التجريب الإبداعي

الطُّفولة واليفاعة والفُتوة
الأربعاء 2021/12/01
لوحة: ناظم حمدان ​

لنبدأ تبصُّرنا في العلاقاتِ القائِمَةِ يبن مُكَوِّنات هذا العنوان بتأكيد الخُلاصة التي تقولُ إنّ كُلّاً من هذه الآداب “أدب الأطفال أو أدب الطُّفُولة”، و”أدب اليافعين أو أدب اليفاعة” وآدب الفتيان أو أدب الفُتُوّة”، إنّما هُو فرعٌ مُميّـزٌ من فُروع الأدبِ، وذلك وفق ما كانت مناقشةٌ مُعمّقةٌ تضمّنها كتابُنا “أدبُ الأطفال بين كتابة الإنشاء وإنشاء الكتابة”، وتركّزت على “أدب الأطفال” مع إلماحات غيـر قليلة إلى “أدب اليافعين” و”أدب الفتيان”، قد خلُصت إليه؛ إذ أكّدت ما مُؤدّاهُ أنّ أدب الأطفال فرعٌ من فُروع الأدب، بمعناه العميق والواسع، وبشتى أشكاله وتجلياته، إلاّ أنّهُ فرعٌ مُتميّزٌ يتّسمُ بخصائص نوعية تستقل به عن غيـره، وتجعله “أدب أطفال” فيما هي تُعمّقُ صلته بالأدب، وتُؤكّدُ حقيقة أنّهُ ينهضُ على أُسُس عامة تصلُهُ بالإبداع الأدبيّ عُمُوماً، وتربطه بمقومات العملية الإبداعية، وبالآليات التي تُنتجها وتنحكم إليها، ولاسيما تلك الرّاسـخة في الوجُود الإنسانيّ على تنوُّع الأنشطة الإبداعيّة التي تُجلّي وُجُودَهُ إذ تُظْهرهُ من إضمارٍ، أو احتجاب، أو خَفَاء.

وليس لما يجري، أو لما يُسْتَبْعَدُ فلا يجري، حين يكون الإبداعُ الأدبيُّ مُوجّهاً للطّفل والطّفلة، أو لليافع واليافعة، أو للفتـى والفتاة، أن يُفَارِقَ جوهر العمليّة الإبداعيّة، وأُسُسها، ومُقومّاتها، وآلياتها الرّاسخة، فهو أقرب ما يكون إلى عملية تكييف لهذه الأُسُس، والمُقوّمات، والآليّات الإبداعيّة الرّاسخة والقابلة للتّوليد، أو الجديدة المُبتكرة، وذلك على نحو يستجيب للمعطيات الخاصّة بالغرض الذي تتوخّاه الكتابة (الرّسالة)، وبخصائص المتلقين (المرسل إليهم)، وبالمكونات والعلاقات التي ينبغـي لجسد الرّسالة (النّص الإبداعيّ) أن يتّسم بها بغية تحقيق الغرض الرئيس الذي توخّاه كاتبها، أو كاتبتها، (المبدع أو المبدعة/ المرسل أو المرسلة) عبـر مُواءمة إبداعهما لها  مع خصائص المُتلقّين المُستهدفين بها، ومع مُستويات نموّ ملكاتهم النّفسية والعقليّة، من جهة، ومع منظومة المعايير الرّؤيويّة والجماليّة للجنس، وللنّوع، الأدبيّين، اللّذين ستنتمي هذه الرّسالة  الإبداعيّة إليهما على وجهيّ العُمُوم والتّخصيص على التّوالي.  (لمزيد من التّفصيل، أنُظر: عبدالرحمن بسيسو: أدب الأطفال بين كتابة الإنشاء وإنشاء الكتابة، دار ابن رشد، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015 ، ص  29 وما بعدها، ومواضع أخرى).

وما لهذه الخُلاصة أن تتعارض، في تصوُّري، مع جوهر وجهة النّظر التّي كان الكاتب والنّاقد الفرنسي ميشيل تُورنييه (19 ديسمبر 1924– 18 يناير 2016) قد بلورها نافياً خُصُوصيّة “أدب الأطفال”، ورائياً أنّ هذا الأدب” هو زُبدةُ الأدب وجوهرهُ”، ذلك أنّها خُلاصةٌ نهضت على مُناقشة مُتعدّدة المنظورات لوجهة النّظر هذه، وتأسّست، أساساً، على مُقاربات  تحليلية نقديّة سعت إلى استخلاص السّمات والخصائص الرؤيويّة والجماليّة المُتجيلّة في كتابات إبداعيّة  تنتمـي إلى “أدب الأطفال” على تنوُّع غُصُونه المُحيلة إلى الأجناس الأدبيّة التي يخترقها: شعر، وأقصوصةٌ سهلة القراءة، وقصّة قصيرة، وكتابٌ قصصيٌّ مُصوّر، وقصّةٌ ذاتُ فُصُول.. إلـخ، فأفضت؛ أي المُناقشةُ، إلى بلورة رأي لا يُخلُّ بجوهر وجهة نظر تورنيية، وإنّما يتفادى الأخذ بالمُسّوّغ الرئيس الذي بناها عليه مُستنبطاً منهُ البراهين والحُجج!

ولعلّ لإدراكنا حقيقة أنّ تحقُّق وُجود عمل إبداعيّ هُو، بمُفردة وفي حدّ ذاته، اللُّبابُ والزُّبدةُ، أو هُو جوهرُ الأدب وخلاصةُ خُلاصاته الجوهريّة، إنّما هُو أمرٌ نادرُ الوجُود، في جميع أنواع الأدب وفروعه وأشكاله، أن يكون هُو قد ما حفّزنا على تفادي الأخذ بالمُسُوّغ الذي أخذ به تُورنييه ليُبلور فكرتهُ المُتعلّقة باعتبار أدب الأطفال “جوهر الأدب” و”لُبابهُ وزُبدته”! كما أنّ إقبال الصّغار على قراءة عمل أدبيّ ما، واستمتاعهم به، رغم أنّه ليس مُوجّهاً إليهم، وهُو الحُجّةُ التّـي سوّغ بها تورنييه وجهة نظره، لا يمكن أن يكون معياراً وحيداً لقياس القيمة الجمالية لهذا العمل الأدبيّ أو ذاك، أو للإعلاء من شأنه على حساب غيـره من الأعمال المُتوافرة على معايير “الإجادة، والوضُوح، والإيجاز” التـي تجعلها، بحسب رأيه، ذات شأن وقيمة، والتـي أحسبُ أنّ الأطفال، وكذا اليافعين والفتيان وإن بدرجة أقّلّ من الأطفال لا يُقدمُون على قراءتها، ولعلّهُم لا يجدُون مُتعةً في قراءتها إن هي قُدّمت إليهم، لأنّهُم، ببساطة، لا يستطيعون قراءتها، فلا يتفاعلون معها؛ فهل لأمر، أو شيء، لا يستطيعون مُمارستهُ، أو امتلاكهُ، أن يُمتعهُم، ناهيك عن أن يكُون نافعاً لهُم فيما هُو يُمتعُهُم؟

