البحث عن الذات في عالم مضطرب

الجمعة 2017/12/01
لوحة: دينو أحمد علي

أكتب هذه الكلمة وفي جواري 34 عدداً من “الجديد”، لأفتتح بها عدداً يطوي ثلاث سنوات من الصدور الشهري المنتظم، تصدت خلالها المجلة لجملة من القضايا الفكرية والأدبية الشائكة، إلى جانب عنايتها بنشر الإبداعات القصصية والشعرية وأدب اليوميات والحوارات والسجالات الأدبية والفكرية ونقد الكتب، بانفتاح وحرية رفعت بالضرورة سقف التعبير وحضّت الكتّاب في مشرق الوطن العربي ومغربه على الجرأة في طرح الأفكار والتعبير عن القضايا وتحليل الظواهر في ظل جغرافيا ثقافية مرتبكة وواقع عربي شهد ويشهد خضات وتحوّلات عاصفة وسريعة اضطرب حيالها الفكر وعجزت في مرات عديدة أدوات المثقف عن تحليل الوقائع والمجريات.

منذ عددها الأول انتهجت المجلة دربا وعرة لتعبّد بتجربتها الطريق أمام الأقلام الجديدة المبدعة والجريئة، مستقطبة إلى ملفّاتها الفكرية أقلاما عربية راسخة وأخرى طالعة، لِطَيْفٍ واسع من المفكرين والكتّاب من مختلف الجغرافيات العربية، ومعها جغرافيات المنفى، وشملت كتاباً ومثقفين من اتجاهات ومشارب فكرية تشترك في ما بينها بوعي ضرورة التجديد والحداثة، إنْ في الثقافة أو في الاجتماع. وقد تلاقت الأقلام التي أضاءت مصابيح “الجديد” على قاعدة الإيمان بحقّ الفكر في الاختلاف وضرورة الجدل وأهمية الحوار الحرّ بين مختلف الأفكار.

رأت “الجديد”، منذ البداية، أن لا سبيل لإشاعة فكر عصري يأخذ بأسباب التنوير في مواجهة فكر الظلام، من دون الأخذ بقيم العصر، ومن دون حوار من نوع جديد بين النخب الثقافية العربية التي تملك تطلّعات مستقبلية وتخوض معركة تجديد الأدب إلى جانب معركة الانتقال من نموذج الدولة القروسطية إلى دولة القانون والحقوق المدنية للأفراد والجماعات، وهي عمليا، معركة العقل مع الخرافة والنور مع الظلام، في مواجهة شاملة مع ثقافة الاستبداد والتشدد الديني والتطرف والعنف، ليكون في إمكان المجتمعات العربية أن تصل أسبابها بأسباب العلم والمدنية وتحقق التطلعات والأحلام المعبّرة عن توق الأجيال الجديدة لأن تكون جزءا من عالم لم يعد ممكناً أن يراوح في أوهام الماضي وصيغ العيش الاستهلاكي مقرونة بالتفكير القروسطي.

من هنا عنيت المجلة، وما تزال، بتكريس جزء كبير من صفحات أعدادها للحوار الفكري، وفي هذا السياق حرّضت كتابها على مباشرة مراجعات نقدية تطال الفكر والأدب والفن، وحتى الخطاب النقدي بصيغه التقليدية، ودعتهم إلى ربط مراجعاتهم بأحوال المجتمع وتطلعات نخبه الداعية إلى التغيير من دون الركون إلى صيغ جامدة أو الاستسلام إلى ما هو شائع من مصطلحات موروثة من أيديولوجيات عفا عليها الزمن. آخذة بعين الاعتبار ضرورة نقد الذهنية المرتبطة بالفكر الشمولي التي وقفت وراء جزء أساسي من خطابات الثقافة العربية عبر عقود مضت.

