التلفيق البصري

العمارة التونسية في الصور والفوتوغراف البريدي الاستعماري
الخميس 2022/09/01

استطاعت السلطات الاستعمارية الفرنسية أن تنشئ قاعدة حضرية في البلاد التونسية، وكانت ذات طرز معمارية متنوعة تأقلمت مع البنية السكانية الأجنبية، ومع الواقع الحضري والاجتماعي المحلي، فاستغلت السلطات هذا المعمار في الدعاية والإشهار لمنجزاتها وربطها بمفهوم التحديث لتبني فكرة البلد المتحضر الحامي الذي طوّر البلاد ونمّاها. وتأكيدا لهذا التوجه اتبعت السلطات مسارات متعددة للترويج للبلد ومآثره الفنية التي تعود إلى العصور الإسلامية الأولى ولثرائها المعماري القديم أو المنجزات المعمارية التي شيدت في المدن الأوروبية زمن الاستعمار، فوظفت وسائل الدعاية المتمثلة في الصور الفوتوغرافية والطوابع البريدية.

عرف الإنسان منذ قديم الزمان قيمة الصورة، فسجل حياته اليومية وسجل حروبه وانتصاراته ومآثره. ونجد ذلك سواء في الكهوف أو في النقائش أو في السكة وكان ذلك عبارة عن تاريخ مسجل تتوارثه الأجيال. ثم تطورت الحضارات فأصبحت الصور تملأ المخطوطات، إلى أن تمّ اكتشاف التصوير الفوتوغرافي، وهي في الأصل كلمة لاتينية Photographie  تتكون من قسمين Photo وتعني الضوء  Graphie  الحفر أو الرسم وبذلك يصبح معنى كلمة الحفر بالضوء أو الرسم بالضوء.

وأما الطوابع البريدية فلقد “اعتبرت صورا للدولة جنبا إلى جنب مع العلم والنشيد الوطني والعملة وهي عبارة عن نقوش صغيرة صادرة عن مركز البريد مرفقة بأحد صور الدولة الرمزية” [i].

صورة

لقد انتشر تصوير المآثر المعمارية في البلاد التونسية خلال الفترة الاستعمارية سواء المعالم التاريخية في المدن القديمة أو لتلك المباني الجديدة التي شيدت في الفضاءات الحضرية الجديدة التي ركزت خارج الأسوار وأطلق عليها “المدن الأوروبية” أو “الأحياء الأوروبية”. فيما يتعلق بأعمال الترميم للمنشآت التاريخية، فإن الصور ترصد التطور التدريجي للموقع، فضلا عن تحديد المراحل المختلفة للبناء انطلاقا من الوضعية الأولية، ومن ثم إلى الأشغال وصولا إلى انتهائها وظهور المبنى على هيئته الكاملة. وتعود أولى اهتمامات التصوير المعماري إلى منتصف القرن التاسع عشر، مستجيبة للحاجة إلى “ترميم مباني الماضي.. ثم انتقل التصوير الفوتوغرافي من علم الآثار إلى العمارة التي يجري تشييدها..” [ii]. وأما بخصوص المباني الجديدة، فإن التصوير الفوتوغرافي يمثل وسيلة من وسائل الاتصال والإعلام للتعريف بمجموعة من المنشآت المعمارية التي أنجزت خلال فترة الاستعمار، سواء القديمة التي وقع ترميمها وخاصة الجديدة التي بنيت في المدن الأوروبية. وبذلك يمكن اعتبارها هذه الخطوات محاولة من السلطات الفرنسية “لتشكيل هوية معمارية من مرجعيات التراث الموجود في السياق المحلي وبحث عن أسلوب رسمي تتبناه الإدارة الاستعمارية… ويرمز إلى اعتماد أسلوب معماري يبحث عن هوية سياسية وثقافية… فالحيز الحضري هو القضية الرئيسية التي يتم فيها بناء وصناعة صورة بلد شاب وحديث” [iii].

لقد استغلت السلطات الاستعمارية العمارة في الدعاية لإنجازاتها من خلال إبهار الناس بهذا المعمار الجديد والغريب عنهم، حيث أن السكان المحليين خلال الفترة الاستعمارية لم يقفوا لتأمل المباني القديمة، إذ اعتادوا عليها، بل وقفوا في المقابل في الشوارع لاستراق النظر في المدن الأوروبية التي احتوت على الساحات العمومية والبنايات والمصالح الحكومية والنزل ذات التصميم الغريب عن بيئتهم التقليدية. فمثلت هذه المنشآت “رموزا” أنتجها المستعمر بالحجارة [iv]، لتبين “تفوق” الأوروبيين و”دونية” يشعر بها السكان المحليون. وبذلك يعتبر “تشييد المنشآت المعمارية بمثابة دعم للرمز السياسي للمجتمع، حيث يعرض العمل المعماري باعتباره إنجازا سياسيا ويتم تمثيله وفقا لذلك، فيمكن القول إن العمارة كانت في خدمة السلطة السياسية”[v]. لقد اخترنا هذا الاقتباس للدلالة على أن للمعمار وظائف أخرى غير تلك الظاهرة للعيان والمتمثلة في تغطية الإنسان لاحتياجاته المادية من سكن وأمن وأمان، بالإضافة إلى الاحتياجات الحكومية والإدارية وما تقتضيه من توفير مقرات للمؤسسات لتسيير شؤون الناس وتسيير دواليب الدولة. كما يمكن أن يكون للمعمار دور سياسي أو بعبارة أوضح دعاية سياسية خاصة في ظرفية تاريخية تتميز بوجود نظام سياسي غير مرغوب فيه، أو في أفضل الحالات يكون دخيلا عن المجتمع الذي وجد فيه، فيصبح أداة للدعاية وتبييض صورة المستعمِر ليكون وجوده شرعيا.

