الإنتلجنسيا وتكوين العقل العربي

السبت 2022/01/01
لوحة: محمود عبيدي

ترتسم غايات معرفية كبيرة، وتمتد مساحات علمية شاسعة، إزاء المشاريع الفكرية [1] التي جعلت العقل العربي مدارا لها، فاستهدف هذا الطرح الحسم في جملة من القضايا والإشكاليات، مثلت هاجسا حقيقيا للمثقفين والمفكرين الذين آثروا الخوض في مسارات فكرية هي على قدر عميق من الحساسية، وعلى حد التماس مع مجالات معرفية أخرى، تتعذر الإحاطة الشاملة بتخومها وإن كانت تعِنّ على أنها في مرأى العين.

وهو الدور الطبيعي للإنتلجنسيا [2] في التقعيد لرؤية فكرية طموحة ومتجددة، تستمد مشروعيتها من القراءة الفاحصة لمكونات التراث، في أفق مده بمعايير التكامل العلمي والمعرفي، وبصيغ منهجية تضمن له المسايرة. فالانتظام الحضاري باستيعاب مجهودات السلف، حذا بالنخب المثقفة إلى مضاعفة أدوارها في البحث والتنقيب، لتقديم البدائل الموضوعية التي يجد فيها المهتم بالشأن الفكري ملاذا يستمد منه فاعلية الانتماء إلى نطاق معرفي له خصوصياته، وكذلك له إمكانياته لتقديم نماذج تواقة إلى مسايرة تطورات الحياة المعاصرة، لاسيما حينما تسترد العقلانية موقعها الطبيعي في التفكير العلمي الخاص والخالص، وتصبح ممارسة مألوفة تسعى لاستنبات قيم متجددة، تتيح تناول الإنتاج الإنساني بموضوعية علمية تنأى بنفسها عن التحيز المغرض، وهو مآل خلق بنية ملائمة لاحتضان العقل العربي، بعيدا عن بدلية تضخيم الذات، أو جلدها، وإنما بمعيار الانفتاح على الماضي والحاضر لصياغة نظرة واقعية تؤهلنا لبلورة معالم المستقبل، بوزن حضاري يضاهي الأمم الأخرى.

فكيف يتم مثلا، تحديد الجنسية الثقافية [3]؟ وهل يمكن ذلك دون تحديد آليات العقل الذي ينتجها؟ وكيف نفحص آليات اشتغاله إن كانت تنتمي إلى هذه الثقافة أو تلك؟ وما أوجه التمايز بين مفهوم الفكر والعقل؟ أما كان لكلمة فكر لو استعملت بدل كلمة عقل، أن تعفي أصحابها من جملة من الأسئلة الواردة؟ خصوصا وقد دأبنا على بلورة عبارات من قبيل الفكر العربي، والفكر اليوناني، والفكر الأوروبي..

تؤول إذن، هذه القضايا الحبلى بآمالها، إلى خلق مناخ ملائم يسهّل تحول الذات من بنية عقلية مستقبِلة ومستهلِكة إلى أخرى فاعلة تخوض كفاحَها للحسم لصالحها في معركة الأفكار، والتي باتت أبوابُها مستغلقةً عن النخب التي لا تؤمن بتحولات العصر وبروحه، ولا تود البت في قضية إعادة الاعتبار للفكر، كي نكون قاب قوسين أو أدنى من تشييد بنية معرفية مؤسِّسة لمفاهيم العلم والتكنولوجيا والتقدم والحرية والديمقراطية وشأنها من المفاهيم القادرة على بناء نهضة حقيقية، غير مزيفة، وهل يتأتى في الأصل بناء نهضة بعقل غير ناهض [4]؟

تأملات في تكوين العقل العربي

أثاف بعينها، مثَّلَ الامتداد بينها مشروع محمد عابد الجابري عن نقد العقل العربي، بداية من تكوين العقل العربي، إلى بنية العقل العربي دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية [5]، ثم العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته [6]، والعقل الأخلاقي العربي دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية [7].

