الجزائر‭ ‬والثقافة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الربيع‭ ‬العربي

الثلاثاء 2016/03/01
تخطيط: حسين جمعان

كل هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬تُجيبنا‭ ‬عنها‭ ‬-والعبرة‭ ‬بالخواتيم-‭ ‬النتائج‭ ‬والانعكاسات التي،‭ ‬وللأسف‭ ‬الشّديد،‭ ‬كانت‭ ‬سلبية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قُورنت‭ ‬بحجم‭ ‬الخسائر‭ ‬المادية‭ ‬والبشريّة،‭ ‬ما‭ ‬ينطبق‭ ‬عليها‭ ‬قولاً‭ ‬هو‭ ‬المثل‭ ‬العربيّ‭ ‬القديم‭ ‬القائل‭ ‬”‭ ‬تمخض‭ ‬الجمل‭ ‬فولد‭ ‬فأراً”،‭ ‬فالثورات‭ ‬العربيّة؛‭ ‬ومنذ‭ ‬شرارتها‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬العربيّ‭ ‬انفتاحاً‭ ‬‮«‬تونس‮» ‬مروراً‭ ‬بمصر‭ ‬واليمن،‭ ‬فليبيا،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬سوريا،‭ ‬لم تكن‭ ‬تستهدف‭ ‬سوى‭ ‬شخص‭ ‬الحاكم‭ ‬الطّاغيّة،‭ ‬مُغيّبة‭ ‬بذلك‭ ‬حاشيته‭ ‬وكل‭ ‬الرّاكبين‭ ‬في‭ ‬فلكه‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الظلام،‭ ‬ولم‭ ‬تستهدف‭ ‬أركان‭ ‬المعبد‭ ‬القديم‭ ‬الذي‭ ‬حافظ‭ ‬حرَّاسه‭ ‬على‭ ‬موازين‭ ‬قواه،‭ ‬وعرفوا‭ ‬كيف‭ ‬يركبون‭ ‬الموجة‭ ‬ويُديرون‭ ‬قطارها‭ ‬على‭ ‬سكة‭ ‬تقوده‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬مصالحهم‭ ‬الخاصة،‭ ‬لم‭ ‬تقلع‭ ‬“الشّجرة‭ ‬الملعونة‭ ‬من‭ ‬جذورها”‭ ‬كما‭ ‬يُعبّر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬المفكر‭ ‬الجزائري‭ ‬أحمد‭ ‬دلباني،‭ ‬وهذا‭ ‬بسبب‭ ‬غياب‭ ‬دور‭ ‬المُثقَّف‭ ‬العربيّ‭ ‬الفعَّال‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬التّاريخي‭ ‬العظيم،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حتى‭ ‬يتوقعه،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنّها‭ ‬كانت‭ ‬ثورة‭ ‬سياسية‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬مصحوبة‭ ‬بثورة‭ ‬عقلية‭ ‬ثقافية،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يقودنا‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأنَّ‭ ‬هذه‭ ‬الثَّورات‭ ‬لم‭ ‬تنجز‭ ‬التَّغيير‭ ‬الشّامل‭ ‬والمسح‭ ‬الكامل‭ ‬لكل‭ ‬أثقال‭ ‬الحياة‭ ‬البدائيّة‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المجالات؛‭ ‬التي‭ ‬وضعت‭ ‬لها‭ ‬الأنظمة‭ ‬الفاسدة‭ ‬حجر‭ ‬الأساس،‭ ‬وتبنتها‭ ‬الشّعوب‭ ‬العربيّة‭ ‬مُرغمة‭ ‬وغالبا‭ ‬دون‭ ‬وعي،‭ ‬وكانت‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬درب‭ ‬الخلاص‭ ‬بالمعنى‭ ‬العميق‭ ‬مادامت‭ ‬قد‭ ‬تخلَّت‭ ‬عن‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬بنود‭ ‬الثّورات‭ ‬التّنويريّة‮ ‬‭ ‬القائمة‭ ‬أساساً‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬التّنويري‭ ‬النّاقد؛‭ ‬الذي‭ ‬يكتب‭ ‬بنودها،‭ ‬ويُخطّط‭ ‬لها،‭ ‬ويرسم‭ ‬معالمها‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬إلى‭ ‬الوصول‭ ‬لتحقيق‭ ‬الغايات‭ ‬المنوطة‭ ‬بها‭. ‬وإلَّا‭ ‬فكيف‭ ‬نُفسر‭ ‬صعود‭ ‬الإسلاميين‭ ‬إلى‭ ‬سدَّة‭ ‬الحكم‭..‬؟‭ ‬كيف‭ ‬نُفسر‭ ‬عودة‭ ‬البرابرة‭..‬؟‭ ‬وبماذا‭ ‬نُفسر‭ ‬الحروب‭ ‬الأهليَّة‭ ‬والدَّمويّة‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬ليبيا‭ ‬اليوم‭..‬؟‭ ‬بماذا‭ ‬نُفسر‭ ‬الأرواح‭ ‬المدنيَّة‭ ‬التي‭ ‬تتساقط‭ ‬بالآلاف‭ ‬يومياً‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬والتَّدخل‭ ‬الرّوسيّ‭ ‬فيها‭ ‬أليس‭ ‬هو‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأجنبيّ‭ ‬مهذباً‭..‬؟‭ ‬ما‭ ‬مصير‭ ‬الشّعوب‭ ‬التي‭ ‬ترزح‭ ‬بُلدانها‭ ‬-سوريا‭ ‬و‭ ‬العراق‭ ‬نموذجان-‭ ‬تحت‭ ‬نير‭ ‬الحروب‭..‬؟‭ ‬ألم‭ ‬يلجأوا‭ ‬إلى‭ ‬بُلدان‭ ‬أجنبية‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬عشبة‭ ‬الحياة‭..‬؟‭ ‬ثمَّ‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬داعش‭ ‬أصلاً‭..‬؟‭ ‬وغيرها‭ ‬كثير،‭ ‬أليس‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الحصاد‭ ‬الذي‭ ‬جنيناه‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المُسمى‭ ‬بـ”الرّبيع‭ ‬العربيّ”‭ ‬الذي‭ ‬اكتفوا‭ ‬بسنونوة‭ ‬واحدة‭ ‬لصناعته‭..‬؟‭ ‬وحتى‭ ‬لا‭ ‬نكون‭ ‬غليظين‭ ‬في‭ ‬حكمنا‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬“الولادة‭ ‬غير‭ ‬المكتملة‭ ‬”‭ ‬للعرب،‭ ‬ينبغي‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نعترف‭ ‬لها‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬إيجابياتها،‭ ‬وأرى‭ ‬أنّ‭ ‬أهمها‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬هو‭ ‬إجبارها‭ ‬للأنظمة‭ ‬البوليسيّة‭ ‬الشموليّة‭ ‬القمعيّة‭ ‬على‭ ‬الانفتاح‭ ‬رغماً‭ ‬عنها،‭ ‬بفتحها‭ ‬“لباب‭ ‬التّفاوض‭ ‬والحوار‭ ‬لأول‭ ‬مرّة‭ ‬في‭ ‬تاريخها‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬مع‭ ‬نفسها”‭ ‬كما‭ ‬يُعبر‭ ‬هشام‭ ‬صالح‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬“الانتفاضات‭ ‬العربيّة،‭ ‬ص‭ ‬235‭.‬

