البرتقال في وهران، والرطب في ليوا: المهرجانات الشعبية ثقافة وطنية

الخميس 2022/12/01
ظاهرة سنوية ينتظرها الناس

أول ما يلفت نظرك في مدينة سورينتو في الجنوب الإيطالي أن كل شيء فيها يحمل إشارة إلى المنتج الزراعي الرئيسي لها وهو الليمون. ثمرة الليمون على واجهات المحلات وفي الشوارع. حتى المسيرة المسيحية التي غادرت كاتدرائية المدينة، وتحمل تماثيل للسيد المسيح ومريم العذراء، كانت مزينة بعناقيد الليمون. لعين اعتادت رؤية تجميل الكنائس والمسيرات بعناقيد الكروم، رسما ونقشا وحفرا على الخشب ونحتا على الرخام، يبدو الليمون شيئا مختلفا تماما عن المعتاد. الجنوب الإيطالي، ومدينة سورينتو إحدى لآلئه، يعامل الليمون كثمرة مباركة. وهذا ينعكس على الثقافة الشعبية التي تقود الذائقة البصرية لتتأكد من أن الليمون وشجرته حاضران في كل شيء.

المهرجانات الشعبية مركبة إلى درجة كبيرة على أساس تاريخي يرتبط بتفاصيل الممارسات الحياتية، وخصوصا ما يرتبط بالقوت والعيش. تتبع عيد الكريسماس الذي يحتفل فيه العالم والمسيحيون على وجه الخصوص بولادة السيد المسيح، فستجد أنه عيد وثني من عصر الرومان، وربما قبلهم، يكون فيه المزارعون قد حرثوا الأرض وبذروها وتوقفوا عن العمل انتظارا لانجلاء برد الشتاء. يوم 21 ديسمبر يحدث الانقلاب الشتوي، وما بعده يعود النهار ليطول ومعه شمس أدفأ وأمطار أكثر وصولا إلى الربيع. اختار المسيحيون الأوائل أن يجعلوا العيد عيدين. هنا تطابق الاقتصادي مع الاجتماعي مع الديني. من فكر بهذا، يكون قد حفر الكريسماس في ثقافة شعبية سائدة.

بوكس

قبل أيام، احتفل الجزائريون بمهرجان البرتقال في وهران. لا أعرف تاريخ المهرجان، لكنه شيء مفرح. ثمة موقف سياسي من الأعياد والمهرجانات في الجزائر، يجعلها ترتبط بالنضال من أجل التحرر وأعداد الشهداء. هذا من حق بلد واجه ما واجهه، من اضطهاد على يد مستعمر في عز عنجهيته، تمكن مما تمكن منه في فرض لغته وغيّر طبائع أعداد كبيرة من الجزائريين بين فرنسة ثقافية أو المشاركة في قمع بقية الشعب. لكن الاستعمار انتهى عام 1962، ولا حجة للجزائر أن تبقى أسيرة عهد الاستعمار وتنسى تاريخها الاجتماعي الخاص الذي يحتفي بالزراعة والثقافة المحلية، وبالمدن وطريقتها في الحياة. مهرجان البرتقال فكرة ذكية للعودة إلى الأصول، بعد أن استنزفت الجزائر نفسها وثرواتها النفطية والغازية في البحث عن شخصية ثقافية ثورية لا تجد أجيال الشباب، الذي يهاجر بالملايين إلى فرنسا، ما يربطه بها إلا الدعاية الحكومية واستعراضات الجيش. البرتقال أبقى وأكثر فائدة في ربط هؤلاء الشباب الباحثين عن فرصة في حياة صعبة بالأرض. البرتقال يواجه الجفاف أكثر مما تفعل الإجراءات الحكومية.

خذ مثلا المهرجان السنوي للرطب في واحة ليوا في إمارة أبوظبي. تحوّل المهرجان، ومهرجانات أخرى في منطقة الظفرة – المنطقة الغربية من الإمارة، إلى ظاهرة سنوية ينتظرها الناس. ليوا واحة نخيل تشكلت على مر العصور كهلال من البساتين، بحكم تسلل تيار رطب من ريح المحيط إلى منطقة الربع الخالي. الخضرة في محاضر ليوا تعني الحياة متجسدة بنخلة وثمر. لا شك أن المواطن الإماراتي من أكثر الذين انعكست الثروة النفطية على حياتهم من بين الشعوب العربية. لكن هذا ليس سببا لخنق الثقافة الشعبية المحلية المرتبطة بالنخيل والتمور والإبل والصيد البحري. بل العكس هو المطلوب. هذه المهرجانات، التي توسعت رقعتها لكي لا تكون محصورة بالتمور وأنواعها وصارت مباراة للمزيد من الثمار، كانت من أسباب تمسك المواطنين الإماراتيين بنمط حياتهم التقليدي، وعدم المبالغة في ترك حياة البداوة الأصيلة نحو إغراء العاصمة أبوظبي أو بقية مدن الإمارات المبهرة. الثقافة الشعبية ثقافة وطنية أيضا، لأنها تذكير مستمر بأسس جمعت الناس من قبل الدول والحكومات والثروات التي تستخرج صناعيا اليوم من باطن الأرض.

أثناء بناء الثقافة المعاصرة في عالمنا العربي استوردنا الكثير من المفردات الثقافية الغربية. صار عندنا مسرح بمواصفات أوروبية، وسينما تحاكي هوليوود، وإنتاج درامي تلفزيوني يشبه ما ننتظره من مسلسلات أميركية. الرواية اليوم أوسع انتشارا من الشعر في منطقتنا، والشعر العربي العمودي تأقلم مع الروح المنطلقة للشعر الحر الإنجليزي. أثقل المترجمون علينا بترجمات ثقافية للمفكرين الغربيين يتحدثون عن واقعهم وتفسيرات التغيرات في الغرب لدرجة أننا غرقنا بأدواتهم وفكرهم ولم نتمكن من تفسير ما نشهده في المنطقة ولم تتمكن إسقاطاتنا أن ترد على الكثير من التساؤلات. حتى الكتابات نجدها غارقة بالمفردات المستعارة. هذه أزمة حقيقة، لأن نوع الثقافة الذي تمت تنميته خلال العقود الماضية صار محاكيا للغرب ولا يعكس إلى حد كبير التطور الثقافي الاجتماعي الخاص بنا. المسألة ليست استخدام أدوات موسيقية غربية مقابل التخت الشرقي المعروف، بل إن مطربنا يغني مستعيرا أنماطا غربية واضحة، بل وينسخها بلا وجل.

مهرجان البرتقال في وهران ومهرجان الرطب في ليوا وومضات من الاحتفاء بالجوانب الاجتماعية المختلفة مثل حياة البدو في مهرجان طان طان في المغرب، هي أسلوب للاحتفاء بالثقافة الاجتماعية التي يمكن أن تستمر بالتوازي مع حركة التطور في مجالات أخرى. دعونا نتذكر مواعيدها وأن نحضرها ونساهم فيها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.