الاستبدال الكبير

تهافت الدعاة وعنصرية المروجين
الأحد 2022/05/01
لوحة: آزاد حمي

لم يشهد اليمين المتطرف في فرنسا الحضور الذي شهده في الأعوام الأخيرة، وقد بدا ذلك جليّا خلال الحملات الانتخابية الرّئاسية الأخيرة، حيث كشفت استطلاعات الرّأي مدى تغلغل الأفكار العنصرية والمعادية للأجانب، وخاصة المسلمين، في شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي، حتّى أن الشعارات التي رفعت كانت تدعو صراحة إلى الهجرة المضادّة (أي طرد المهاجرين)، ونزع الجنسية عمن اعتنقها من الأجانب، ومنع الأسماء غير الكاثوليكية، وتخصيص المساعدات والمساكن الاجتماعية والرعاية الصحية لأهل البلاد وحدهم دون سواهم، إضافة إلى تكميم وسائل الإعلام وإلغاء الهيئات الوسيطة بدعوى أنّها تشجّع على "الاستبدال الكبير"، أي غزو الأجانب لفرنسا.    

منذ أكثر من قرن واليمين المتطرف يحذر من الغزو: غزو الطليان والألمان قبل 1914، والبولنديين واليوغوسلاف قبل 1939، والمغاربيين ثمّ كلّ الأفارقة في العشريّات الأخيرة، وقد اتّخذ التحذير شكل نظرية أطلق عليها المتطرفون مصطلح "الاستبدال الكبير"، واستندوا في إقناع الفرنسيين إلى معطيات أثبت علماء الإحصاء والديموغرافيا والإثنوغرافيا والمفكرون والمؤرخون أنها تخالف الواقع.

ورد المصطلح أول مرة عام 2010 في كتاب "أبجديات البراءة" لرونو كامو، أحد رموز الأوساط الهووية المنادية بفرنسا للفرنسيين، ثمّ جعله هذا الكاتب نفسه عنوانا لكتاب آخر صدر عام 2011، جاء فيه أنّ "شعبا كان هنا، يعيش في استقرار على نفس الأرض منذ خمسة عشر قرنًا أو عشرين، وفجأة، خلال جيل أو جيلين، قدم شعب آخر أو أكثر لتعويضه، واحتلال مكانه، فلم يعد هو هو." أي أن شعبا من المهاجرين القادمين من إفريقيا ومن المغرب العربي هم بصدد تعويض الفرنسيين الأصليين، حسب رأيه. وبالرغم من مقاضاته بتهمة معاداة الأجانب والتحريض على الكراهية، فإنه واصل على نفس المنهاج، بل ترشّح عام 2019 للانتخابات الأوروبية.

وكامو ليس أول من لوّح بفكرة غزو المهاجرين لفرنسا، فهي حاضرة منذ أواخر القرن التاسع عشر داخل التيارات القومية والمعادية للسامية، ففي 1886 كان الصحافي إدوار درومون (1844-1917) قد تحدث عن غزو حقيقي، تهدف من خلاله أقلية ضئيلة، أي اليهود، إلى إخضاع أمّة بأسرها. ثمّ ساهم موريس بارّيس (1862-1923)، أحد دعاة القومية الفرنسية، في ترويجها محذرا من الهجرة اليهودية التي سوف تحوّر ماهية الشعب الفرنسي نفسها. ولكنها انتشرت على نطاق واسع بعد الحرب العالمية الثانية في "أوساط النّازيين الجدد"، حيث قامت مجموعة من قدماء "فافن إس إس"، الجناح العسكري للحزب النازي، من بينهم الفرنسي روني بيني (1913-1957) بالتحذير من تدمير أوروبا البيضاء من قبل المهاجرين القادمين من إفريقيا. ويذكر نيكولا لوبور، المؤرخ المتخصص في اليمين المتطرف على اختلاف فروعه، أن الدوائر النيونازية طورت منذ نهاية الحرب الكونية الثانية فكرة الاستبدال الديموغرافي بإضافة عنصر المؤامرة، وأكدت أن دعاة العولمة ينظمون عمدا هجرة واسعة لبناء "إنسان ما بعد حداثي، فاقد للجذور"، وفقا لما أسمته "نظرية كاليرجي"، نسبة إلى رتشارد كودنهوف كالرجي (1894-1972) وهو مؤرخ ومفكر وسياسي حمل أكثر من جنسية (ولد لأب نمساوي مجري وأمّ يابانية، وصار مواطنا تشيكوسلوفاكيًا، ثم اعتنق الجنسية الفرنسية) وكان دعا في عشرينات القرن الماضي إلى أوروبا متحدة. وقد رأى النازيون الجدد في كتاباته ما يقيم الدليل على خطة سرية لإبادة البيض الأوروبيين؛ أي أنهم يعتمدون في خطابهم على مغالطات تاريخية يؤولونها بكيفية تخدم أهدافهم العنصرية، تماما مثل رونو كامو حين نسب إلى هواري بومدين كلاما لم يقله، حيث زعم أن الرئيس الجزائري الراحل قال في خطاب ألقاه على منبر منظمة الأمم المتحدة في أبريل 1974 إن ملايين الرجال سوف يهجرون النصف الجنوبي للكرة الأرضية لغزو بلدان نصفها الشمالي ويستوطنونها مع أبنائهم. وقد أخذ عنه إريك زيمور تلك القولة المزعومة في كتابه "الانتحار الفرنسي" دون أن يكلف نفسه عناء الرجوع إلى أرشيف الأمم المتحدة ليعلم أن بومدين لم يقل ذلك الكلام، إذ كان في كلّ خطبه يَثني الجزائريين عن الهجرة إلى فرنسا.  