عوداً‭ ‬على‭ ‬بدء‭.. ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الجزائر‭ ‬تُعتبر‭ ‬من‭ ‬البُلدان‭ ‬العربيّة‭ ‬التي‭ ‬ركبت‭ ‬سفينة‭ ‬نوح‭ ‬ونجت‭ ‬من‭ ‬طوفان‭ ‬هذه‭ ‬الانتفاضات‭ ‬الشّعبيّة‭ ‬بأعجوبة،‭ ‬وحافظ‭ ‬نظامها‭ ‬الدّكتاتوري‭ ‬على‭ ‬شعرة‭ ‬معاوية‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وعرف‭ ‬كيف‭ ‬يُنوّم‭ ‬الشّعب‭ ‬الجزائريّ‭ ‬سياسياً‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نقول‭ ‬مغناطيسياً،‭ ‬وقد‭ ‬ساعده‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬نفسية‭ ‬هذا‭ ‬الشّعب‭ ‬المقهور‭ ‬الذي‭ ‬خرج‭ ‬لتوه‭ ‬من‭ ‬عشرية‭ ‬سوداء‭ ‬دموية‭ ‬،مضيفاً‭ ‬إليها‭ ‬عائدات‭ ‬الرّيع‭ ‬النّفطي‭ ‬-قبل‭ ‬أن‭ ‬ينهار‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬مُؤخراً-‭ ‬التي‭ ‬استثمرها‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬مشاريع‭ ‬عشوائية‭ ‬أملتها‭ ‬الظروف‭ ‬ليلجم‭ ‬بها‭ ‬غضب‭ ‬الشّباب‭ ‬البطال،‮ ‬فهذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أنَّها‭ ‬كانت‭ ‬بمنأى‭ ‬كلي‭ ‬عن‭ ‬الانعكاسات‭ ‬التي‭ ‬ترتبت‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الانتفاضات،‭ ‬فهي‭ ‬الجارة‭ ‬الشّقيقة‭ ‬لتونس‭ ‬مهد‭ ‬الرّبيع‭ ‬العربيّ،‭ ‬وليبيا‭ ‬أيضاً،‭ ‬تتقاسم‭ ‬معهما‭ ‬نفس‭ ‬الحدود،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنّها‭ ‬كانت‭ ‬داخل‭ ‬لُعبة‭ ‬الشّطرنج‭ ‬؛‭ ‬لكن‭ ‬بيادقها‭ ‬عرفوا‭ ‬كيف‭ ‬يُؤمِّنون‭ ‬حدودهم،‭ ‬ومنعوا‭ ‬امتداد‭ ‬موجة‭ ‬الغضب‭ ‬إلى هذا‭ ‬البلد؛‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬تحت‭ ‬وصاية‭ ‬حكم‭ ‬دكتاتوري‭ ‬رجعي‭ ‬قمعي‭ ‬واستبدادي‭ ‬يتغنى‭ ‬بديمقراطية‭ ‬مُزيفة‭ ‬تلوح‭ ‬باهتة‭ ‬عن‭ ‬بُعد،‭ ‬وبما‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬النّظام‭ ‬“أخطبوط‭ ‬الفساد”‭ ‬فقد‭ ‬بقي‭ ‬ثابتاً‭ ‬ولم‭ ‬تزحزحه‭ ‬موجات‭ ‬الرَّبيع‭ ‬العربيّ،‭ ‬فإنَّه‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬على‭ ‬السَّاحات‭ ‬السّياسيّة،‭ ‬الثّقافيّة،‭ ‬والاجتماعية‭ ‬وغيرها‭ ‬أي‭ ‬جديد،‭ ‬ولم‭ ‬يطرأ‭ ‬عليها‭ ‬أيّ‭ ‬تغيير،‭ ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬يُفكّرون‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬القريب‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬البعيد،‭ ‬أهمّها‭ ‬ما‭ ‬أتى‭ ‬على‭ ‬ذكره‭ ‬الأديب‭ ‬أزراج‭ ‬عمر‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬له‭ ‬بجريدة‭ ‬“العرب”‭ ‬الدّوليّة‭ ‬نلخصها‭ ‬في‭ ‬النّقاط‭ ‬التّاليّة‭:‬