يبدُو أنّ تورنييه صاحب المقولة الإنسانيّة العميقة؛ الفكريّة والجمالّية، المُركّزة: “الإبداعُ هُو الطّفلُ”، والذي هو مُفكّرٌ وروائيٌّ وقاصٌّ يكتبُ روايات وقصصاً خياليّةً للأطفال واليافعين والفتيان والكبار في آن معاً،  قد أراد تأكيد رفضه القاطع للاتّجاهات النّقديّة، وغيـر النّقديّة، التـي تُخرجُ الكتابة للأطفال من حقل الإبداع الأدبيّ، أو الابتكار، أو التأسيس الجمالي، وتدخلها حقل الوعظ والإرشاد الدّينيين، والتّلقين الأخلاقيّ والتّربويّ، و”كتابة الإنشاء لأغراض آنيّة”، بالمعنى السّلبيّ المُتداول للعبارة الأخيـرة على تعدُّد مجالات هذه الأغراض وتنوُّعها. وما من دليل على تميُّـز أدبيّ: “الأطفال”؛ واليافعين والفتيان”، أسطعُ من إقدام تورنييه نفسه على إعادة صوغ بعض الروايات لتُناسب الأطفال، أو اليافعين، أو الفتيان، الّذين يُوجّهُ الكتابة صوبهُم. (للإطلال، بتوسّع، على رأي تورنييه،  أُنظُر: ميشيل تُورنييه: “هل ينبـغي أن نكتب للأطفال؟”، رسالة اليونسكو، العدد 253، يونيو 1982، ص 33-  34).

ثالُوثُ آداب: الطُّفُولة واليَفَاعَة والفُتُوّة

لوحة: ناظم حمدان
لوحة: ناظم حمدان

ولعلّ لما تقدّم قولهُ بشأن اعتبار “أدب الأطفال”، أو “أدب الطُّفولة”، فرعاً مُميّـزاً من فُروع الأدب، أن يصدُق تماماً على ما يُصطلحُ على تسميته بـ “أدب اليافعين والفتيان”، أو “أدب اليفاعة والفُتُوّة”، ذلك أنّ ما يجعلُ من أيّ منهما فرعاً مُميّـزاً من فُروع الأدب، إنّما يعود إلى مُحدّدات جوهريّة تتعلّقُ، أساساً، بخصائص المرحلة العُمريّة التي تتوجّهُ الكتابةُ الأدبيّةُ الإبداعيّةُ إليها، فتُوجّهُها، وتسترشدُ بمُعطياتها وحقائقها، وتتأسّسُ على وعي عميق بمُحدّداتها  الجسديّة، والنّفسية، والعقليّة، والاجتماعيّة، فتُؤسّسُ خصائصها، وسماتها، الرؤيويّة والجماليّة المُتواشجة، ككتابة إبداعيّة مُوجّهة، على الاستجابة التّفصيليّة الواعية لمُقتضيات تلك الحقائق والمُعطيات والمُحدّدات.

وثمّة، بحسب عالم النّفس السويسري جان بياجيه (9 أغسطس 1896 – 12 سبتمبر 1980)، أربعُ مراحل، أو أحقاب، عُمريّة للطُّفولة من سن صفر إلى سن 12 سنة: المرحلة الحسيّة والحركيّة (السّنتان الأولى والثّانية، حيثُ يتمتّعُ الطّفلُ بملكة الإحساس بما يُحيطُ به وحيثُ يشرعُ في تكوين صُور عن الأشياء)؛ والمرحلة ما قبل الإجرائيّة (من نهاية السنة الثانية حتّى نهاية السّنة السادسة أو السّابعة، حيثُ يشرعُ الطّفلُ في تصنيف الأشياء، وفي فهم بعض العلاقات السّببيّة، وفي استيعاب مفاهيم الأرقام)؛ ومرحلة الملموس الإجرائيّة (من نهاية السنة السّادسة أو السّابعة حتى السّنة الحادية عشرة أو الثّانية عشرة، حيثُ يُباشرُ الطّفلُ التّعامُل مع عمليّات عقليّة منطقيّة عديدة، كالحفظ، والتّذكُّر، وانتقال الأحكام وقابليّتها للعكس).

أّمّا المرحلة الرّابعةُ، وهي البادئةُ مرحلة اليفاعة والفُتُوّة، فتمتدُّ من  نهاية السّنة الحادية عشرة أو الثّانية عشرة، ويُسمّيها جان بياجيه بـ”المرحلة الصُّوريّة”، وفيها يكُونُ عقل الطّفل قد نما، وعمليات تفكيره قد تطوّرت، على نحو يُمكّنُه من ممارسة التّعليل العقلي المُجرّد، وبلورة التّصوُّرات، واستخدام الرُّموز.

وفي السّمات الجسديّة، والنّفسيّة، والعقليّة، الواسمة هذه المرحلة العُمريّة، ما يُمكّننا من تسويغ اعتبار الأدب المُوجّه إلى اليافعين والفتيان فرعين مُميّزين من فُروع الأدب، فيما يُمكن اعتبار نهايات المرحلة الثّالثة من عُمر الطُّفولة مرحلة انتقاليّة يتواجدُ فيها، ويتداخلُ، كلا هذين الفرعين من فُروع ثالوث الأدب التّي نُفضّلُ تسميتهُما بـ”أدب الطُّفولة”، و”أدب اليفاعة”، و”أدب الفُتُوّة”.

