى، وغادر بيته مكسورا مهموما، وهام بنفسه نحو أحد بيوت رجال الدين، يسأله عن أمر زوجته، هل يمسك بها، أم يسرحها بإحسان.

وكانت إيمان ماضية بطريقها هذا، لا تفكر بعاقبة، ولا تحفل بموعظة، ولا تسمع لنصيحة، لا من رجل الدين، ولا حتى من أهلها.

وكان سالم حزينا، لا يفهم كيف انقلبت حياته، وينبذ الوحدة التي صار فيها، فقد كان على أيّ حال يأنس بإيمان، فيرى في عشرتها راحة وروحا، وقد كان ينعم معها بطفولة طفليهما، ويرى في ابتسامتهما نعيما وأملا، وقد أشارت له عمته بأن جنيا قد لبس ابنتها، أو عملا شيطانيا قد دسّ على بابهم، فقلب حالهم من النعيم إلى الجحيم، ولكن نفسه ترفض هذه الأفكار، وقد امتلأت ألما بعد أن أغرقت عشر سنين في اللذة، وسادها الحزن بعد أن أسرفت في السرور، لكن ما في إيمان أمر غريب يدعو إلى التأمل والتفكير، فهي تدّعي أن في قلبها حب رجل غيره، وقد راقبها كثيرا، فلم يجد في سيرتها ما يثير الشك والريبة، وقد سأل زميلاتها في العمل عنها، فهي كئيبة الحال في مدرستها، لا تنشغل بهاتفها حين تستريح في غرفة المعلمات، كما يفعل المشغولون بالحب والهوى، بل تهوي لمكتبها ضجرانة مكتئبة، سرحانة بحالها.

ومضت الأيام تبعد بينهما أكثر فأكثر، ولاتزال تلح في المباعدة حتى أنفقا أسابيع لا يلتقيان، ولا يتحدثان مع بعضهما، حتى صار بينهما حجاب صفيق، وقد فطن سالم بأن في إيمان أمرا آخر ليس الحب الذي تدعيه، وهو رغم جفائها، أصر على وصالها، فدق باب غرفتها، وحين فتحت الباب، ناشدها، ألا ترين كيف أصلك فتجفينني، وأتمسك بك فتخذلينني، أما آن لقلبك القاسي أن يلين، وأنا أعرف أن ما فيك أمر لا يتصل بالخيانة بشيء، فهل تدليني بما أخطأت فيه حتى تعاقبيني كل هذا العقاب، كيف نسيت الأيام الحلوة التي امتلأت لذات الصبا والشباب.

فقالت وهي تذرف دمعها: كنت أسمع قلبي يلقي إلى قلبك حديث المودة والحب، حتى طرق سمعي حديث الخيانة منك، هل تألمت حين سمعت منّي أني أحب غيرك، وقد سمعت منك حديثا في الهاتف وأنت تلقي هذا الحديث على غيري، فعرفت حينها أن قلوبنا كانت تهذي بحديث الحب، وتظهر النفاق، وأن يكذب بعضنا على بعض، كيف تجرأت على الخيانة، وأنت الذي شهدت لي بالوفاء وحسن العشرة، إن التصريح بالكذب والنفاق وإعلان التباعد والخصومة يوشك أن يجعل الكذب والنفاق والتباعد والخصومة أصولًا لما نستأنف من حياة، فعالجتها بطلب الحرية، فهل أذنبت؟

حينها عرف سالم ذنبه، وأقر بخطئه، وأستغفر ربه، وطلب العفو من إيمان، ولكن ألا تجد في قصتيهما أمرا يجب النظر فيه، كيف أننا مصنوعون من الفناء، فإذا دام الشيء في أيدينا فإننا نفقد الإحساس به، ولم يشعر سالم بالحب إلا حينما فقده من إيمان.

لا فرق بين الحب والكراهية عند إيمان، كلاهما اهتمام شديد، نار الحب والكراهية كانت ناراً واحد عند إيمان، لكن نار الكراهية كانت تحرق كليهما من فرط العذاب والقلق والهم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.