الجحيم هو الآن يا صديقي!

السبت 2022/10/01

الأحداث مجنونة هنا، عصيّة على الوعي، تنفلت ضمائرها دون قيود، تراوغ، تدور وتعوي، تلهث وراءنا، تَثِبُ علينا بشراسة فتنقضّ على أحلامنا، تنهش آمالنا فتُشوّه طبيعتنا البِكر بمخالب تغرز السم في عمق الجِراح، تُدمي دواخلنا، نتأوّه، نصرخ صرخة استغاثة كبرى، ثم… نصمت قهراً إلى الأبد.

في هذا العالم الموحش، اختبرت أقدار الله. صغارها الذين تيتموا عند الضفتين، وشبابها الذين غرقوا في هجرتهم قبل الوصول. لم يحتف بي ذلك الفصل من الحياة، ناشدته لكنه لم يكترث، استطال واستطال حتى انقطع حبل وده، جف حبر رسائلنا، بليت أوراقها، تلاعبت بها جنيّات الرياح… لقد صرنا غرباء!

حين قال نبي الله يوسف: “رب السجن أحب إليّ” لم يختبر هذا النوع من السجون الشرهة التي افترستنا أعوامها المسعورة عاماً تلو العام، وما استطعنا إلى النجاة سبيلا. نحن حطبها، نحن وقودها، تتأجج، تتعالى أنفاسها المستعرة، وتقول هل من مزيد؟

في هذا القاع، تُدك صلابتي بقسوة لا تفتر عن الطرق، أتناثر قطعاً في الظلام، فقدت قدرتي على التشكل، عدت إلى تراب أبي آدم، لا ملامح لي، لم أعد أذكرها جيداً، نسيتها عند آخر مرآة رأيت نفسي فيها.

الزمن سجين هنا أيضاً يا صديقي، لكنه مخادع جداً، لذا لا أثق به كثيراً، فكم غدر بي! ذات وله، وفي لهفة الطريق إلى وطني، سبقني إليه، فعل فعلته الخبيثة، فوجدته منفى. انطلقت مسرعاً على صهوة الفرح أُمنّي النفس برؤية أمي، تعثرت بالطريق، لم يرأف بي، فلقيت مكانها قبراً. ربما من الجيد أني لا أذكر الكثير عن حيله، وربما لا، فذاكرتي الآن شبه عارية من عدة تفاصيل مضت، مقيدة بواقع هزيل، معذبة، ومجبرة على الاعتراف بجرم لم ترتكبه. يا صديقي، لا بد أن لديك بعضاً مما محته صحائف ذاكرتي الخربة، فاحتفظ به لأجل أيام خلت، لعلها تنهض من سباتها وتستعيدني يوماً ما.

لا أدري هل عقارب الساعة تتدافع إلى الأمام أم تتراجع إلى الوراء؟ هي فقط تدور بي، تعيدني إلى بداية المعاناة في كل معاناة. لا تفلح قوانين الفيزياء في قياس زمن آلامي هذا أو حتى تعريفه، فقط من يقبعون في جُب هذه المأساة يدركون الإجابة على ذلك. كن حذراً أنت أيضاً، فربما يفاجئك كما باغتني قبلاً، توقف لدقيقة وأعلن الحداد. حين فقدت أبي فعل بي ذلك، ثم مضى وكأن شيئاً لم يكن، لم أستطع إرجاع الثواني التي غافلني فيها، عجزت تماماً عن فعل أي شيء، لم تكن لي حيلة هروب من هكذا فاجعة… لقد خيم عليّ صمت جنائزي بهيم. وفي ومضة خاطفة، عاد للتلاعب بي مجدداً، لم يدعني وشأني، ألم أقل لك بأنه مخادع! أيقظني هذه المرة لأعود إلى لحظة انفجار كوني العظيم، حيث لا عودة إلى الوراء، سوى التقدم نحو المجهول أو أن يبتلعني ثقب أسود.

خلف القضبان، تتماهى ملوحة الحقائق مع عذوبة الأوهام وصدق الأكاذيب، تنكب الفضيلة على وجهها، تُجلد بسياط النقمة، تصيح، تشهق شهقات جريح أنهكته جراحه، ويُجَر جسدها مسافة من الآلام ما يكفي لهلاكها. في هذا المكان المقفر، تفقد الأشياء جوهرها، تتلاشى قيمتها يوماً بعد يوم، وما أشبه اليوم بالأمس وقبل الأمس، وما قبل ذلك بسنوات.

في الدرك الأسفل يهيم السجّان كطاووس مغرور، فرعون آخر تشكّل في هذا العالم من طينة الأذى، طاغية متعجرف يقذف برجولته المريضة عند ثوران شقوته، كلما ازداد شرّه ارتقى من رتبة إلى رتبة، كم هو متقن في أداء دوره اللعين، بتدمير إنسانيتنا وإتلاف أجهزتنا البشرية. هو مصاب بداء السلطة، بنقص من نوع آخر يا صديقي يجعله يتلذذ في تمزيقنا قطعة، فقطعة، يهتك عذريتنا حتى ننزف، ونؤول إلى السقوط في أيّ لحظة. يا لهذا الكائن الغوغائي البائس، لقد وقع في فخ الهلاك، فما هو إلا ضعيف يمهد لزوال ملكه، تائه مسترسل لعاقبته التي ستنقض عليه يوماً ما.