يتميّزُ أدبا اليفاعة والفُتُوّة في كونهما يُغطّيان، رُؤيويّاً وجماليّاً، المرحلة العُمريّة الممتدة من العام الثّاني عشر أو ما قبله بقليل، حتى العام الثّامن عشر أو ما هُو أبعد منهُ ببضع سنوات، ودائماً بحسب تبايُن البيئات وتغايُر وتائر النّمُو بين شخص وآخر. وبسبب تميُّزهما بالشُّرُوع في  تغطية المرحلة العُمريّة الموسومُة بالانتقاليّة، والتّوتُّر، وتسارع وتائر النّموّ، والمشتملة، أساساً، على ما يُعرفُ بـ”مرحلة المراهقة” التي فيها تتبلورُ مُكوّناتُ هُويّة الفرد الأساسيّة، ومعالمُ شخصيّته الصّائرة نحو “الفُتُوّة” الموسُومة بالاكتمال الجسديّ والنّفسيّ، والنُّضج النّسبيّ لمُكونات وعي عقليّ إنسانيّ سيُفضي إلى ملامسة الرُّشد، وإلى تكوين وجدان إنسانيّ يمُورُ بأشواق مُستقبل مفتُوح على مُستقبل ستسعى هذه الشّخصيّةُ الفتيّة إلى امتلاك ما يُؤهّلُها للشُّروع في إدراكه؛ فإنّ الإبداع الأدبيّ الأصيل ليستوجبُ إيلاء عناية رؤيويّةً وجماليّة استثنائيّة من قبل الكُتّاب والكاتبات المُستهدفة كتاباتُهم وكتاباتهُنّ، اليافعين واليافعات، والفتيان والفتيات، المُنتمين والمُنتميات إلى حقبتي هذه المرحلة العُمريّة: حقبة اليفاعة، وحقبة الفُتُوّة.

الإبداعُ حُرّيّةٌ قصوى ذاتُ مُحَدِّدَات

وما دُمنا قد أوجزنا مُقاربة ثالوث آداب: الطُّفولة واليفاعة والفُتُوّة على نحو يكادُ يُعرّفهُا مُجيباً عن سُؤال ماهية كُلّ منها، فإنّنا نكونُ قد أسّسنا المهاد النّظريّ الذي يُؤهّلُنا للشُّروع في التّبصُّر في مسألة “مُحدّدات التّجريب الإبداعيّ” في هذه الآداب، وهو ما يُوجبُ استنباط “المُحدّدات” التي نسعى إلى تعرُّفها، بأمر صيغة العنوان، من خلال استكشاف العلاقات القائمة والمُمكنة بين المُصطلحين الأساسيين المُتضايفين: “مُحدّدات” من جهة المُضاف، و”التّجريب الإبداعيّ” من جهة المُضاف إليه الموصُوف بـ”الإبداعيّ”، وبين كليهما كعبارة اصطلاحيّة مُلتحمة، وبين ثالُوث فُرُوع الآدب المُنتمية، بطبيعة ماهيّاتها المُتواشجة التّي بيّنا خصائصها الجوهريّة، إلى الإبداع.

فما هي “المُحدّداتُ” من حيثُ صلتها بـ”الإبداع” الذي هُو، في حقيقته، نشاطٌ إنسانيٌّ يتأسّسُ على مُمارسة “حُريّة قُصوى” تتكفّلُ بإطلاق صيرورته كمُمارسة إبداعيّة حُرة لهذه الحُرّيّة القُصوى؟

وما هُو التّجريبُ من حيثُ صلته بالإبداع وفق المفهُوم الّذي بيّنّاهُ للتّوّ، وفي لحظة حضاريّة، تاريخيّة، حياتيّة ووُجُوديّة، هي اللّحظة التي نعيشُها، هنا والآن، والتي نُواجهُ تحدّياتها التي لم تكُفّ عن انتظار نُهُوضنا بالاستجابة الواعية إليها، في كُلّ حيّز من أحياز الأرض التي بها، ومعها، وعليها، نحيا أو ينبغي أن نحيا، ولاسيما في العالم النّاطق قاطنوهُ باللّغة العربية التي تُسهمُ، بفاعليّة خلّاقة، في إنتاج تجلّيات نصّيّة تنتمي لثالوث الآداب الّذي نتبصّرُ فيه، هنا والآن، من منظُور العُنوان المُعلن، ووفق المُحدّدات المُضمرة في شبكة علاقات مُكوّناته؟

مُحفّزاتُ التّجريب الإبداعيّ ودوافعه

التّجريبُ مبدأٌ جوهريٌّ يقعُ في صُلب الإبداع الأدبي والفنّي بشتّى أجناسه وأنواعه وأشكاله، وهو يرتبطُ بالحداثة، كفكرة إبداعيّة جوهريّة، إنسانيّة حضاريّة، وغير مشروطة بزمن تاريخي بعينه، أقديماً كان هذا الزّمنُ أم حديثاً، أو بسياق مُجتمعيّ، أو تاريخيّ، أو معرفيّ، بعينه. وما من أمر يتكفّلُ بفتح أبواب أيّ مدار من مدارات المجال الحيويّ الوجُوديّ للإبداع، سوى خوض مُغامرات “التّجريب الإبداعيّ”. غير أنّ مُمارسة هذا التّجريب عبر خوض مُغامراته، إنّما تظلُّ مشروطةً، من حيثُ كُونها مُمارسةً عمليّةً تتكفّلُ بإنتاج تجليّات جماليّة تنهضُ على معرفة عميقة بتجلّيات جماليّة، أدبيّة وفنّيّة، تنطوي، بدورها، على معرفة تمّ تأصيلُها معرفيّاً وجماليّاً، بتوافُر مُمارسيها، ومن يرغبُ في مُمارستها من المُبدعين النّاشئين، والمُبدعات النّاشئات، على مُحفّزات ذاتيّة لا يُمكنُ تجاهُلُها، وعلى دوافع وحاجات حياتيّة ووُجُوديّة لا تتوازنُ الذاتُ الإنسانيّةُ مع الحياة والوجُود إلّا بالاستجابة الإبداعيّة الواعية لحثّها اللّاهب على متابعة الإبداع الأدبيّ، أو الفنّيّ، ولإلهابها الرّغبة في وجدان المُبدع، أو المُبدعة، لمُتابعة التّجريب  في أيّ مجال من المجالات الحيويّة للآداب والفُنُون.

ولستُ أحسبُ أنّ لهذه المُحفّزات والدّوافع والحاجات أن تتبلور في أعماق “الذّات المُبدعة”، وأن تنبعث موّارة في وجدانها الكُلّيّ، إلّا بدفع من توافُرها الذّاتيّ على رؤية إنسانيّة معرفيّة مُستنيرة: للذّات، والواقع، والعالم؛ رُؤية مُتماسكة، ورصينة، ومنفتحة على المُستقبل، أو هي قيد تبلوُر تُنبئُ صيرورتُه بإمكان توافُرها على هذه السّمات التّأسيسيّة الجوهريّة.