بوكس

ومع تصاعد الشعبوية والتيارات الهووية المعادية للأجانب، وجد مفهوم "الاستبدال الكبير" أصداء خارج فرنسا وأوروبا. من ذلك مثلا أن برنتون تارّانت، مرتكب العملية الإرهابية في كريستشيرش بزيلندا الجديدة نشر قبل اقترافها مانيفستو أطلق عليه The Great Replacement، مستشهدا برونو كامو. كذلك باتريك كروزيوس الذي نفذ عملية إرهابية هو أيضا في إلباسو بولاية تكساس، حيث تخلى اليمين التفوقي عن مفهوم "إبادة البيض" ليتبنى "الاستبدال الكبير". أما في فرنسا، فقد ساهمت المواقع الاجتماعية المعادية للمسلمين مثل "ردّ فعل لائكي" Riposte laïque و"فرنسيون أصلاء" Fdesouche في ترويجه على الأنترنت قبل أن يدخل عالم السياسة عام 2015 مع تفجّر أزمة المهاجرين، ويرسخ في الحياة السياسة، ليتخذه مرشح اليمين الراديكالي اليهودي إريك زيمور ثيمة لحملته الانتخابية، حيث ما انفكّ يحذر الفرنسيين من أسلمة فرنسا في كل تدخلاته وخطبه، ويحاول إقناعهم بهذا "الخطر الداهم" بتزوير التاريخ والحقائق وتأويل الأرقام على هواه.

ومن الطبيعي أن ينهض المتخصصون، كلّ في مجاله، لفضح أكاذيب هذا المرشّح العنصري، الذي سبق أن حوكم بتهمة التحريض على الكراهية والقذف العنصري وإنكار الجرائم ضد الإنسانية. نذكر من بينهم لوران جولي الذي فنّد في كتابه "تزوير التّاريخ" تبييض زيمور صحائف الماريشال بيتان حول تواطئه مع الاحتلال النازي ودوره في نفي يهود فرنسا إلى المعتقلات وغرف الغاز، ومجموعة من المؤرخين فضحت جهله بتاريخ فرنسا في كتاب مشترك بعنوان "زيمور ضدّ التاريخ"، وسيسيل ألدوي التي عالجت في كتابها "لغة زيمور" تقسيمَ هذا الراديكالي العنصري العالم إلى أعداء (الأجانب، المسلمون، النساء) وحلفاء (التيارات ذات النزعة القومية بما فيها روسيا بوتين) واقتناعه بألا سبيل للفصل بينهما إلا بالعنف، لأن التنوع الثقافي في نظره سيؤدي حتما إلى حرب أهلية؛ ونذكر خاصة هرفي لو برا المؤرخ والديمغرافي الذي توقّف عند "الاستبدال الكبير" وفنّد بالأرقام مزاعم كامو وزيمور وكلّ من سار على نهجهما.

في كتاب ذي عنوان صريح "لا وجود لاستبدال كبير"، عمد لو برا إلى ما أسماه débunkage وهو مفهوم عسكري يقصد به إخراج المتحصّن من حصنه، ولكن المراد به هنا هو الوقوف عند تصريحات ما وإثبات أنها خاطئة ومضللة. ولا يكتفي المؤلف بخطاب زيمور، بل يعود أيضا إلى ما سبق أن صرح به بعض زعماء اليمين المتطرف ليبين خطله، مثل تصريح فيليب دو فيليي عام 2006 بوجود "خطة سرية" لدى منظمة الأمم المتحدة تقضي بدخول ثمانمائة ألف مهاجر سنويّا إلى فرنسا ما بين عامي 2020 و2040، في حين أن المنظمة الأممية ذكرت أن فرنسا تحتاج إلى 23600 مهاجر في السنّة خلال تلك السنوات، أي أن المجموع 472 ألف مهاجر وليس 16 مليونًا كما يدّعي زيمور أخذًا عن رفيقه دوفيليي. كذلك كامو حين يُنطق الأرقام حسب مشيئته، فيزعم أن المهاجرين يمثلون 0,05 % من مجموع السّكان الأوروبيين، وأن هذه النسبة المتجددة على الدوام سوف تأخذ أحجاما مهولة، والحال أن عملية حسابية بسيطة تبين أن المجموع لا يتعدى واحدًا في المائة طوال عشرين عاما وخمسة في المائة خلال قرن. وهنا يعود لو برا إلى نبوءات سابقة كتلك التي نشرتها لوفيغارو ماغازين عام 1985، في ملف بعنوان "هل سنبقى فرنسيين بعد ثلاثين سنة؟" أعده الروائي جان راسباي، الذي أثنت عليه مارين لوبان زعيمة حزب التجمّع الوطني، والأمريكي ستيف بانّون مدير حملة دونالد ترامب، والبريطاني إينوك بويل الذي تنبأ عام 1968 بأن الهجرة من خارج أوروبا ستؤدي حتما إلى أنهار من الدم. وقد جاء في الملف أن فرنسا، في غياب تغيير جذري لسياسة الهجرة، سوف تصبح إفريقية إثنيًّا، وإسلامية ثقافيًّا، وأنّ سكانها في العام 2015 سيتألفون من 7,9 مليون غير أوروبي، و48 مليونا من أصول أوروبية، باعتبار أن نسبة الولادات لدى الفريق الأول تعادل 43 % سنويّا. ويبين لو برا أن الواقع يخالف تلك الأرقام، فعدد الأجانب غير الأوروبيين حتى ذلك العام يقدّر بـ 2,7 مليون ونسبة الولادات لا تتعدى 6,5 %.