صورة

لقد تفطنت السلطات الفرنسية لمعطى مهم مبكرا وهو أن “الهندسة المعمارية يمكن أن تصبح أداة اتصال وداعما للنظام الحاكم“، فعملت على استغلال صورة الهندسة المعمارية للدعاية وإبراز فضلها على تطوير البلاد، من خلال عرض صور للمباني ذات التصميم الجميل وذات الهندسة المعمارية الجديدة أو تلك المتأثرة بالمعمار المحلي. واستعملت الصور والطوابع البريدية في تثمين النشاط الاستعماري، فنجد العديد من الصور التي توثق للعديد من المباني.

وبواسطة عمليات التوثيق هذه، قامت السلطات الفرنسية بالدعاية لمآثرها المعمارية لتبرير وجودها والدفاع عن شرعيتها. ويمكن اعتبار هذه الأنشطة دعاية للإمبراطورية الفرنسية في نظر مواطنيها لشاسعتها واحتضانها للكثير من الشعوب والثقافات، فلم تبخل فرنسا على نفسها في استغلال هذا التراث لتبرر وجودها فهي وإن كانت مستعمرة للبلدان، إلا أنها تعترف بتراثهم وحضارتهم واختلافهم [vi]. ورغم استغلالها لغايات سياسية ودعائية فلقد ساهمت الصور الفوتوغرافية والطوابع البريدية في تعداد وجرد المعالم المعمارية، إضافة إلى توثيقها وتخليد ذكراها، وتعتبر أدوات لإيصال مآثر الماضي إلى الأجيال اللاحقة، فصارت شاهدا على التاريخ وتساهم في تفسيره. ولقد استفدنا منها في التعرف على هذه الإنجازات المعمارية وساعدتنا في تحديد وظائفها وإبراز جماليتها ومعرفة الظروف التي أحاطت بإنجازها.

لقد ساهمت فترة التغيير الاجتماعي والسياسي طوال الحقبة الاستعمارية في تشكيل نمط حضاري مختلف ومتميز عن سابقه. وبطبيعة الحال فإن ما يحدث في المجتمع من تغيرات سياسية واجتماعية لا بد أن تجد له تمثيلا في المجال المعماري، فتصبح العمارة هي الهوية لذلك التوجه السياسي أو الاجتماعي ثم تجسد أهم أحداثه، فضلا عن كونها مؤشرا تاريخيا وحقيقيا لتلك الفترة من حياة المجتمع. وتمثل العمارة فنا تطبيقيا ومنحى رئيسيا من مناحي الحضارة والثقافة، وكفنّ من الفنون التي لازمت بلاط النفوذ وصناعة القرار للدولة وأيضا نظرة سياسية لطبقة الحكم في توظيف العمارة [vii].

صورة

هوامش:

[i] – Gervereau (Laurent) (dir.), Dictionnaire mondial des images, Paris, Nouveau monde, 2006, Entrée Pouvoir, représentations au XXe siècle – l’inscription des pouvoir dans l’architecture par Arnaud Mercier, p1026.

[ii] – Gervereau (Laurent) (dir.), Dictionnaire mondial des images, Paris, Nouveau monde, 2006, Entrée Pouvoir, représentations au XXe siècle – l’inscription des pouvoir dans l’architecture par Arnaud Mercier, p 65.

[iii] – Oulebsir (Nabila), « les ambiguïtés de régionalisme : le style néo-mauresque », in Alger : passage urbain et architectures 1800-2000, sous la direction de Jean Louis Cohen, Nabila Oulebsir, Youssef Kanoun, les éditions de l’imprimeur, collections des tranches des villes, pp 105-125 ; p 105.

[iv] – Lambert )David(, «La ferme au toit de tuiles : Jacques Berque, la colonisation et ses signes»,  Alain Messaoudi et Dominique Avon, De L’Atlas à l’Orient musulman, Contributions en hommage à Daniel Rivet, Karthala, pp.227-237, p 228, 2011.

[v]– Bohli Nouri )Olfa(, La fabrication de l’architecture en Tunisie indépendante : une rhétorique par la référence, Architecture, aménagement de l’espace, Thèse de doctorat, sous la direction de Catherine Maumi, Université Grenoble Alpes, 2015, P 123.

[vi] – Béguin (François) , Arabisances, Décor architectural et tracé urbain en Afrique du nord, 1830-1950, Dunod Bordas Editions, 1983, P 20. [vii]– السيد (وليد أحمد)، “المعمار عندما يتحول إلى أداة سياسية استعمارية“، صحيفة القدس العربي العدد 6018. ص 11، الأربعاء 8 أكتوبر/9 شوال 1429 هجري.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.