كما أنّني لا أحسبُ أنّ لهذه المُحفّزات والدّوافع والحاجات أن تنبثق انبثاقاً حقيقيّاً يُمكّنُها من أن تُلهب في نفس “الذّات الإنسانيّة المُبدعة” أيّ قدر من الحاجة إلى الاستجابة التّعبيريّة الجماليّة لما تنشُدهُ من مقاصد وغايات، لولا تُوافُر هذه الذّات على دراية واسعة بالمُكونات الماديّة، وغير الماديّة، لهذا الجنس الأدبيّ أو الفنّيّ، وضمنها، بل وفي صُلبها، مادّتُهُ الرئيسةُ ووسائلُ تشكيلها، وأدواتُهُ، وآليّاتُه، من جهة أولى، وعلى الملكات والمهاراتُ اللّازمة لإبداع تجلّ من تجلياته المُمكنة والمُتجاوزة لما كان قد تجلّى من قبلُ في نطاق الفرع المعنيّ من فُروعه، من جهة ثانية، وكذا لولا توافُرُها، من جهة ثالثة وفي ترابُط صميميّ مع ما سبق، على معرفة عميقة بمُقوّمات “المنظُومة الجماليّة المعياريّة” للجنس والفرع من الجنس، الأدبيّ أو الفنّيّ، الذي تُريدُ الذاتُ المُبدعةُ، وتستطيعُ، مُمارسة التّجريب الإبداعيّ المفتُوح في نطاقه، وذلك على نحو يُمكّنُها من تجسيد استجابتها التّعبيريّة الجماليّة الفُضلى لما يمُورُ في وجدانها الكُلّيّ، في تجلّ لُغويّ نصّيّ، أو عمل فنّيّ جديد، مُميّز وفريد، إذ بهذا، وحدهُ، نكونُ إزاء تجربة إبداعيّة حقيقيّة تتأسّسُ على مُغامرة تجريب إبداعيّ أصيلة، ومُؤصّلة بالمعرفة العميقة بمُقومات الجنس والفرع  الأدبيّ، أو الفنّيّ، المُخاضة هذه المُغامرة في نطاق مجاله الرُّؤُيويّ الجماليّ الحيويّ.

وإلى ذلك،  فإنّ لافتقار المنتج النّاتج عن مُغامرة يُتصوّرُ تخييليّاً، أو يُزعمُ، أنّها مُغامرة تجريب إبداعيّ في هذا الجنس، أو في هذا الفرع، الأدبي أو الفنّيّ، أو ذاك، لأيّ مُكوّن رئيس، أو مُقوّم أو معيار، من مُكوّناتهما الرّئيسة، ومُقوّماتهما، ومعاييرهما الجوهريّة، أن يُفقدهُ الانتماء، بجدارة، إليهما، أو أن يُفقدهُ إمكانيّة الانتساب للإبداع القابل للتّجلّي نُصُوصاً أدبيّةً، أو أعمالاً فنّيّةً، في نطاقهما، وذلك بكشفه، زيف التّجربة التي أنتجته، وانعدام إبداعيّتها، النّاجمين، أساساً عن ضعف، أو وهميّة، أو انعدام صدقيّة، مُحفّزاتها ودوافعها، مقرونةً، في كُلّ حال، بعدم التّهيُّؤ لخوضها، كتجربة إبداعيّة، بامتلاك ما يلزمُ من معارف ومهارات، وكذا بانعدام نُهُوضها على وعي جماليّ عميق بالجوهر الجماليّ العميق للجنس والفرع الأدبيّ، أو الفنّيّ، الّذي خيضت، أو الّذي أوهم الوهُمُ المُحفّزُ برغبات الصُّعُود السّريع وسُهولة الوصول إلى قممهما العالية، أنّها قد خيضت من قبل خائضها الواهم، وغير المُهيّئ نفسهُ بالقدر الكافي للنّجاح في خوضها، في رحابهما الواسعة.

الوعي والمعرفةُّ مُحَدِّدان جَوهريّان

لوحة: ناظم حمدان
لوحة: ناظم حمدان

وإن نحنُ نظرنا إلى “التّجريب الإبداعيّ”، من زاوية دوافع الإقدام عليه ومُحفّزات الشُّروع في مُمارسته، سيكُونُ بوسعنا أن نستنبط أوّل مُحدّد من مُحدّداته الأساسيّة، ألا وهُو “الوعيُ”. والوعيُ الذي نقصُدُهُ، هنا، هُو وعيُ الذّات الكاتبة التي شرعت في خوض مُغامرة هذا التّجريب أنّها تُجرّبُ مُحفّزة بسعي رؤُيويّ وجماليّ مُتواشج لابتكار تجلّ جديد، غير مسبوق، من تجلّيات هذا النّوع أو ذاك، من الأنواع المُنتمية إلى هذا الفرع أو ذاك، من فُروع الجنس الأدبي، أو الفني، الذي تُجرّبُ، مُتوافرةً على مُؤسّسات التّجريب الإبداعيّ، ولوازم خوضه، في نطاقه.

ومن هذا المُحدّد، أو لنقُل من هذا المعيار التّأسيسي المعرفيّ الجماليّ الذي هُو “الوعي، ينبثقُ المُحدّد الثّاني، وهُو “المعرفةُ”. والمعرفةُ التي نقصدها، هنا، هي معرفةُ المُبدع المُجرّب، أو المُبدعة المُجرّبة، بجماليات الجنس الأدبيّ، أو الفنّيّ، الذي يسعيان، عبر التّحاور التّجاوزيّ الخلّاق مع المُنجز الإبداعيّ المُتميّز المُتحقّق في نطاقه، إلى إثرائه، والإضافة إليه، والتّمايُز عنهُ، وتخطّيه، وذلك في سياق استجابة إبداعيّة، رؤيويّة وجماليّة، من قبلهما لتلبية مقاصد المُحفّزات والدّوافع الحياتيّة الوجُوديّة لخوض التّجريب في تساوق مع وعيهما بالحساسيات الثّقافيّة والجماليّة الجديدة، المُواكبة تحوُّلات “الزّمكان المُحدّد” الذي فيه يعيشان، و”العالم الواحد الواسع” الذي إليه ينتميان، وذلك في انسجام كُلّيّ مع إدراكهما الخصائص الجوهريّة الواسمة أيّ منهما، والتي يُحدّدُ وعيهما العميقُ بها كخصائص جوهريّة واسمة، رؤيتهما إليهما، وموقفهما منهما، وأشكال استجابتهما للتّحديات التّي يُملياها، كُلٌّ بطريقته، عليهُما.

وهنا، بالضّبط، تنبثقُ الثُّنائيّةُ القُطبيّةُ بين القائم والمُمكن، وتشرعُ هذه الثُنائيّةُ الإبداعيّةُ في الاحتدام التّفاعُليّ، ولا أقولُ في التّصارُع الضّديّ بين نقيضين، فهي، بدءاً ومُنتهىً، ثُنائيّةٌ إبداعيّةٌ أبديّةُ الوجُود بين المُنجز الإبداعيّ المُتراكم عبر الأزمنة، والراسخ في الوجود، وغير القابل لإنكار ونفي، أو إلغاء وُجود وتعديم، وبين العمل الإبداعيّ المنشُود إنجازُهُ في استجابة للمُحفّزات والدّوافع التي أوجبت السّعي التّجريبيّ لتجلية وُجُوده النّصّيّ اللُّغويّ، أو المادّيّ التّشكيليّ، وُجوداً إبداعيّاً فاعلاً في مدارات الحياة والوجود الإنسانيّين.