*‭ ‬غياب‭ ‬مشروع‭ ‬حضاري‭.‬

*‭ ‬غياب‭ ‬مشروع‭ ‬الدّولة‭ ‬الوطنيّة‭ ‬التّحديثيّة‭ ‬المُؤسّسة‭ ‬على‭ ‬الهندسة‭ ‬الفكريّة‭.‬

*‭ ‬الوجود‭ ‬الظّاهري‭ ‬والشّكلي‭ ‬للمثقّفين‭ ‬وغياب‭ ‬الوجود‭ ‬الإبداعيّ‭ ‬والتّنويريّ‭ ‬التّحديثيّ‭.‬

*‭ ‬حصر‭ ‬السّلطة‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬وأدبيات‭ ‬وممارسات‭ ‬الحكم‭ ‬فقط،‭ ‬علماً‭ ‬أنّ‭ ‬السلطة‭ ‬مفهوم‭ ‬مركب‭ ‬ومُتعدّد‭ ‬الأبعاد‭.‬

هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬وغيرها‭ ‬قد‭ ‬أدَّت‭ ‬بالشعب‭ ‬الجزائريّ‭ ‬إلى‭ ‬إعلان‭ ‬انسحابه‭ ‬النَّفسي‭ ‬مُسبقاً،‭ ‬بعدما‭ ‬أصيب‭ ‬بـ”التَّسمم‭ ‬السّياسي”‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬القديم‭ ‬“القائم‭ ‬أساساً‭ ‬على‭ ‬الخداع‭ ‬مع‭ ‬تقديم‭ ‬دليل‭ ‬إقناع‭ ‬بعدم‭ ‬الخداع"‭. ‬إذن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬السَّبب‭ ‬الرَّئيس‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬هذه‭ ‬النَّكسات‭ ‬والفاجعات‭ ‬والمُحاولات‭ ‬الفاشلة‭ ‬للنهوض‭ ‬بمختلف‭ ‬الميادين‭ ‬سواء‭ ‬أكانت‭ ‬صناعية،‭ ‬أم‭ ‬زراعية،‭ ‬أم‭ ‬أخلاقية،‭ ‬أم‭ ‬سياسية،‭ ‬أم‭ ‬عسكرية‭..‬؟‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يُصاغ‭ ‬إلَّا‭ ‬من‭ ‬معدنٍ‭ ‬واحد،‭ ‬وهو‭ ‬الأساس،‭ ‬إنَّه‭ ‬معدن‭ ‬“الأزمة‭ ‬الثَّقافيَّة”‭ ‬كما‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬نبي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬“مشكلة‭ ‬الثَّقافة”‭.‬

والأزمة‭ ‬الثَّقافيّة‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬ضاربة‭ ‬جذورها‭ ‬في‭ ‬الأعماق،‭ ‬تنمو‭ ‬مع‭ ‬نتائجها،‭ ‬ولا‭ ‬يُمكن‭ ‬حلّها‭ ‬بمشاريع‭ ‬فلكلورية‭ ‬خاوية،‭ ‬أو‭ ‬مهرجانات‭ ‬تصرف‭ ‬عليها‭ ‬المليارات،‭ ‬كالتي‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬وزارة‭ ‬الثَّقافة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭.‬