السجناء هنا أكثر عُنفاً، أو ضعفاً لكنهم يتظاهرون بالقوة، أفئدتهم هواء، مصابون بجمود المشاعر، وجنون الارتياب الدائم، مسلوبو الإرادة، منعزلون إلا من أفراد صنعت لنفسها جماعة تتهافت من أجل البقاء، غالبيتهم ليسوا أصدقاء بالمعنى الذي نعرف، فكلٌ يستند على عود أعوج، يجمع شتات نفسه في هذه الفوضى العارمة رغم شدة النظام المفروض علينا. كل شيء قاتم وشنيع… وبلا حياة.

Thumbnail

تفتيش!

يتراكض السجناء داخل زنازينهم كفئران فزعة، كالفارّين من صوت قذيفة ستسقط على رؤوسهم في التو واللحظة. يعلو توترهم، يدورون حول أنفسهم في دوامة من القلق، فالقادم أسوأ… لحظات ويُقتاد واحداً أو ثلة من المغضوب عليهم إلى الحبس الانفرادي.

الاحتفاظ بالعقل في هكذا مكان يعد أمراً جنونياً.

أتساءل كثيراً، أين أنا؟ أبحث عن إنساني الحقيقي، حتى لا أفقدني تماماً. لا أجدني سوى بين مطرقة السجّان وسندان الألم. فما أتعس الأنفس المعطوبة التي تتلف أجزاءك النقية، تهاجم فايروساتها خلاياك شيئاً فشيئاً حتى تفتك بطهارة روحك. أأشفق على نفسي أم أشفق عليهم، فكلنا في خوض المعارك سيّان، إلا أننا نقيضان. لن نلتقي أبداً في هذا المعترك، فهم واهمون، يدّعون زيف المكاسب وانتصار الهزيمة، غافلون، يغتالون إحساسهم الآدمي، يستنفدون ما تبقى من مخزونهم الإنساني، سيتآكلون، ويأكلهم الصدأ.

قلة من يعيدون لي سيرتي الأولى مثل بركة، سجين في منتصف العقد الثالث من العمر، يزوره الجنون أحياناً وهو العاقل فينا حين يتحدث. ربما أفقده السجن جزءاً من صوابه، أو هي حيلة ذكية يلجأ إليها حتى لا يُؤاخذ بما يقوله من ترهات تغضب السجّان. ألتقيه حين نُسرّح من تلك الزنازين لوقت محدد. هذا البركة ساحر وساخر رغم شدائد البلاء، ينتشلني ولو للحظات من هذه الأرض التي عشّش فيها القبح، يوهمني بأن هذا العبث اللولبي سيستقيم يوماً ما، يجعلني أتنفس، أرسم ابتسامة، لكنها سرعان ما تهرب سريعاً، يُقبض عليها وتسجن هي الأخرى. لا شيء يعود هنا كسابق عهده، لا شيء يعود أبداً.

ذات يوم ضبابي، لم ألتق بركة كعادتي… لقد اختفى تماماً!

لا أثر له أبداً سوى ملاءة سريره البيضاء ملقاة على أرض زنزانته. لقد تعافى بركة من الحياة بطريقة نجهلها تماماً. شاع إثر اختفائه الفجائي بأنه تحوّل إلى شبح أبيض يأتي للسجّان ليرعبه كل ليلة، إذ يسمع الجميع صراخه حين تلتهمه الكوابيس، ويفر النوم من عينيه الناريتين. النوم هو الناجي الوحيد من هذا المكان حتى الآن… وربما بركة!

في صبيحة أحد الأيام غير الاعتيادية، أخذ الحُرّاس يتراكضون من كل حدب وصوب، محدثين جلبة تشير إلى حدوث أمر جلل. ردد السجناء بصوت مجلجل:

– بركة! بركة!

لا أدري هل كانوا يعنون بركة الذي أعرف، أم هي بركات سوف تتنزّل علينا؟ لم يمض وقت قصير على ذلك حتى تحققت تنبؤاتهم وتفشّى الخبر. وُجد السجّان مشنوقاً في مكتبه بملاءة بيضاء. صرخت حينها وبعلو الصوت:

– بركة!

لقد هطلت علينا الأحداث بسرعة برق شق صدر السماء على حين غرة، لم نستجمع أنفاسنا حتى تخلصنا من هذا النمرود، تغير السجّان… وأنا!

قريباً سأنال حريتي يا صديقي من هذا المكان التعيس لألتحق بوظيفة أخرى، لكني لم أعد مجرماً، بل وحشاً يخرج إلى العالم الخارجي بطبيعة شيطانية أخرى.

لست أنا الذي تعرف!

كاتبة من السودان

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.