لوحة: آزاد حمي
لوحة: آزاد حمي

ويواصل لو برا في كتابه تقديم الحجج الدامغة التي تفضح تهافت دعاة "الاستبدال الكبير"، فيذكر أن كامو يقول إن "الاستبدال الكبير ليس "نظرية بل حقيقة ناجمة عن معاينة، وحسب المرء أن يخرج إلى الشارع ليرى بعينيه أن شعبا آخر سيعوض الشعب الفرنسي، بعد جيل أو جيلين"، ولكن قوله ذاك لا يصمد أمام أرقام المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية INSEE، التي تبين أن في عام 2021، يعيش في فرنسا 7 ملايين مهاجر، أي 10,3 % من جملة 67,6  مليونًا، من بينهم 2,5 مليون حصلوا على الجنسية الفرنسية؛ وأن أقل من نصف المهاجرين الذين يعيشون في فرنسا (47,5%) ولدوا في إفريقيا، أي ما يقرب من 3,3  ملايين شخص. هذه النسبة تقدّر بـ 4,76% من مجموع السكان. كما يشير معهد الإحصاء إلى أن نسبة المهاجرين، قياسا بإجمالي السكان، مرت من 5 % في عام 1946 إلى 7,4 % في عام 1975 ومن 7,3 % في عام 1999 إلى 10,3 % في عام 2021. أي أن تلك النسبة ظلت ضئيلة إلى حد كبير خلال الخمس والسبعين سنة الماضية. ولو أجرينا استشرافا لغاية 2050 (وهو الأفق الذي غالبا ما يذكره دعاة "الاستبدال الكبير")، فالنتيجة ستكون أبعد من أن تشكل أي استبدال للسكان الأصليين.

نقطة أخرى ركز عليها المرشح زيمور، للدلالة على سريان "الاستبدال الكبير"، تخص عدد الوافدين إلى فرنسا كل عام، فقد زعم أن عددهم 400 ألف سنويا خلال السنوات الخمس الأخيرة، أي خلال عهدة الرئيس ماكرون، والحال، يقول لو برا، أن العدد يتراوح بين 250 ألفا و275 ألفا، من بينهم 74 ألفا من مواطني الاتحاد الأوروبي، و184 ألفا من المهاجرين العرضيين، الذي يأتون للدراسة أو سواها، ولا يستقرون في فرنسا. والغاية من تزييف الأرقام هي إقناع المواطن الفرنسي، ولو كذبا، بأن بلاده سوف يغزوها "الحشاشون" إن لم يهبّ لنصرتها من الآن. المفارقة أن الجهات التي تصدق خطاب اليمين المتطرف وتصوت لزعمائه تخلو أو تكاد من المهاجرين، ذلك أن الهجرة بالنسبة إلى الشعبوية هي بمثابة العرق لدى النازية والطبقية لدى الشيوعية: قاعدة أيديولوجية تتبلور حول مفهوم لا أساس له من الصحة، أي "الاستبدال الكبير"، ولكنه يجد صداه لدى الشعبويين في سائر أنحاء أوروبا (النمسا، ألمانيا، إنجلترا، إسبانيا، إيطاليا، سويسرا)، الذين تلتقي أحزابهم المتطرفة حول رؤية هووية، تنبذ الآخر، وتستبدل بخطاب معاداة السّامية القديم، خطابا عنصريا معاديا للإسلام، كما يؤكد نيكولا لوبور.  

 يقول هرفي لو برا: "أن تشتري كتابا أو صحيفة تبيع فظائع "الاستبدال الكبير" هو بمثابة شراء تذكرة سينما لمشاهدة فيلم رعب، حيث يكون المتفرج سعيدًا بالخوف الذي ساوره، ولكن كل ذلك مصطنع، لا علاقة له بالواقع."

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.