ومن الإنصاف والأمانة أن نكون صريحين ونعترف بأن مهمة “الجديد” لم تكن طيلة الوقت يسيرة. فالحض على الجرأة في الكتابة والتعبير لم يلق الصدى المنتظر من دون إلحاح ومتابعة دؤوبة من المشرفين على التحرير. ولا بد أن نعترف، أيضاً، أن التطلع كان باستمرار أبعد من الممكن والمتاح، لكنّ جسامة المهمّة ظلت زاداً للمغامرة ودافعاً للمواصلة لتحقيق التطلعات التي عبّرت عنها “الجديد” في افتتاحية عددها الأول.

على أن نظرة متفائلة على “المنتج المعرفي” المنشور خلال رحلة السنوات الثلاث، أدباً وفكراً، إنما يمدنا بالأمل والكثير من الأمل. فهناك أقلام تجرّأت وعبّرت عن مكنون أصحابها وأفكارهم وميّزت بالتالي نفسها عن المتداول والسائد في منابر الثقافة العربية، وهو ما يعطي زخماً للمنجز وللمشروع التنويري للمجلة.

ولدت “الجديد” لتفتح صفحة مضيئة في الثقافة العربية، وفي خطتها للسنة القادمة مجموعة من الملفات والأفكار التي تطمح إلى تحقيقها والأقلام التي تتطلع إلى استقطابها لمواصلة نزعتها النقدية وتطلعاتها في طرح الأسئلة الصعبة ومقاربة الموضوعات الشائكة وعلى رأسها تلك التي دأبت الثقافة العربية على وصفها بالمسكوت عنه من الموضوعات والقضايا، ليكون هذا السلوك دافعاً ومحرّضاً لمغامرين آخرين يتطلعون إلى تجديد دم الثقافة العربية بمزيد من الأسئلة والمشروعات والمنابر ذات الطابع الحواري والسّجالي، وبالتالي حض حملة الأقلام على مزيد من الجرأة في الكتابة أدبا وفكراً ودفعهم إلى سلوك سبيل المراجعة والنقد لما يصدر عنهم، ومناقشة القضايا الشائكة بحريّة وانفتاح وقبول وجود طرائق متعددة في النظر إلى الأشياء. فلم يعد بالإمكان الركون إلى طريقة واحدة في التفكير ولا إلى منبر واحد أو طريق واحدة.

ولا تغيب الإشارة إلى أن “الجديد” عنيت بصورة خاصة بتظهير حضور المرأة في الكتابة الأدبية والفكرية، وبدورها في إنتاج السؤال الفكري. وقد اغتنت صفحات المجلة بكتابات لها وكتابات عنها، وأفردت العديد من الملفات للشعر والقص والنقد والسؤال الفكري الصادر عنها، ودار نقاش لم ينقطع حول المرأة والكتابة وهو ما أتاح فرصة للتعرف عن كثب على خطابات المرأة ثقافيا والخطاب الثقافي العربي نحو المرأة وانشغالات المرأة الكاتبة.

ليس من شأن هذه الكلمة أن تغطّي كل الخواطر والأفكار والتداعيات التي تثيرها فكرة الوقوف على السنوات الثلاث الماضية من عمر المجلة. ولعل جردة الحساب الحقيقية هي في العودة بحرية وأناة إلى أعدادها الصادرة للوقوف على ما نشر فيها. والأمر في الحقيقة مدعاة فخر واعتزاز لنا، لما تحفل به المجلة من كتابات لا بد أن تكون في يوم مقبل سجلاًّ حافلا من سجلاّت الثقافة العربية الحرة والمتجددة.

يهمنا أخيراً أن نواصل دعوة الأقلام العربية الحرَّة والجريئة وأهل الأدب المتطلعين إلى الابتكار في الكتابة والجرأة في طرح السؤال إلى لمشاركة في مشروع “الجديد” تحت سماء عالم اختلّت فيه الموازين، وأحوال عربية عاصفة ولكنها كئيبة، تستدعي إيقاد، لا شمعة واحدة، وإنما شموع كثيرة تبدد ظلام الحاضر وتضيء للوجدان أغوار الذات وللعقل طريق المستقبل.

لندن في ديسمبرـ كانون الأول 2017

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.