مشروع نهضوي مجدد، حاول قراءة التراث برؤية حداثية تستمد مشروعيتها من النظر العلمي الموضوعي، بجعل الذات على مسافة من الموضوع المستهدف، تحليلا ونقدا، بمنأى عن المواقف المتحيزة التي وسمت بعض الدراسات التراثية، على أمل بلورة طموح منهجي، يجمع نقدية ابن حزم، وعقلانية ابن رشد، وأصولية الشاطبي، وتاريخية ابن خلدون، وكأننا بصدد البحث عن الفرقة الناجية، وإلقاء القبض على الفرقة اللاعقلانية الضالة [8]. رؤية مركبة تتناول العقل العربي في ضوء مبادئ الثقافة العربية وقواعدها، وتروم استنبات جهاز مفاهيمي نقدي يخلصنا من إسار بعض المعضلات الذاتية، التي تعوق نهضتنا، واستحداث قيم جديدة لا تقصي الماضي بل تجعله مكونا أساسيا مع الحاضر للإيفاء بمتطلبات المستقبل، اعتمادا على العقلي والواقعي، إذ ما هو عقلي هو واقعي، وما هو واقعي فهو عقلي [9] كذلك، ما جعل التفكير ينصبّ بالأساس على الحضارات التي فكرت بالعقل، أو بالأحرى فكرت في العقل، وهي الثقافة اليونانية، والثقافة العربية، ثم الأوروبية الحديثة، إذ مارست التفكير العلمي المبني بالأساس على الإنتاج العلمي والفلسفي، وهما الفضاء الأمثل الذي يجد فيهما العقل أهم مسوّغاته لتأسيس قواعد المعرفة، التي تتجلى ملموسة في التصورات الثقافية، فالعلم والفلسفة هما مجال التحليل الموضوعي الذي يمثل المشتل الحقيقي لتراكم المعرفة، بنظمها الدقيقة التي تفكك البنى القديمة لتعمل على تطويرها، وذلك بالمراجعة الشاملة، وتطوير آليات النقد لتناول المكتسب الثقافي، دونما توجيه من المقاربات السالفة والمتجاوزة، التي لم تأخذ في حسبانها المعطيات الطارئة، واكتفت باجترار تصورات الماضي. فآن الأوان لاستئناف قراءة تاريخ الثقافة وفق منظور فكري، يقصي اللامعقول، ويرتكز على العقلانية وحدها، وهو السبيل الأنجع لخلق مناخ ملائم لإنتاج الأفكار، إذ أننا إزاء بدلية لا بديل عنها، إما الانصياع لفاعلية العقل بقدرته على توليد الأفكار وتطوير فضاءات تلاقحها، أو الاستمرار في ثقتنا بنظم فكرية قديمة استنفدت رصيدها وباتت تنتج قيم الماضي في زمن مختلف الحيثيات، والمعطيات، وهذا محل شكوى الملأ.

 لذا فإن استهداف البنى اللاشعورية التي تحرك مدارات العقل هو الهاجس الحقيقي الذي تحتم الاشتغال عليه منذ وقت كبير انصرم. وهذا في حد ذاته استئصال لجذور التخلف، التي تجد التربة الملائمة في ظل غياب المشاريع الفكرية، التي تغض الطرف عن الحلول الجذرية، بتفكيك البنى المسؤولة عن منطق التفكير السائد، لاسيما وأن العقل البشري في المقابل بفطرته، يملك منطقا رياضيا يمثل أساس المعرفة، وهذا بدوره ينسجم مع الطبيعة التي تخضع لقوانين مضبوطة، تجعل سيرها محكما، ما يتيح إمكانية التطابق بينهما إذا ما تمت مراعاة جوهر المعادلة، ما يتطلب إعادة النظر في حقيقة العقلانية السائدة، كي نخلصها من الشوائب التي انتصبت عائقا في مسار التطور والتجديد، وهذا يتعارض مع توجهات العقل والطبيعة في الآن ذاته، بتعطيل الممارسة التجريبية في أفق التماثل بين مكوناتها، ما ينعكس على التوازن الإيجابي لبلورة معرفة علمية ملائمة تلبّي طموح التطور الإنساني، نزوعا إلى معرفة يقينية تطابق “بين العقل ونظام الطبيعة، ويتوقف على ما تعطيه التجربة للعقل، وما يمد به العقل معطيات التجربة” [10]، فالتناسب بين أقطاب هذه المعادلة يرسم معالم المعرفة الصحيحة التي تستجيب لروح العصر، وللحظة الراهنة.

