الإرهابي مقيم تحت جلد واضع المناهج

الخميس 2016/12/01
لوحة: سعاد مردم

الحقيقة أن التراث العربي منذ أقدم نصوص وصلت إلينا من العصور القديمة لم يكن يعرف أيّ طريقة من طرق الإرغام أو العنف في التعامل مع النشء، فهناك نصوص أدبية كثيرة موضوعها تربوي راق بالفطرة، تعرف بأدب الوصايا والمواعظ، وصايا الآباء إلى الأبناء، ومواعظ الكبار للصغار. ويكفي أن كلمة «بُنّي» وهي تصغير للتدليل توحي بحنان وحنوّ الكبار سواء كانوا آباء أو أمهات في خطابهم لصغارهم، و تقابلها كلمة «بُنيّة» في إيحائها بالحب والحنوّ والحنان.

بل إن وصايا الأمهات لبناتهن وهن يتهيأن لحياة جديدة في بيت جديد تبدأ دائمًا بقولهن «أي بنيّة».. ثم تشرح الأم كيف ستخرج الابنة من دار إلى دار، ومن دور إلى دور آخر، وتهيئها لتحمل مسؤولية البيت الذي ستعيش فيه مع زوج لها، وتقوم بأعمال لم تكن تؤديها في بيت أمها. وتأتي هذه الوصية بحسن خطاب، وإقناع، وصبر. ولدينا في نصوص التراث الكثير من وصايا الأمهات للبنات، ووصايا الآباء للأبناء. بل إن القرآن الكريم علمنا كيف يخاطب الآباء أبناءهم بلين ورفق ومن ذلك قوله تعالى «وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه.. يا بني لا تشرك بالله. إن الشرك لظلم عظيم».

انظر إلى قوله تعالى على لسان لقمان «يا بنيّ» بكل ما تحمله الكلمة من إيقاع رقيق هادئ ودلالة نفسية على حب النصيحة.

فإذا كان العرب منذ الجاهلية يتلطفون مع صغارهم، وإذا كان القرآن قد أكد هذا الأسلوب في أمثلة أشرنا إلى أحدها. فمتى ظهر العنف في التعامل بين الكبار وصغارهم؟

هذا الأمر له أسباب متعددة منها الاجتماعي ومنها الاقتصادي ومنها الثقافي، ومنها النفسي، وإذا شئنا أن نقوم برحلة عكسية عبر أزمنة التطور سنلاحظ أن الحياة الاجتماعية وقع فيها خلل بعد أن سقطت الدولة وتفتت إلى دويلات، وتحولت من أمّة متبوعة إلى دويلات تابعة.. تكاثر عليها الغزاة واستضعفوها، ونهبوا خيراتها، وأهانوا أبناءها، فتحول الأحرار إلى مستعبدين في أوطانهم، واستخدم المستعمر القوة لقمع إرادة هؤلاء الناس للسيطرة عليهم. حدث ذلك في الزمن العثماني الذي سيطر أكثر من أربعة قرون على العالم العربي باسم الدين وحمايته، واحتقر اللغة العربية، وفرض الإتاوات أو الضرائب حسب تقديره لكل إقليم، حتى على أفقر الناس، حتى أن كثيرًا منهم هربوا من ديارهم، وتركوا أرضهم فيما عرف في اللغة باسم «الطفشان» أي الهروب من الأرض والاستغناء عنها لعجز صاحبها عن تسديد الضرائب المقررة عليها. وكانت وسيلة الدولة لتحصيل ما تريده من الناس هي العنف، والضرب، والإهانة، والسوط، فاستقر في نفوس الناس أن ما هم فيه من ضنك وبؤس وشقاء لا رادّ له من أحد فاستسلم العامة وعاشوا في خزي وحزن انسحب على معاملاتهم داخل بيوتهم كنوع من أنواع التعويض أو التنفيس فيمن لا يجرؤون على الاعتراض عليه، وهكذا تدرج سلم العنف من الجندي إلى المواطن.. ومن المواطن إلى أسرته.. ومن الأسرة إلى الأبناء.

كما أن ضيق ذات اليد، وعجز الآباء عن تلبية حاجات أبنائهم أدى إلى إغلاق محاولات الاقتراب والتفاهم لإحساسهم بالعجز عن تلبية احتياجاتهم، وتحول الحوار إلى اتجاهه المضاد وهو «لا» إجابة لأيّ طلب وكل سؤال.

فإن لم تُجد «لا» في إقناع الأبناء كانت العصا هي وسيلة الإسكات والردع.

وأيضًا هناك الجهل وهو العجز عن الإجابة عن تساؤلات الطفل البريئة.. فتكون الإجابة ابتسامة بلهاء.. تليها كلمة «اسكت» او «هُص».. يليها: «هاتي العصا لهذا الولد العاصي» وهكذا يتحول السؤال البريء لطفل يتطلع إلى المعرفة إلى النظر إليه نظرة المؤمن للعاصي.