إنَّ‭ ‬البنية‭ ‬الفوقيّة‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلَّا‭ ‬انعكاس‭ ‬لحالة‭ ‬البنية‭ ‬التَّحتيَّة،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الثَّقافة‭ ‬هي‭ ‬البنية‭ ‬الفوقية‭ ‬لكل‭ ‬مجالات‭ ‬الحياة‭ ‬تمرّ‭ ‬بعديد‭ ‬من‭ ‬الأزمات‭ ‬الخطيرة‭ ‬،‭ ‬فهل‭ ‬يُعقل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬البنيّة‭ ‬التحتية‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬الأخرى‭ ‬قوية‭ ‬ومتماسكة‭..‬؟‭ ‬يقول‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬نبي‭ ‬إنَّ‭ ‬“أيّ‭ ‬إخفاق‭ ‬يُسجّله‭ ‬مجتمع‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬محاولاته،‭ ‬إنَّما‭ ‬هو‭ ‬التّعبير‭ ‬الصَّادق‭ ‬عن‭ ‬درجة‭ ‬أزمته‭ ‬الثَّقافيَّة”،‭ ‬وبالتالي‭ ‬وجب‭ ‬إعادة‭ ‬النَّظر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القاعدة‭ ‬الأساس،‭ ‬وإعطائها‭ ‬أولوية‭ ‬ضرورية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرها،‭ ‬ومنحها‭ ‬الحرية‭ ‬الكاملة‭ ‬في‭ ‬التَّسيير‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬المحيط‭ ‬السّياسيّ،‭ ‬لأنَّها‭ ‬مرتبطة‭ ‬بشكل‭ ‬ديناميكي‭ ‬مع‭ ‬الحرية،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬خارطة‭ ‬بنيتها‭ ‬العميقة،‭ ‬حتى‭ ‬يُعاد‭ ‬تصفيتها‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬الشّوائب؛‭ ‬واستئصال‭ ‬القيم‭ ‬الأخلاقيَّة‭ ‬البالية،‭ ‬إنّنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬ماسة‭ ‬إلى‭ ‬“قتل‭ ‬الأب‭ ‬الثَّقافيّ”‭ ‬التقليدي‭ ‬والرجعي‭ ‬كما‭ ‬يُعبّر‭ ‬المفكر‭ ‬أحمد‭ ‬دلباني،‭ ‬حتى‭ ‬يُمكن‭ ‬إحلال‭ ‬بدائل‭ ‬أخرى‭ ‬مُخالفة‭.‬

لكن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬ذكره،‭ ‬لا‭ ‬يُمكنه‭ ‬أن‭ ‬يحدث،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الحاليّة،‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬مُعقّدة‭ ‬وصعبة‭ ‬جدّاً،‭ ‬بوجود‭ ‬محيط‭ ‬سياسي‭ ‬عفن‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬يقوده‭ ‬نظام‭ ‬دكتاتوري‭ ‬يرفض‭ ‬الاختلاف،‭ ‬وليس‭ ‬لديه‭ ‬أيّ‭ ‬نية‭ ‬في‭ ‬الانفتاح‭ ‬الثّقافيّ‭ ‬ومعالجة‭ ‬“الأزمة‭ ‬الثّقافيّة”‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬بها‭ ‬البلاد،‭ ‬والثّقافة‭ ‬الوحيدة‭ ‬المقبولة‭ ‬عنده‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يتَّفق‭ ‬مع‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬أو‭ ‬الصَّادرة‭ ‬عن‭ ‬أتباعه‭ ‬ومؤسّساته،‭ ‬أي‭ ‬ثقافة‭ ‬مُفصَّلة‭ ‬على‭ ‬مقاسه،‭ ‬والمُثقَّف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬صفهم‭ ‬ويُعارضهم‭ ‬تتعرض‭ ‬شخصيته‭ ‬للتلف‭ ‬وكرامته‭ ‬للمهانة‭ ‬وأعماله‭ ‬للتشويه‭ ‬الإعلاميّ‭.‬

إن‭ ‬سياسة‭ ‬التّهميش‭ ‬والإلغاء‭ ‬لشريحة‭ ‬هامة‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬والقادرة‭ ‬على‭ ‬الإضافة‭ ‬والمساهمة‭ ‬الفعَّالة‭ ‬هي‭ ‬ظاهرة‭ ‬مستفحلة‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬السّياسيّة/الثّقافيّة‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬بما‭ ‬أنَّ‭ ‬الثّقافة‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬استهلاكية‭ ‬غير‭ ‬منتجة‭ ‬تخضع‭ ‬لدفاتر‭ ‬شروط‭ ‬تُمليها‭ ‬سياسة‭ ‬النّظام‭ ‬الحاكم‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬تُمليه‭ ‬مصالحه‭.‬