تناغما مع ما سلف، حينما نتأمل العقل العربي باعتباره بناءً من القواعد والمعايير التي صاغتها الثقافة العربية، باختلاف حقبها وتعددها، فذلك يفضي بنا إلى بنية الثابت والمتغير فيها، وهي البنية التي تماهى العقل مع أحد طرفيها، كما يحيل عليه العصر الجاهلي وما تلاه، إذ ظل إلى حد الآن ماثلا أمامنا صيغة ثقافية ثابتة، لم تتعرض لأيّ نظر لتغيير معايير انبنائها، منذ عنترة وامرئ القيس وزهير بن أبي سُلمى وابن عباس وعلي بن أبي طالب وسيبويه والشافعي والجاحظ والجنيد وابن تيمية والفارابي وابن رشد وابن خلدون، ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، إلى غير ذلك من الفعاليات، وكأننا “نشعر بهؤلاء جميعا يعيشون معنا هنا، أو يقفون هناك أمامنا على خشبة مسرح واحد، مسرح الثقافة العربية التي لم يسدل الستار فيه بعد، ولو مرة واحدة” [11]، تراكم كبير ما زال متحكما في تفكير الإنسان العربي، ويمثل قالبا ثابتا لبنية العقل عنده، مع أن الزمن الثقافي له معاييره الخاصة التي يتوجب التفطن إليها، فكلما احتد الوعي بالزمن الفكري الذي يستمد معالمه من القيم الإنسانية المشتركة، إلا وترسخ الاقتناع بجدوى التغيير، وأهمية الانتماء إلى السياق الكوني، لتصبح الثقافة الواحدة مجرّد فسيلة في مشتل الثقافة الإنسانية، التي تقدم معاييرها في كلّ وقت بديلا يحتوي منطق الصراع، ويمنح جواز سفر لبناء عقلاني، يتربع فيه الكائن الإنساني عرش الأولويات التي تتساوى فيه الشعوب والأمم والأجناس، منطق الثقافة الإنسانية التي تنتفي معها المركزيات المتنافرة، لصالح قطب إنساني واحد. إذ المعنى الحقيقي للتقدم “أن نختار مسارا مختلفا عمّا قبله، لأنه قائم على إرادة تتمثل في رؤية واضحة لما يجب أن يكون، وعلى عقل يتدبر كيف تتم هذه الرؤية” [12]، هذه الأخيرة التي تنبع من عمق الفطرة الإنسانية، لأنها تبشر بثقافة الأمل والتأمل، يتحمل الجميع مسؤولية نشرها والتشبع بها، بإعادة الاعتبار للعقل المفكِّر بصيغة كونية، في حِلّ عن العقل المستقيل، كي نضمن آليات الوعي الناجع الذي نستهدف به ترسبات الثقافة، لنعيد توجيهها بما يتلاءم مع دواعي العصر، بمعزل عن فاعلية التراكم الذي ما فتئ يخبو حتى نخال أنه أحيل إلى طي النسيان، إلا كي يظهر من جديد في مواقف مختلفة اختزنها اللاشعور فيطفو في شكل صور تحكمت في بنية العقل النابع من عمق هذه التراكمات، ولو تم ذلك دون وعي منا، فإذا “كان من الجائز، بل المفيد استعمال اللاشعور المعرفي، عند دراسة بنية عقل الفرد الواحد من البشر… فلعله من الجائز كذلك استعمال نفس المفهوم بالنسبة إلى الشعوب والجماعات وبكيفية أدق بالنسبة إلى الثقافات” [13] للحسم في قضية الوعي اختيارا لا محيد عنه لتحديد هويتنا الخاصة التي بفضلها نخوض التحديات من أجل تحقيق الرهان.