يبقى وحده درس الدين واللغة العربية وآدابها هو الجرح الدامي في التعليم، فكل دولة تنتمي إلى مذهب بعينه تعلم أبناءها هذا المذهب باعتباره الأوحد أو الأصح وغيره ضال، أو منحرف، أو خطأ

فلما استقر الأمر في المجتمع.. صارت هذه العوارض أي القمع بأنواعه من النظر إلى الكلام إلى الضرب.. هي الطبيعة الجديدة للمعاملات بين الكبار والصغار.. وكأنها بديهية تربوية، فصار كل كبير سواء كان أبًا أو معلمًا أو مسؤولًا لديه عصا من الخيزران يمسكها بيده ويبسطها كأنها جزء من الشخصية.. يشير بها على السبورة ويضرب بها على مكتب أي تلميذ لتنبيهه.. وينفذ بها ما قرره من عقاب على التلميذ سواء ضرب على اليد أو القدمين أو المؤخرة.

فلما حاولت الدول الحديثة التي توفرت لبعض أبنائها فرص التعليم في دول أكثر تقدمًا وعصرية، واطّلعوا على مناهج تعليمهم وأساليبها، فأدركوا أن العنف اللفظي أو المادي المتمثل في الضرب، لم يعد له مكان في التربية، ومنعوا حمل المدرس للعصا.. ولكن الأمر لم يخرج في كثير من الحالات عن أن يكون دعوة مبتدعة في نظر دعاة العنف الذين اقتنعوا بجدواه، ومع أن الكثير من الدول العربية أعلنت عن استبعادها العنف في التعليم والإساءة للطفل في المدرسة والمنزل، فما زالت هناك عناصر كثيرة في ثقافة المجتمعات ترى أن التربية إنما تكون بالاستكبار والتخويف والقمع.

وهناك أمر في غاية الأهمية يتصل بتدريس «علوم الدين» و»أدبيات اللغة»، أما الدراسة النظرية والعملية فلا خلاف على تدريسها كالجغرافيا، والتاريخ، والجيولوجيا، والرياضيات، والعلوم بأنواعها، والمدارس الفلسفية.

يبقى وحده درس الدين واللغة العربية وآدابها هو الجرح الدامي في التعليم، فكل دولة تنتمي إلى مذهب بعينه تعلم أبناءها هذا المذهب باعتباره الأوحد أو الأصح وغيره ضال، أو منحرف، أو خطأ. هذا الأمر يحدث في الدين الواحد، فما بالك بالعلاقة بين دين ودين آخر. الكلمة التي يتعلمها الطفل أول ما يتعلم هي أن الأديان الأخرى محرّفة منحرفة. وبذلك يغلق على عقل الطفل فكرة «الإيمان» بالأديان السابقة على الإسلام بدعوى أنها منحرفة.

أما أدبيات اللغة، وهذه مأساة وزارات المعارف في معظم البلدان العربية، فالاتجاه السائد هو فرض النصوص المحافظة على العادات والأعراف والفن الأدبي، ورفض كل جديد بدعوى أنه بدعة لا تليق بالدراسة، ومع أن وزارات المعارف تكلف لجانًا من المتخصصين لاختيار مناهج الدراسة في سنوات التعليم لتخَرّج طالبًا مستنيرًا، ومع أن اللجان تبذل جهدها الكبير لإدخال عناصر التجديد المغذية للعقل في الأدب شعره ونثره، وتقدمه إلى مسؤولي الوزارة والمسؤولين عن المادة وهم مفتشون محافظون.. يرفضون كل الإضافات التجديدية بحجة أن اللجان التي وضعت المقررات دورها استشاري وأنهم، المفتشون، هم الفنيون الذين يراعون الزمن وعدد حصص التدريس، فيختصرون اختصارًا مخلًا يعود بعده المقرر الدراسي إلى صورته السابقة، قبل أن تقوم لجان تجويد المناهج بعملها.

هذا من ناحية المادة العلمية، أما من حيث طرائق التدريس فالمنهج السائد هو المنهج التلقيني الذي يستظهره الطالب عند السؤال، دون أن يكون له رأي فيما درس، ولذلك ينس الطالب فور الخروج من الامتحان كل ما درسه لأنه لم يعش في وجدانه ولم يفكر فيه بعقله، ولم يستفد منه فائدة إنسانية.

يضاف إلى ذلك أن هذه الطريقة التلقينية تجعل الطالب أحادي الفكر، أحادي النظر، أحادي الاتجاه، لا يعرف ماذا يقبل إذا واجه أمرًا مختلفًا، فهو وحده يعرف ما درس وغيره من المعارف لا علاقة له به فتكون النتيجة بعد رفض الآخر.. فكرًا أو أسلوب حياة.. أو منهج ثقافة.. إنه يتحول من الرفض إلى التهكم، فالإنكار فالهجوم، هكذا يعجز أسلوب التعليم في المدرسة عن مساعدة الإنسان على إقامة جسور تفاهم بين عالم وعالم آخر، إلى إحداث قطيعة معرفية ترفض الآخر، وتبدأ الدعوة للهجوم عليه. فإذا خرج الأمر من الأدب إلى الدين صارت الفجوة أخطر من رفض الآخر إلى إنكاره.. إلى اتهامه بالخروج من الملة، إلى تكفيره، إلى استباحة دمه.. إلى إقامة الحد عليه بقلب بارد ودم بارد وعقل جاهل.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.