إذن‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬الصَّعبة‭ ‬التي‭ ‬أملاها‭ ‬المُحيط‭ ‬السّياسي‭ ‬هل‭ ‬يُمكن‭ ‬للمثقّف‭ ‬أن‭ ‬يؤدّي‭ ‬دوره‭ ‬كما‭ ‬ينبغي‭..‬؟‭ ‬كيف‭ ‬يُمكنه‭ ‬أن‭ ‬يُقدّم‭ ‬أدوات‭ ‬التَّغيير‭ ‬المُتمثلة‭ ‬في‭ ‬إنتاجه‭ ‬الفكري‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬هو‭ ‬ضد‭ ‬الفكر‭ ‬التَّنويري‭ ‬أساساً‭..‬؟‭ ‬ثمَّ‭ ‬كيف‭ ‬يُمكننا‭ ‬أن‭ ‬نضمن‭ ‬عالماً‭ ‬أفضل‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتضمن‭ ‬“البحث‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬يدفع‭ ‬فيه‭ ‬الآخرون‭ ‬بأرواحهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فكرة”‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الفيلسوف‭ ‬كارل‭ ‬بوبر‭..‬؟‭ ‬لن‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬السّنوات‭ ‬التي‭ ‬اغتيلت‭ ‬فيها‭ ‬العقول‭ ‬بتصفية‭ ‬آلاف‭ ‬المفكرين‭ ‬والأدباء‭ ‬والصّحافيين‭ ‬إبّان‭ ‬فترة‭ ‬العشرية‭ ‬السّوداء،‭ ‬إنّنا‭ ‬نقصد‭ ‬هنا‭ ‬بالذات‭ ‬سلطة‭ ‬الرَّقيب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تكف‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مرة‭ ‬عن‭ ‬مُصادرة‭ ‬الكتب‭ ‬المهمَّة‭ ‬والجديرة‭ ‬بالقراءة،‭ ‬فقد‭ ‬سبق‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬منعت‭ ‬كتاب‭ ‬“قدّاس‭ ‬السّقوط‭ ‬”‭ ‬للمفكر‭ ‬أحمد‭ ‬دلباني،‭ ‬وهذا‭ ‬العام‭ ‬كتاب‭ ‬“الرّبيع‭ ‬العربيّ”‭ ‬للدكتور‭ ‬بومدين‭ ‬بلكبير‭ ‬ومئات‭ ‬الكتب‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬الصالون‭ ‬الدّوليّ‭ ‬للكتاب،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬فقد‭ ‬سمح‭ ‬لكتب‭ ‬أخرى‭ ‬تافهة‭ ‬وسخيفة‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬لها‭ ‬تصنيفاً‭ ‬كالعناوين‭ ‬التّاليَّة‭ ‬“هل‭ ‬أنت‭ ‬حمار‭ ‬شغل؟”،‭ ‬“كيف‭ ‬تعلّم‭ ‬ابنك‭ ‬الحمار‭ ‬دون‭ ‬تكرار”،‭ ‬“كيف‭ ‬تحلب‭ ‬النّمل”،‭ ‬والغاية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬استحمار‭ ‬العقول‭ ‬وتدجينها‭ ‬وتحويل‭ ‬المؤسّسات‭ ‬الثَّقافيَّة‭ ‬إلى‭ ‬إسطبلات‭ ‬ودكاكين؛ إنَّه‭ ‬الجهل‭ ‬المُقدَّس‭ ‬بامتياز،‭ ‬وهذا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬القطاع‭ ‬الثَّقافيّ‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬الذي‭ ‬تقوده‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المتعلّمين‭ ‬-غير‭ ‬المثقَّفين-‭ ‬الموالين‭ ‬للنظام،‭ ‬يعمل‭ ‬جاهداً‭ ‬على‭ ‬توزيع‭ ‬الجهل‭ ‬بالمساواة‭ ‬لضمان‭ ‬بقاء‭ ‬هذا‭ ‬النّظام‭ ‬واستمراره‭ ‬في‭ ‬الحكم،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نتساءل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السّياق‭: ‬هل‭ ‬توجد‭ ‬مجلَّات‭ ‬ثقافيّة‭ ‬تابعة‭ ‬لهذا‭ ‬القطاع‭..‬؟‭ ‬هل‭ ‬توجد‭ ‬قوانين‭ ‬لدور‭ ‬النَّشر‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تنشر‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬هب‭ ‬ودبّ‭..‬؟‭ ‬هل‭ ‬حدث‭ ‬أن‭ ‬استدعى‭ ‬مسؤولو‭ ‬هذا‭ ‬القطاع‭ ‬المثقّفين‭ ‬واستشاروهم‭ ‬في‭ ‬مشاريعه‭ ‬أو‭ ‬ليقيّموا‭ ‬معهم‭ ‬حصاد‭ ‬السنة‭..‬؟‭ ‬هل‭ ‬استدعوهم‭ ‬مؤخراً‭ ‬عندما‭ ‬قاموا‭ ‬بدسترة‭ ‬الثَّقافة‭..‬؟‭ ‬هل‭ ‬كرّموا‭ ‬كمال‭ ‬داود‭ ‬وبوعلام‭ ‬صنصال‭ ‬الفائزين‭ ‬بجائزة‭ ‬دولية‭ ‬بعدما‭ ‬كرموا‭ ‬عياش‭ ‬يحياوي‭ ‬وواسيني‭ ‬الأعرج‭..‬؟‭ ‬متى‭ ‬يتخلون‭ ‬عن‭ ‬تصفية‭ ‬الحسابات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والإثنية‭ ‬والعرقية‭ ‬وعقلية‭ ‬“الأقربون‭ ‬هم‭ ‬الأولى‭ ‬بالمعروف”‭..‬؟‮ ‬‭ ‬ثمَّ‭ ‬ماذا‭ ‬قدَّمت‭ ‬هذه‭ ‬التَّظاهرات‭ ‬الثَّقافيّة‭ ‬مختلفة‭ ‬الشّعارات‭ ‬-التي‭ ‬امتصت‭ ‬خزينة‭ ‬الدّولة-‭ ‬للثقافة‭ ‬غير‭ ‬الفضائح‭..‬؟‭ ‬أين‭ ‬السينما‭ ‬والمسرح‭ ‬المتطوران‭..‬؟‭ ‬هل‭ ‬توجد‭ ‬قوانين‭ ‬تحمي‭ ‬حقوق‭ ‬الكُتَّاب‭..‬؟‭ ‬هل‭ ‬استطاع‭ ‬اتحاد‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬“الجزائريين”‭ ‬أن‭ ‬يلم‭ ‬شمل‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬والمبدعين‭ ‬ويُنصفهم‭..‬؟‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تطرح‭ ‬حول‭ ‬هذه‭ ‬“الأزمة‭ ‬الثّقافيّة”‭ ‬الكارثيّة‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬بها‭ ‬الجزائر‭.‬

إنّنا‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬اليوم‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬سبق،‭ ‬إلى‭ ‬ثورة‭ ‬ثقافيّة‭ ‬عارمة‭ ‬تقوم‭ ‬بتصفية‭ ‬بنية‭ ‬التخلف،‭ ‬و‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬نوفمبر‭ ‬ثقافي‭ ‬يعطي‭ ‬انطلاقة‭ ‬جديدة‭ ‬للحياة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬ويلغي‭ ‬تبعيتنا‭ ‬إلى‭ ‬المشرق‭ ‬ثقافياً،‭ ‬حتى‭ ‬تعود‮ ‬‭ ‬للثقافة‭ ‬مكانتها‭ ‬كدستور‭ ‬للحياة‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.