العقل العربي بين المعرفي والأيديولوجي

لوحة: محمود عبيدي

يعد العقل العربي، فاعلية ذهنية تنتظم رؤية الإنسان العربي للأشياء الموجودة حوله، وللظواهر التي تعتمل في محيطه، لاسيما وأن كيفية تعاطيه معها تفضي إلى اكتساب قيم معرفية، قد تتبلور في صيغ متعددة لتؤول في نهاية المطاف إنتاجا جديدا. إلا أن الإطار المرجعي الذي تفتق منه هذا العقل، وهو الثقافة العربية، التي تعتبر ذات زمن واحد منذ تشكلها إلى الآن، قد يرخي بظلاله على ماهية المنتَج المعرفي، وعلى التصورات الثقافية الراهنة والآتية، لأنها في الأصل ذات “زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم، مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية، يعيشه دون أن يشعر بأيّ اغتراب أو نفي في الماضي، عندما يتعامل فكريا مع شخصيات هذا الماضي أدبائه ومفكريه، بل بالعكس هو لا يجد تمام ذاته، لا يشعر بالاستقرار ولا يحسن الحوار إلا باستغراقه فيه، وانقطاعه له” [14]، هذا الزمن يمثل اقتناعا معرفيا في الوجدان الجمعي العربي، لأنه يحيل في التصور العام على فترة مزدهرة، منذ عصر التدوين، تنهض منذئذ برسم ملامح الوعي العربي، بفضل إنتاجها العلمي الذي استوى بما تم نقله من العصر الجاهلي، ثم الإسلامي، بالإضافة إلى التراث الهائل الذي نقلته العربية من نظيراتها في الثقافات الأخرى، ومن الأمم التي استقطبت علومها بفضل مجهودات الترجمة، ليغدو العقل العربي بنية ذهنية “ثاوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين” [15]. لذا تعد اللغة العربية مكونا أساسيا لهذا العقل، محددة بذلك أسس تفكيره، وآليات انبناء ثقافته، لاسيما وأن اللغة تبلور نظرة الإنسان إلى الكون، خصوصا مع وضعية العربية التي ضربت بعمق في التاريخ الفكري والعلمي، محافظة في الآن ذاته على مجمل ألفاظها وتراكيبها وصيغ معانيها ما يضاعف فعاليتها في تحديد مفاهيم الكون والكائنات، فكانت مشروعا أساسيا لأهم المباحث العلمية في حضارتنا حينما تم التقعيد لها، انطلاقا من علوم اللغة والنحو والبلاغة وباقي المجالات المعرفية الأخرى التي يمثل الدين الإسلامي مدارا لها وهاجسا حقيقيا لأجوبتها، حتى انصاعت قناة محوريةً لتأثيث معالم الحضارة الإسلامية. فإذا كانت الفلسفة معجزة اليونان، فإن العلوم السالفة مثلت إعجازا عربيا بيانيا خالصا “فثمة معطيات كثيرة يمكن أن تبرر إعطاء الأولوية للغة العربية في دراسة مكونات العقل العربي” [16]، وهذا مجال اهتمام ثلة من المفكرين الذين ارتكزت مجهوداتهم العلمية على إظهار العلاقة الوطيدة بين اللغة والفكر، فهي ليست مجرد أداة له، بل هي القالب الذي يتشكل فيه الفكر، فالأمم تتكلم كما تفكر، وتفكر كما تتكلم [17]. لذا اقتناعا بما سلف، ينبغي الإنصات إلى روح العصر استيعابا للتطورات الراهنة، من أجل رأب الصدع الذي يمكن أن ينتج عن واقع لغة تنتمي إلى عصور تليدة، وعالم آني مفعم بصرخات التكنولوجيا المتقدمة، التي تزداد أنماط تطويرها بين فينة وأخرى، فمن الصعوبة ربط المخيال الجمعي، الذي يحتفي بتراكم علمي أنتج في فترات ولَّت، دون تطعيمه بالإضافات اللازمة التي تسهل عملية ربطه بالواقع المتحضر، الذي تمثل التكنولوجيا المتطورة فيه معلما فيصليا، يحيل على القيم المتغيرة فيه، ما يؤول بنا إلى أهمية الوعي في الحكم على الجديد، بمعيار كان سائدا، واستَهلَكت العصورُ موازينَه.

