الباص الأحمر

السبت 2022/10/01
لوحة: وليد علاء الدين

“رشيدية عربي صاعد رشيدية عربي!” يناديني الصبي إلى ركوب الباص الأحمر، برغم أنه يناديني كل يوم، وأركبُ كلّ يوم. اعتدتُ توديع بعض الصِّحاب قبل الركوب، تلفتُّ يمنةً ويسرة، ولم أجد غير بعض البائعين المتناثرين على الرصيف، رصيدًا وماء بارد وبعض الكعك الرخيص وتفاح وخوخ، وآخرٌ يبيع نفسه، لا أحد أعرفه، لا أحد يعرفني، فأركب. كان الباص ممتلئًا إلاّ مقعدين، ملأتُ الأول لأجلس قرب المقعد الفارغ، ثم عجوز يصرخ بصوته المبحوح “ديلّا حرّك يمعوَد مو أشتعَل أهل أهلنا!”، فيُغلق السائق البابين، ويُحرّك.

أُخرجُ الشاعر من عُمقِ الحقيبة، ليقرأ لي بعض القصائد في الطريق، ولكنني كالعادة، أُجلِسهُ في حجري واقرأ وجوه الراكبين. أُمٌّ تُرضعُ طفلها تحت الوشاح الرمادي السميك، وزوجها الأربعيني يجلس قربها ووجهه باحمرار الباص، يتصيّد مختلسي النظر، نحملقُ جميعًا في ثديها المخفي، برغم أن الجميع يشيح أنظاره بعيدًا عنها احترامًا. حتى هي، تحملق في ثديها ورضيعها المخفيّ، تخاف أن ترفع رأسها وترى لا أحد ينظر نحوها.

نعبر جسر السويس، لا أحد ينزل، ولا الباص يقف.

يبدأ الصبي بجمع بقايا أموالنا تحت تهديد ابتسامة، يتجادل الأصدقاء على من يدفع، الأم لا تبالي فلا تحمل إلا طفلها وثديا وبعض الحليب؛ زوجها سيدفع، يصلني الدور بعد دقيقتين، يقف الصبي منتظرًا، أنظر للمقعد الفارغ بجانبي، وأتذكّر، إن لم أدفع أنا، لا أحد يدفع.

شارع المهندسين، لا أحد ينزل، ولا أحد يرضى أن يملأ المقعد، فيمضي الباص.

أرى شابًّا على الجانب الآخر من الممر الضيق يُراجع لامتحانه، لي فضول بأن أعرف ما الذي يدرسه، لماذا لم يكمل دراسته أمس بالرغم من أن أوراقه تظهر عليها أمارات السهر. إنه منهمك في دراسته، لا يرى الركاب ولا الطريق، ولا حتى الباص. أريد أن أعرف، ولكنه لا يريد لأحد أن يعرف.

نفق الجامعة، لا أحد ينزل. قارعة الطريق تغصُّ بالركّاب، الذين ينتظرون ما يركبونه، يُفَتحُ الباب، لا أحد يركب، لا أحد ينزل، ننتظر ثلاثا وأربعين ثانية حمراء، اثنان وأربعون، واحد وأربعون، أربعون… الوقتُ يلتهم البقية، واحد، لا يظهر الصفر ثم تخضرُّ العلامة، ويمضي الباص.

جنديٌّ يجلسُ في مقعدٍ فرديّ بقرب النافذة، دون خوذة ولا سلاح، ورأسه في الأرض يعدُّ هزائمه والجبهات والحروب الممكنة. يخشى أن يرفع رأسه فيرى الجميع انعكاس الهزائم في عينيه، الأرضُ لا تحاكمه عندما ينظر إليها، لا تخبره بأنه هو الذي يدافع عن الوطن، لا وطن له، لا تخبره بأن جميع من يحميهم، لا يرونه، فهم مثله، بلا وطن، وبأن الوطن نفسه، يشعر بالغربة. ينظر إلى الأرض وتموت نظراته في السواد المتحرّك.

وصلنا الجامعة ونعبر باب الرئاسة، لا أحد ينزل، حتى ذاك الشاب، منهمكٌ في أوراقه، ولا يعرف بأنه وصل. أرى عشرات الطلاب الذين ينتظرون الباص، ينظرون إلى البعيد، وأكفّهم مظلّات تحجب شمسِ تشرين عنهم، ويبحثون في الأفق عن الباص. بينما يمضي الباص.

أفتحُ نافذتي كي تلعبُ الرياح الضجِرة في خصلات شعري الجافّة، أميلُ إلى حافّة النافذة وأُرخي رأسي على الستارة، عيناي تقاومان النوم والضجر، وتنهزمان أمام الرياح، أتظاهر بأنني أغفو، فأغفو.

“وصلنا المحطة الأخيرة” يصرخ السائق من وراء الحاجز البلاستيكي الأزرق. أصحو وأشعر بأنني غفوتُ لساعتين، أتلفّتُ حولي، الباص يقفُ في مكانٍ لا أعرفه، أفكّر: سأنزل ما دمتُ لا أعرفه، سأكمل غفوتي على الرصيف. أضعُ شاعِري في حقيبة الظهر ثم أرتديها، أودّع المقعد الفارغ وأنزِل. ثم تحمل الأم ثديَها ورضيعها وبقايا الحليب تحت الوشاح، وتتبع خطوات زوجها المتجهم وهو ينزل. ثم ينهض الشاب دون أن يرفع عينيه عن أوراقه فيرتطم بالعَمود الأيمن من الباب، لِينزل. يقوم الجندي بتشكيل كفّيه على شكل زورق، يضعه في بركة نظراته الآسنة، ثم يحاول جمعها في جيوبه المبتلّة، ويقوم بحمل هزائمه على ظهره المحدودب، ثم ينزل. وينزل الآخرون بتتابع، يتساقطون من الباص واحدًا واحدًا، ثم يتركون السائق والصبي وحيدَين مع الباص. ينظر الصبي إلينا، يومئ بكتفَيه بلامبالاة، وينزل. ثم قام السائق وترك المفتاح في مكانه وبقيَ المحرّك يدور، ونزل هو الآخر. تفرّقنا في كل الجهات، وتركنا الباص الأحمر وحيدًا في منتصف الطريق، ينتظر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.