ولسوف تتباينُ وتائرُ هذا الاحتدام التّفاعُليّ المائر في الوجدان الكُلّيّ للمُبدع، أو المُبدعة، والمُفضية صيرورتُهُ إلى إنتاج تجلّ نصّيّ ثالث، مُتجاوز، وجديد كُلّ الجدّة،  بقدر تبايُن ما يمتلكُهُ أيٌّ منهما من  قُوّة مُحفّزات، ومن تشابُك دوافع رؤيوية وجمالية، ومن ثراء معارف، وقدرات، ومهارات إبداعيّة، ومن رؤيه عميقة لذاته، وللنّوع المُحدّد من الجنس الأدبيّ الذي يُبدعان في نطاقه، والّذي يسعيان، بدأب، إلى تجاوز مُنجزه، وللواقع (الزّمكان) الذي يعيشان فيه مُنحكمان، على نحو أو آخر، بشروطه، وللعالم الإنسانيّ الذي ينتميان إليه مُتأثّرين بأحواله؛ وهُما “الواقعُ الزّمكانيُّ” و”العالم”، اللّذين يُقارباهُما، رؤيويّاً وجماليّاً، بُغية التّأثير تأثيراً إبداعيّاً فيهما عبر إنهاض وعي المُتلقّين بهما، وتحفيزهم على الإسهام، بفاعليّة خلّاقة، في تغييرهما على نحو يكفُلُ إخراجهما من التّوحُّش البشريّ وجعلهما إنسانيّين حقّاً، أو رُبّما أغزر إنسانيّةً وأسمى، ممّا هُما، في تجلّيات حقيقتيهما القائمتين في الواقع الفعليّ ، عليه.

جَدلٌ تفاعُليٌّ وجَدليّةُ هَدمٍ وبِنَاء

وإنّي لأحسبُ أنّ لهذا الجدل التّفاعُليّ، مُتباين الدّرجات والوتائر، أن يُضيء ما يُؤكّدُ خُلاصةً تبصُّريّةً هي أشبهُ ما تكونُ بمعادلة  تقولُ إنّهُ كُلّما عمُقت معرفةُ المُبدع والمُبدعةُ بمُقوّمات الجنس الأدبي، أو الفنّيّ، الذي يُجرّبان، إبداعيّاً، في أيّ من مدارات مجاله الحيويّ، وكُلّما اتّسعت درايتُهُما بمُكوّناته، وبجماليات المُنجزات الإبداعيّة المُتجلّية في نطاق فُرُوعه العديدة، وبصيرورة تحولات هذه الجماليّات عبر الأزمنة، زادت إمكانيّةُ وُصُولهما إلى إدراك تجاوز جماليّ حقيقيّ ينهضُ على ابتكار تجلّ نصيّ لُغويّ أو تشكيليّ جديد، مُميّز وأصيل، لكونه تجلّياً يتأسّسُ على تجريب إبداعيّ حقيقيّ أهّلهُ للإسهام، بجدارة، في فتح أُفق لإبداع تجليات جديدة في هذا النّوع من هذا الفرع، أو ذاك، من أجناس الآداب والفنون، ولبلورة مُمكنات جديدة تفتحُ أبواب آفاق، ومدارات، جديدة أمامهُ، ودائماً عبر مواصلة التّجريب الإبداعيّ المُؤهّل، والمُثابر، والموسوم، في تواشُج تفاعُليّ، بالصّدقيّة الجماليّة، والرّصانة المعرفيّة، والأصالة الرُّؤيويّة.

وإنّي لأحسبُ، أيضاً، أنّ لهذا الجدل أن يأخُذنا إلى بلورة خلاصة، نقديّة جماليّة، بشأن “جدليّة الهدم والبناء” التي شاع تداولُها في سياقات كلام مُتكاثر على مسألة “التّجريب والحداثة” في مجال الإبداع الأدبيّ والفنّيّ؛ فالحقُّ أنّ هذه الجدليّة قد أُسيء فهمُها، فأُسيء توظيفُها، بقدر ما أسيء استخدامهُا مُسوّغاً للرّطانة والغثاثة وللزّبد الذي يذهبً جفاءً، ناهيك عن أنّه جرى إعمالُها على نحو هادم فحسبُ؛ أي على نحو يُجافي الإبداع، ويُفارقُ جوهرهُ، فلا يُنتج شيئاً يستحقُّ أن ينتمي، في جوهره، إليه. ولسنا بحاجة، هنا، إلى رصد وتسجيل كُلّ ما قد قيل في شأن هذه الجدليّة من أقول حفّزت أجيالاً من النّاشئين والنّاشئات، التّواقين لأن يكونوا، وأن يكُنّ، كُتّاباً وكاتبات، وفنانين وفنّانات، مُبدعين ومُبدعات، على الهدم بوصفه أساساً لأي إبداع مُتفرّد وأصيل في أيّ مجال من مجالات الفنون والآداب، فهي مبذولُة وتملأُ القراطيس، وما كان للأخذ بها أن يُسفر عن شيء سوى الغثاء والرّطانة والقُبح، وإطفاء جذوات التّوق الإبداعيّ الرُّؤيويّ والجماليّ الذي كان له أن يتّقد، فيُضيء ويُنير، ليُفعم الحياة ببُيُوت حياة يتساكنُ في رحابها الإنسانُ والوجود!

إنّ لتوافُر المبدع النّاشئ، والمبدعة النّاشئة، على معرفة كافية، وقابلة للتّوسيع والتّعميق، بالصّيرورة المُتواشجة بين الإبداع الإنساني والحضارة الإنسانيّة، على مدى العُصُور والمراحل والأحقاب والأزمنة، لا تجاهُلُها أو إغفالها، أو إنكار وجودها كتجسيد لفكرة هدمها المصحوبة بادّعاء السّعي إلى “الخلق الإبداعيّ من عدم”، أن يتكفّل، مُتضافراً مع عوامل ومُحدّدات أخرى، بتمكينهما، في الزّمن المُعاصر، من خوض تجربة إبداعيّة حقيقيّة؛ تجربةً مُتفرّدة ومُميّزة في كونها تنهضُ على عدم إغفال المُنجز الإبداعيّ المُتحقّق في نطاق الفرع أو النّوع الأدبي، أو الفنّيّ، الواقع في نطاقها كتجربة إبداعيّة جديدة تستلهمُ، أو تستدعي، أو تسعى إلى تملُّك، تجربة “المُبدع الأوّل”، تلك التي يودُّ المُبدعُ أو المُبدعةُ المنتميان إلى الأزمنة كُلّها، أن يُجرّباها لابتكار عمل إبداعيّ جديد، وغير مسبُوق، في هذا النّوع من هذا الفرع، أو ذاك، من أنواع الآداب والفُنُون وفُروعها على تنوُّع أجناسها، وعلى تعدُّد تجلّيات النُّصُوص الأدبيّة، والأعمال الفنّيّة، العائدة إليه كنوع أو كفرع مُميّز من فُروع الآداب والفُنُون.