ومن وجهة أخرى، واسترجاعا للذي مضى، فقد خلَّف العقل العربي إنتاجا فقهيا هائلا، حتى وصفت الحضارة الإسلامية بكونها “حضارة فقه” [18]، كما هو شأن الحضارة اليونانية مع الفلسفة، والحضارة الأوروبية المعاصرة مع التكنولوجيا، لأن الفقه مثّل أولوية فيها، واستغرق طاقات هائلة من جهود العقل العربي، فغذا أعدل الأشياء قسمة بين الناس، قياسا على ما قاله ديكارت عن العقل، بل مثّل مجالا إبستيمولوجيا ترعرع فيه الفقه النظري الذي خضع للافتراض الذهني، وللممكن الواقعي، واستفاد من مختلف المباحث العلمية، من علوم القرآن والحديث واللغة والنحو والكلام وعلم الحساب كما هو الأمر مع علم المواريث. هذا الإنجاز وإن أفرز أحيانا صراعات بين المدارس الفكرية، والمذاهب الإسلامية تارة، وبين الفرق المتعصبة، والتيارات المتشددة تارة أخرى، يبقى تراثا غنيا، لا يمكن التنصل منه، أو ادعاء القدرة على التطور دون العودة الفاحصة لمباحثه، فلا يمكن تحقيق أيّ نهضة بمعزل عن الأصول التي استند إليها العقل العربي، ما يحتم أهمية الوعي بالقيم الفاعلة، لتمحيص النظم المسؤولة عن الانتكاسات الكبيرة في تاريخنا الحضاري، منذ قيام الدولة الإسلامية وما واكبها من صراعات داخلية وخارجية، تمثلت بالأساس في بداية أمرها، في حسم الصراع بين القيم الجديدة، والجاهلية، ثم في الصراعات بينها وبين الأمم الأخرى، وفي مرحلة أخرى حينما انطبع النظام فيها كما هو شأن الدولة الأموية بطابع القبيلة التي تحاول طمس هوية القبائل الأخرى، بل والأجناس التي هي من وجهة مختلفة عنها، ما أنتج معارضة متنوعة، وتعصبا أفضى إلى صراعات، عجلت بالتفكير في خلق نمط للدولة يستوعب الجميع، ضمانا لحقوقهم، وأداء لواجباتهم، ونحن نعلم مظاهر المعارضة التي اصطبغت أحيانا بأشكال شعوبية وطائفية، كان لها التأثير الكبير في الإنتاج الثقافي، وفي أنماط التفكير. إذ يكفي تقديم نموذج من المد الشيعي الذي تغذى من هذه الظروف، ليصبح حركة سياسية ودينية وفكرية ما فتئ تأثيرها يتسع ليصيب الجميع، مع ما تطلبه ذلك من جهد، ومن رصد لفعاليات التفكير قصد الرد على أطروحاتهم. إضافة إلى الحركات الشعوبية التي اشتد عودها وتقوى في العصر العباسي، وما سايرها من تقاطبات أثّرت في توجيه دفة الإطار المرجعي للثقافة العربية، جعلت من المناظرات والمسامرات ومجالس الإمتاع والمؤانسة سندا لتدعيم توجهاتها، لوعيهم بدور الإنتاج الفكري والإبداعي الذي احتفى بالكلمة مرتكزا يسند المكتسب السياسي، ما جعل مؤسسات الدولة تنتبه إلى المقابل الموضوعي الذي يمكنه خلق توازن يعيد الأمور إلى نصابها، وذلك عبر جملة من الإجراءات من بينها “حركة الترجمة التي نشّطها المأمون، وجنّد إمكانيات دولته من أجلها، والتي اتجهت إلى أرسطو أساسا، إنما كان الهدف منه مقاومة الغنوص المانوي والعرفان الشيعي أي مصدر المعرفة الذي تدعيه وتنفرد به الحركات المعارضة للعباسيين” [19]، إنه فعلا تراث حافل بصوره المتعددة، لذا ينبغي تأمل تلك المشرقة فيه، التي تحتاج إعمال النظر لتطوير مكتسباتها، باعتبارها حافزا يشجع على التماهي مع التطور الحاصل برؤية تراعي خصوصية الهوية. نجاح هذه العملية رهين بديمومة النقد المستمر الذي يقيِّم الذات بموضوعية علمية، تيسر استحداث طرائق منهجية تعبد الطريق أمام عوامل النهضة.