ومن هنا، من السّعي اللاهب، المسكون بالوعي والمعرفة كمُحدّدين جوهريين للتّجريب الإبداعيّ، لاستعادة تجربة المُبدع الأوّل، والشُّروع في خوضها، بوعي عميق، في مجرى التّجريب الإبداعيّ الذي عليه ينهضُ كُلُّ تجلّ إبداعيّ حقيقيّ، تنبعُ سماتُ الفرادة والتّميز والجمال الواسمة كُلّ تجلّ إبداعيّ أصيل. وعندها فحسبُ، يحقُّ للمبدع، أو للمبدعة، الزّعم بأنّ ما قد أنجزه أيٌّ منهما من عمل إبداعيّ، قد تمّ عبر “التّجريب الإبداعيّ” الخلّاق، وأنّهُ قد تمّ “بلا ذاكرة”؛ أو من دون أدنى حُضُور حيويّ للذّاكرة أثناء صيرورة العمليّة الإبداعيّة، وباستبعاد كُلّيّ لكُلّ “أنهاج المُحاكاة والتّقليد”، وأنّهُ، لذلك، عملٌ “أصيلٌ”، و”غير مسبُوق”، ولم يكُن أيٌّ من تجلياته مُمكنة الوجُود والتي سُعي لإيجادها موجُوداً، بجلاء، في الوجُود قبل إيجاده، وتجلية وُجوده، من قبله، أو من قبلها. وعلى هذا المعنى، وعليه فحسبُ، يُمكنُ للعقل أن يحمل جميع صيغ الأقوال، والتّصريحات، عن الابتكار الجماليّ من لا شيء، وعن الخلق الإبداعيّ من عدم، طالما كانت هذه الأقوالُ والتّصريحاتُ مصحُوبةً بوجُود عمل إبداعيّ موسُوم بالفرادة والتّميُّز والجمال، ومُتعلّقةً به، وبه فحسبُ.

ولفحوى الفقرة الأخيرة أن تأخُذنا صوب تبصُّر آخر في ثنائيّة “الهدم والبناء” كعبارة اصطلاحيّة اتُّخذت ذريعةً لتسويغ “الانقطاع الإبداعيّ”؛ وهُو تبصُّرٌ سيتوخّى إدراك المنطويات المفهوميّة الجوهريّة لهذه العبارة على نحو يُجلّي مقصدها الإبداعيّ الجماليّ المنشود. ولستُ أحسبُ أنّ لهذا التّبصُّر أن يُسفر، مهما تشعّبت مساراتُهُ، عن مُدرك يشي بانطواء هذه العبارة على ما يدعو إلى “القطيعة المُطلقة” مع المُنجز الإبداعيّ السّابق، أو أن يحملها، كمبدإ تجاوُزيّ، أو كعمليّة إبداعيّة جدليّة، على ما يتجاوز مُصطلحات نظريّة جماليّة مُتداولة بكثافة، وذلك من قبيل: التّفكيك، والتّكيـيف، والإثراء والإغناء، والإضافة المُجدّدة، والابتكار الخلّاق، وإعادة التّكوين والتّشكيل والبناء، المُحفّزة، جميعاً، بإرادة التّجاوز والتّخطّي الإبداعيين التي تنهضُ صيرورتُها، كإرادة تتجسّدُ في فعل إبداعيّ ذي صيرورة سابقة على لحظة الإقدام عليه، وعلى صيرورة إبداعيّة تصلُ ذُروتها في لحظة تجليتها ما قد أنتجُهُ عبر الكتابة، أو التشكيل، أو عبر غيرهما من طرائق الإبداع وأساليبه.

وهذا في البدء والمُنتهى، فعلٌ إبداعيٌّ تستوجبُ إبداعيّتُهُ إخضاعهُ إلى مراجعه وتدقيق صارمين لما قد أسفر عنهُ وجلّى وجُودهُ من عمل إبداعيّ رؤيويّ وجماليّ  نهض إبداعُهُ على الجدل المفتوح مع تجلّيات رُؤيويّة وجماليّة سبقتهُ، وعلى إعمال آليات الاستلهام، والتّفاعُل الحواريّ، والتّناص التّجاوبيّ، أو التّعارُضيّ، أو التّحويليّ، أو التّناقُضيّ، معها؛ فلا نكون، والحالُ هي هذه، إزاء هدم عدميّ مجّانيّ، أو فوضويّ عبثيّ، ولا نكون إزاء بناء إبداعيّ موهُوم يُوغلُ أصحابه في الوهم بقدر افتقارهم أدنى مُقومات التّأهُّل لتجلية وجُود عمل إبداعيّ جديد، ناهيك عن أن يكون هذا العملُ عملاً إبداعيّاً حقيقيّاً، وذا شأن رُؤيويّ، وقيمة جماليّة مشهُودة!

وتأسيساً على مُعطيات شبكة التّبصُّرات التي سعينا إلى تأصيلها، والتي تبلورت خُيُوطُها في خُلاصة تقولُ إنّ “أدب الطّفل” فرعٌ من فُروع الأدب، وإنّ “فنّ الطّفل” فرعٌ من فُروع الفنّ،  كما أنّ أدبيْ وفنّيْ اليفاعة، والفُتُوّة، فرعان من فُروعهما، وأنّ “ثقافة الطّفل” مجالٌ حيويٌّ من مجالات الثّقافة”، وأنّ كُلّاً من هّذه الفُرُوع الأدبيّة والفنّيّة مُؤهّلٌ للتّجلّي، بأنواع وأشكال مُتنوّعة، في كُلّ أجناس الآداب والفُنُون، فيما تمتازُ “ثقافةُ الطّفل” بحيويّة الحُضُور في المجال الثّقافي العام، لكونها تُشكّلُ مجالاً حيويّاً لا يغيبُ عن الأعمّ من مجالات الثّقافة بأوسع معانيها وأعمقها، فإنّنا لنستطيعُ القول، إنّ المُحدّدين الجوهريين الرئيسين للتّجريب الإبداعيّ في شتّى أجناس الآداب والفُنُون وأنواعها، وهُما “الوعيُ” و”المعرفة”، إنّما ينطبقان، تمام الانطباق، على “أدب، أو فنّ، الطّفل”، و”أدب، أو فنّ، اليافعين” و”أدب، أو فنّ، الفتيان”، أو بحسب ثالوث المُصطلحات المُتضافرة التي شرعنا في تفضيلها “أدبُ، أو فنُ، الطُّفُولة”؛ و”أدبُ، أو فنُّ، اليفاعة”؛ و”أدبُ، أو فنُّ، الفُتُوّة”.

ويبقى أنّ لكُلّ فرع من هذه الفُروع الأدبيّة والفنّيّة المُتواشجة الثّلاثة، خصائص وسمات رؤيويّة وجماليّةً تُميّزهُ عن آخره، وأخرى تصلُهُ به، كما أنّ لكلّ منها خصائص وسمات تُميّزهُ عن الفُروع الأدبيّة والفنيّة الأخُرى، بحيثُ لا يكونُ أيٌّ من هذه الفُروع الأخرى، كـ”أدب، أو فنّ، النّسويّة”، أو “أدب، أو فنّ، المُقاومة”، مثلاً، جنساً أدبيّاً، أو فنّيّاً، مُميّزاً ومستقلّاً بذاته ومُنفصلاً عن سواهُ، ويُشترطُ لإبداعه أن يتمّ من قبل نساء فحسبُ في الأوّلّين، أو من قبل مُقاومين ومُقاومات وحملة سلاح، في الثّانيين، إنّما هُو، في البدء والمُنتهى، فرعٌ أدبيٌّ أو فنّيٌّ مفتُوحٌ على تجلية إبداعات كُلّ من عثر في أعماق وجدانه على بذرة إنسانيّته ذات النُّواة المُشكّلّة من قُطبي ذُكورة وأنُوثة مُتفاعلين في تواشُج ولُحمة، ولا يكُفّان عن الوجود التّفاعُليّ الخلّاق في رحاب الوجدان الكُلّيّ لكُلّ مُبدعة، ولكُلّ مُبدع.

إنّها، إذن، فُروعٌ ذاتُ أنواع وأشكال تخترقُ جميع الأجناس الأدبيّة، أو الفنّيّه، ولها قابليّة التّحقُّق في تجلّيات إبداعيّة، لُّغويّة نصّيّة، أو مادّيّة تشكيليّة، أو سمعيّة – بصريّة، أو غير ذلك من تجلّيات مُمكنة وقابلة للابتكار عبر التّجريب الواعي. كما أنّ لها قابليّة التّجسُّدُ في أنواع وأشكال وأنماط تتميّزُ بخصائص، وسمات، وتكييفات، رُؤيويّة وجماليّة، تمنحُها جدارة الانتماء إلى النّوع الأدبيّ، أو الفنّيّ، الذي تنتمي إليه، وإلى الجنس والفرع الأدبيّين، أو الفنّيّين، اللّذين تندرجُ في نطاقهما، وهي، في حقيقة الأمر، أنواعٌ وأشكالٌ وأنماطٌ تتأسّسُ على جماليّات جوهريّة، أدبيّة وفنّيّة، واجبة الوُجُود، ولكنّ منظورات النّظر إليها، وطرائق الأخذ بها، وآليات توظيفها، والتّجليات الإبداعيّة النّاجمة عن كُلّ ذلك، إنّما تظلُّ عديدةً ومُتنوّعةً، ومفتُوحةً على الانبثاق المُتجدّد من خلال التّجريب الإبداعيّ الدّؤُوب، والمفتُوح أبداً، والمُتأبّي على التّقييد، والمُجافي، بطبيعته، لكُلّ أنهاج المُحاكاة والتّقليد.

لوحة: ناظم حمدان

ثَالُوثُ مُحَدِّدَات: اللُّغةُ والمُخَيِّلَةُ والعَقْلُ

ولعلّنا أن نستخلص على كُلّ ما تقدّم من تبصُّرات رُؤيويّة وجماليّة مُعزّزة بالعلم والمعرفة، أن نستخلص ما مُؤدّاهُ أنّ المُحدّدات التّفصيليّة للتّجريب في “أدب الطُّفولة”؛ وفي “أدب اليفاعة”؛ وفي “أدب الفُتُوة” إنّما تنبثقُ أساساً، وبالتّضافرُ الصّميميّ مع مُقوماتهما وخصائصهما الرؤيويّة والجماليّة النّابعة من خصائص الفئة العُمريّة التي يُوجّهُ العملُ الإبداعيُّ إليها، عن المحدّد الجوهريّ الثّاني الذي كثّفنا الإحالة إليه بالكلمة المصدريّة الجامعة: “المعرفة”؛ هاته التي تكتنزُ الدّلالة على ضرورة توافُر المُبدع، أو المُبدعة، على معرفه كافية بجماليّات الجنس والفرع والنّوع الأدبي الذي يُجرّبان الإبداع في نطاقاتها، وأن يتوافرا على معرفة عميقة بالمُقوّمات والمُكوّنات والخصائص الجماليّة واجبة الوجُود في أيّ نصّ إبداعيّ يُرادُ لهُ أن ينتمي إلى أيّ فرع من فُروع هذه الآداب، وعلى قُدرات إبداعيّة عقليّة وتخيُّليّة، ومهارات تأليفيّة، تمكّنُهُما من مُواءمة هذه المُقوّمات والمُكونات والجماليّات العامّة، ومن تكييف اللّغة المحمولة عليها، أو المُتشكّلة بها، مع خصائص وسمات الفئة العُمريّة المقصُودة سواءٌ ضمن مرحلة الطُّفولة، بأحقابها التّطوّريّة الثّلاث: الحقبة الحسيّة الحركيّة؛ والحقبة ما قبل الإجرائيّة؛ وحقبة الملموس الإجرائيّة، أو ضمن حقبة اليفاعة المُتضمّنة حالة المُراهقة، والمفتوحة على ما قبلها وما بعدها، أو ضمن حقبة الفُتُوة المُتداخلة معها والتي تعقُبُها مُنبثقةً عنها.