وإن عدنا إلى المكتسب العلمي السالف، في أفق مغاير للاتجاه الفقهي الذي تجاذبته توجهات علمية وأيديولوجية متداخلة، فإن النحاة بدورهم سنّوا منطقا خاصا بهم، كانت له اليد الطولى في بناء العقل العربي، اعتمادا على تأمل العلل، وآليات القياس التي تنبني على التجريد للحسم في المسائل، حتى بات هذا المنهج فاعلية ذهنية، ورياضة فكرية، ما يؤول بنا إلى التساؤل عن دور النحاة، إلى جانب الفقهاء في وضع أسس النظر العقلي في الثقافة العربية الإسلامية، والحصيلة أن النحاة واللغويين بلغوا شأوا في استثمار القياس ممارسة منهجية أفادت في وضع قواعد فلسفة النحو ومبادئها، اعتمادا على الجوهر والعرض، ليغدو منطق هذه المباحث العلمية في الثقافة العربية الإسلامية منطقا تبنى عليه العلوم بعضها على بعض، وهو منطق التداخل والتكامل فيما بينها، كما هو الشأن للإمام جمال الدين محمد عبدالرحيم بن الحسن الأسنوي (ت 772هـ)، من خلال كتابه “الكوكب الدري في كيفية تخريج الفروع الفقهية على المسائل النحوية” [20]، إذ تم فيه تنزيل الأصول النحوية على نظيرتها الفقهية، وتخريج المفاهيم النحوية على صنوتها الكلامية، ثم تنزيل المبادئ الكلامية على القواعد النحوية، وهذا محور ممتد يحيل على مبدأ تكامل العلوم فيما بينها، فيصير إتقان علم معبرا للخوض في مراتب علم آخر “من هنا نص الأصوليون على أن يشترط في المجتهد لصحة اجتهاده معرفة اللغة العربية” [21]، وهذا مدار البيان العربي الذي يمثل مكونا أساسيا من مكونات العقل فيه، إلى جانب مدارات أخرى أثبتها الإنتاج الفكري في حضارتنا بمضمون عقلاني، كما رسخته مبادئ علم الكلام، حينما أسست للعقلانية العربية، التي دعمها النص القرآني بمنهجيته العقلية الفريدة القائمة على التدبر والتأمل واستخلاص العبر، دحضا للنظر اللاعقلاني الذي حوّر الكثير من المعطيات والبديهيات الكونية، مثل الادعاء بتعدد الآلهة في الكون، كما هو الأمر عند أهل الشرك، أو بتحوير الأديان السابقة والعمل على تصحيح انحرافاتها، وهو ما يندرج في إطار اللامعقول العقلي “بعجز العقل البشري على تحصيل أية معرفة عن الله من خلال تدبر الكون، الشيء الذي ينتج عنه أن معرفة الإنسان للكون يجب أن تمر عبر اتصاله المباشر بالحقيقة العليا: الله” [22]، وعموما نحن وكأننا إزاء لحظتين أساسيتين، الأولى هي لحظة ابن سينا كما عاشها من حلم الفارابي، والثانية هي لابن رشد لما انتشى بحلم ابن باجة، وتمرّس طورا بغية تطويرها [23]. إنها رؤية البحث العلمي الجاد، تروم إعادة الاعتبار للإنسان في شموليته، وللمجتمع في كليته، ببعديهما المادي والروحي، [24] وهي ممارسة تواقة لمقاربة جديدة تحسم في معضلات عالم الروح والمادة، بالتأسيس لمفاهيم جديدة، تنتظم الفكر الراهن، وتخلّص العقل العربي من جملة من الشوائب التي تلوّن بها عبر التجارب التاريخية الممتدة.

تركيب

تنبع قراءة مشروع محمد عابد الجابري من مبررات موضوعية كثيرة، يكفي منها تناوله منارات فكرية في الحضارة العربية من منظور متجدد، والتي تحتم علينا تأمل طاقاتها العلمية والمعرفية، من أجل التقعيد لنمط من التفكير، لو تابعنا العمل فيه، لأمكننا ترتيب الأولويات لتحقيق نهضة حضارية تنبع من الهوية الخالصة، وتتلاقح بفضل قيمها المتجددة مع الأمم الأخرى لاستيعاب مقومات اللحظة الراهنة، والتي تتطلب أكثر من أيّ وقت مضى بلورة استراتيجيات الحوار المتكافئ، وآليات التواصل الناجع، شرطا أساسيا للتلاقح الإيجابي الذي هو في صالح جميع الأطراف، إذ أن أيّ اختلال على مستوى التوازن الحضاري هو نتيجة حتمية لتعطيل وظائف العقل، واستبدالها بشروط تداولية قاصرة، تُحَجم من فاعليته وتفتح المجال أما تصورات لم نجن منها إلا المصائب والويلات، عبر مسار تاريخي ممتد في الزمن والمكان، في انتكاسة تنسف المكتسب الذي تتطلع إليها الأجيال.

لذا تعد إعادة تقييم العقل العربي بصيغة نقدية موضوعية، أساسا لإعادة التوازنات الملبية لانتظارات الإنسان، أينما وجد، وأينما كان، لأن العقول الناهضة هي التي تبني الحضارات، إذ لا نهضة بدون عقل غير ناهض [25]، كما قدحنا به الكلام في فاتحة المقال.

 

________________

المصادر والمراجع:

• بنية العقل العربي دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، نقد العقل العربي 2، محمد عابد الجابري، المركز العربي الثقافي، الدار البيضاء، ط1/ 1986.

• تكوين العقل العربي، نقد العقل العربي 1، محمد عابد الجابري، جماعة الدراسات العربية للتاريخ والمجتمع، دار الطليعة، بيروت، ط1/ 1984.

• ثقافة التقدم، المشكلة والحل، محمد كمال مصطفى، مؤسسة فريدريش إيبرت، مكتبة مصر، 2016.

• العقل الأخلاقي العربي دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، نقد العقل العربي 4، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1/ 2001.

• العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته، نقد العقل العربي 3، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط4/ 2000.

• الكوكب الدري في كيفية تخريج الفروع الفقهية على المسائل النحوية، جمال الدين بن الحسن الأسنوي، تح: عبد الرزاق عبد الرحمن السعدي، دار الأنبار، العراق، دار سعد الدين، القاهرة، ط2/ 2011.

• محمد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربي، حسين الإدريسي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي، بيروت، ط1/ 2010.

• من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، محمد أركون، ت: هاشم صالح، بحوث اجتماعية 2، دار الساقي، بيروت، ط1/1991.

 

[1]  على سبيل المثال: مشروع محمد عابد الجابري عن نقد العقل العربي، ومشروع محمد أركون نقد العقل الإسلامي، ناهيك عن أصحاب المشاريع الفكرية الأخرى، مثل: عبد الله العروي، وحسن حنفي، وصادق جلال العظم، ونصر حامد أبو زيد، والصادق النيهوم. بيد أننا سنحتفي هنا فقط بالجزء الأول من مشروع محمد عابد الجابري، وهو تكوين العقل العربي.

[2]  الإنتلجنسيا هي الفئة المثقفة، مجال اشتغالها العمل الذهني المعقد، للحسم في الإشكاليات الفكرية الحضارية، بالنقد والتوجيه لجعل المجتمعات في أفق الاستجابة للطموح الإنساني الشغوف بالقيم المتجددة على جميع الصعد.

[3]  تكوين العقل العربي، نقد العقل العربي 1، محمد عابد الجابري، جماعة الدراسات العربية للتاريخ والمجتمع، دار الطليعة، بيروت، ط1/ 1984، ص: 13.

[4] تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، ص: 5.

[5] بنية العقل العربي دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، نقد العقل العربي 2، محمد عابد الجابري، المركز العربي الثقافي، الدار البيضاء، ط1/ 1986.

[6] العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته، نقد العقل العربي 3، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط4/ 2000.

[7] العقل الأخلاقي العربي دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، نقد العقل العربي 4، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1/ 2001.

[8] محمد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربي، حسين الإدريسي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي، بيروت، ط1/ 2010، ص: 215.

[9] تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، ص: 22.

[10] تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، ص: 22.

[11]  تكوين العقل العربي، ص: 39.

[12]  ثقافة التقدم، المشكلة والحل، محمد كمال مصطفى، مؤسسة فريدريش إيبرت، مكتبة مصر، 2016، ص: 7.

[13]  تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، ص: 40.

[14]  تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، ص: 70.

[15]  تكوين العقل العربي، مصدر سابق، ص: 71.

[16]  المصدر نفسه، ص: 75.

[17]  المصدر نفسه، ص: 77.

[18]  تكوين العقل العربي، ص: 96.

[19]  تكوين العقل العربي، ص: 224.

[20]  الكوكب الدري في كيفية تخريج الفروع الفقهية على المسائل النحوية، جمال الدين بن الحسن الأسنوي، تح: عبد الرزاق عبد الرحمن السعدي، دار الأنبار، العراق، دار سعد الدين، القاهرة، ط2/ 2011.

[21]  الكوكب الدري في كيفية تخريج الفروع الفقهية على المسائل النحوية، ص: 13.

[22]  تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، ص: 159.

[23]  محمد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربي، حسين الإدريسي، ص: 219.

[24]  من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، محمد أركون، ت: هاشم صالح، بحوث اجتماعية 2، دار الساقي، بيروت، ط1/1991، ص:6.

[25] تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، ص: 5.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.