ولثن استوجبت حالةُ المُراهقة اهتماماً رُؤيويّاً وجماليّاً استثنائيّاً على مستويات إبداعيّة عديدة، وذلك بوصفها صُلب الحقبة الانتقاليّة المندرجة في نطاق الحقبة الصُّوريّة الممتدة من نهاية السّنة الثّانية عشرة حتي الثامنة عشرة، أو الذّاهبة صوب ما بعدها ببضع سنوات، وهي الحقبةُ التي تأخُذُ الكائن البشريّ صوب إدراك فُتُوته، فإنّ لحقبة الفُتُوّة هذه أن تستوجبُ اهتماماً لا يقلُّ أهميّةً، إن لم يزد، عن الاهتمام الرُّؤيوي والجماليّ الواجب إيلاؤُهُ، على تعدُّد مُستوياته وتمايُز التّكييفات العقليّة، والتّخيُّليّة، واللُّغويّة الصّوغيّة، والبنائيّة التي يتطلّبُها، لأيّ حقبة من الأحقاب التي سبقتها، فهذه هي الحقبةُ التي يُمكنُ للإبداع أن يُسهم، بفاعليّة، في بلورة وعي إنسانيّ فتيّ يُضيءُ في وجدانات المُستهدفات والمُستهدفين به من الفتيات والفتيان خيارات المُستقبل، وذلك بحسب ما نستنبطُهُ من تبصُّرات جان بياجيه في نُموّ الكائن البشريّ الصّائر صوب كمال إنسانيّ مُمكن عبر تجلّي جوهر الحقيقية الإنسانيّة الكامنة في أعماق كينونته الطّفلة، واليافعة، ومن ثمّ الفتيّة المُرشّحة للشُّروع في إحالة نفسها إحالةً وُجُوديّةً موضوعيّةً في الواقع الفعليّ عبر شُروعها في إدراك ذاتها، وفي مُتابعة السّعي لإنهاض ملكات هذه الذّات، وتعزيز قدراتها الخّلّاقة، لتمكينها من الاستمرار في تجديد نفسها تجديداً يأخُذها صوب كمال إنسانيّ تتكفّلُ صيرورةُ السّعي إليه بإثرائها على نحو خلّاق يُثري الحياة، ويُجلّي مُمكنات الوجُود إذ يفتحُ آفاقه أمام الخطو الواعي.

ولعلّنا نُوجزُ، الآن، وقد استنبطنا “المُحدّد اللُّغويّ” المُرتبط، صميميّاً، بجماليات الأدب الذي ليس لهُ من مادة أساسيّة وجوهريّة سواها، المُحدّدات التّفصيليّة للتّجريب الإبداعيّ في آداب: الطُّفولة؛ واليفاعة؛ والفتوة، فنظفُرُ مع هذا المُحدّد اللُّغويّ الجوهريّ الذي يتكفّلُ بتقديم سُلّم خيارات الصّوغ المُمكن للصُّورة أو للفكرة أو للبنية التّركيبيّة، “المُحدّدين التّخيُّليّ والعقليّ” المُنصهرين في صُلب هذا المُحدّد اللُّغويّ، والمُتجلّيين في مراياهُ، والمُتفاعلين طوال الوقت مع جميع مُكوّناته المائرة في رحاب “الوجدان الكُلّي للمُبدع”، أو للمُبدعة، والذي هُو، أي هذا الوجدان الكُلّيّ، المجالُ الإبداعيُّ الحيويُّ الذي في أعماقه تمُورُ صيرورةُ أيّ عمليّة إبداعيّة، لُغويّة، وتخيُّليّة، وعقليّة، عبر تفاعُل ثريّ وخلّاق بين ثالوث: اللُّغة الثّريّة، والمُخيّلة الطّليقة، والعقل الوقّاد، وهي المُحدّداتُ الثّلاثُة النّاجمةُ عن السّعيّ الإبداعيّ اللّاهب لمُواءمة آليات تفاعُل مُكوّنات هذا الثّالوث على نحو يُنتجُ كيفيّات تعبيريّة، ومُمكنات صوغ، وأساليب بنية، تُلبّي نتائجُ مورانها التّفاعُليّ، كمُكوّنات إبداعيّة جوهريّة، الحاجة الرُّؤيويّة والجماليّة الماسّة لمُوءامة لُغة الكتابة من حيثُ المُفردات، والتّراكيب النّحويّة والصّرفيّة، والصّيغ البيانيّة والبلاغيّة، والتّعبيرات المجازيّة، مُواءمةً تفاعُليّةً تُجلّي حيويّة وُجُود السّمات والخصائص الرّؤيويّة والجماليّة واجبة الوجُود، بتكييفات مُلائمة، في أيّ فرع من فُروع هذه الآداب، وهي السّماتُ والخصائص التّالية: الصّراحةُ؛ المباشرةُ، قولُ الجوهريّ العميق ببساطة ويُسر؛ التّكثيفُ والإيجازُ؛ الإجادةُ والرّشاقةُ؛ الحيويّةُ الدّافقةُ والإيقاعُ السّريعُ: الذّكاءُ المُتّقدُ النّاهض على إيقاد جذوات التّفكُّر الوقّاد ومشاعل التّبصُّر الواعي؛ إطلاقُ أجنحة المُخيّلة لالتقاط مجازات مُدهشة ومُبتكرة؛ الصّدقُ الفنّيُّ القائم على الانسـجام التّفاعُليّ والتّناغُم الأقصى بين عناصر العمل الإبداعيّ، وعلى التّماسُك البنيويّ الكُلّيّ بين جميع مُكوّناته وبنياته.

ولعّلنا نذهبُ، بقصد بُلوغ أعلى درجات سُلّم الإيضاح، إلى قول العبارات الأخيرة بصيغة النّفي، لا الإثبات، فنقول إنّنا ننتظرُ من مواءمة لُغة الكتابة، في ضوء ناتج تفاعُلها الحيويّ مع العقل والمُخيّلة، أن ينفي وجُود التّطويل والرطانة والتّرهُل وانعدام المعنى؛ الزّخرفة والتّزييف؛ الكذب والتّفاهة؛ التّذاكي أو التّغابي أو ادّعاء أيّ منهما بجلاء مفضُوح؛ الإيقاع البطيء والمُتراخي؛ القولبة والمقولات الجاهزة أيّاً ما كانت طبيعتُها؛ التّلقين الوعظيّ الإرشاديّ، والبثّ المُباشر للشّعارات والقيم من أيّ طبيعة كانت حتّى الإنسانيّة منها، إذ لكليهما أن يُطفئ أنوار العقل، ويُقيّد أجنحة المُخيّلة، لكونه يتأسّسُ على النّظر إلى الطّفل، كما إلى اليافع والفتى، باعتبارهم محض آنية فارغة ينبغي ملؤُها بما يستجيبُ لحاجات أصحاب المصالح الجشعين، ومُشغّلي المُستكتبين ودافعي أُجُورهم، وليس باعتبارهم جُذوات، وشُعلات، ومنارات، يتوجّبُ السّعيُّ لإيقادُها وإشعالُها، لتتوهّج وتُضيء، ولتُنير دروب الحياة الآخذة خطو النّاس، ولاسيما الأطفال واليافعين والفتيان منهُم، صوب مستقبل إنسانيّ  تظلُّ مداراتُهُ مفتوحةً على فضاءات المُستقبل الإنسانيّ المنشُود!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.