الحب والحرب والرقص والمحراب

"رقص مصاصي الدماء" لمحمد ربيع حماد
الخميس 2022/09/01
لوحة: سعد يكن

برزت القصة القصيرة جدا وانتشرت نصوصها وسط جدل نقدي واضح، يضع التساؤلات حول حدودها واستقرار بنية نوعها الأدبي وطرق مقارباتها وتلقيها، فإذا بدأنا من إشكالية التجنيس نجد أن مسمى “القصة القصيرة جدا” يحمل تجنسيه، فالبنية التركيبية له تتضمن المعيار النوعي بتحديد النوع الأدبي باعتباره “قصة”، وكذلك المعيار الكمي الذي يحدد حجم النص باعتباره “قصيرا جدا”. أما إشكالية التسمية فنجد عدة تسميات لها، مثل: القصة البرقية، والقصة الصرعة، وسماها القاص الفرنسي فيليكس فينون بـ”قصص السطور الثلاثة”، وهناك من يسميها الشظية، الومضة، الأقصوصة.

ورغم أن التجنيس النوعي يحيل إلى نوع أدبي موجود بالفعل وهو القصة القصيرة؛ فإن هناك من يجد أن النوع الأقرب والمتداخل مع القصة القصرة جدا – إلى حد كبير – هو قصيدة النثر؛ فالتداخل وارد بين هذين الشكلين إلى درجة إلغاء الحدود بينهما سواء كان عن وعي أو بسبب ميوعة الحدود الأجناسية وقواعد بنائيتهما في الأساس.

إلا أن وجود آليات مشتركة بين النوعين (القصة القصيرة جدا وقصيدة النثر)، كالاختزال والتكثيف وشعرية الصورة والمفارقة لا يعني توفر قابلية الاندماج أو التنازل عن الحدود الإجناسية للأنواع بقدر ما هو واحد من التحديات التي تستوجب وضع أي نوع في حركية أو دينامية دون التخلي عن مرتكزات البناء النوعي، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن ما ينبغي حصوله من عملية التداخل الأجناسي هو استثمار التقنيات المشتركة بين القصة القصيرة جدا وقصيدة النثر، في مقدمتها خاصية السرد الشعري والقصصي، دون محو للحدود النوعية.

الأمر الذي يطرح سؤالا شائكا حول من يحدد مفهوم النوع: أهو الكاتب أم المتلقي أم السمات المميزة للنوع الأدبي نفسه؟

وتستدعي الإجابة على هذا التساؤل حضورا  للمبدأ الأرسطي الخاص بنقاء الأنواع، فكان أرسطو أول من وضع الأسس الأولى لنظرية الأجناس الخاصة بالشعر التمثيلي عند الإغريق عندما ميز المأساة من الملحمة والملهاة، وضبط لكل جنس من أجناس هذا الشعر الخصائص والأشكال.

وقد تحول هذا المذهب الشهير الخاص بنقاء الأنواع إلى مبدأ أساسي في النقد الكلاسيكي الذي لا يؤمن بامتزاج الأنواع، وهو المبدأ الذي ثارت عليه الحركة الرومانسية وتبنت فهما جديدا لنظرية الأنواع؛ فلم تلتزم بالتحديدات الصارمة بين الفنون، لتظهر بعد ذلك عدة أصوات تنادي بالدعوة إلى هدم فكرة الأنواع وإلغائها مثل بينيديتو كروتشه وموريس بلانشو ورولان بارت، وفي مقابلها نجد أصواتا نقدية تدافع عن وجود الأنواع وتحديداتها الأجناسية، منها ميخائيل باختين وجيرار جينيت وتزيفتان تودوروف.

فنجد جينيت في تحديده لمفهوم الشعرية في كتابه “مدخل إلى جامع النص” يؤكد على أن جامع النص هو موضوع الشعرية، أي أن مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص على حدة، ومن هذه الأنواع: أصناف الخطابات، وصيغ التعبير، والأجناس الأدبية. ليصبح النص الجامع هو النمط الأخير من أنماط المتعاليات النصية، الذي يحيل إلى العلاقة التي تجمع بين نص وبنيته الفوقية الافتراضية، التي تقرنه بمختلف أجناس الخطاب التي ينتمي إليها، مما يعرف بالتحديد الأجناسي للنصوص.

لوحة: سعد يكن
لوحة: سعد يكن

ويرى جينيت أن الامتزاج بين الأنواع لا يلغيها بل قد ينتج نوعا جديدا، وتجدر الإشارة هنا إلى قصيدة النثر التي زاوجت بين نوعين أدبيين وأصبحت حاليا نصا جامعا له سماته وآلياته وتحديداته النوعية الجديدة، وكذلك القصة الشاعرة التي جسدت تحرك السرد على حدود نوع آخر هو الشعر.

كما يرى تودوروف أنه “لكي يحدث الخرق يجب أن يكون المعيار محسوسا”، أي أن الإقرار بتداخل النوع هو تأكيد لوجودها في الأساس، فتبقى في النهاية أنظمة أنواعية كبرى تجمع كل نوع وتحدد سماته الفنية وتضع معاييره النوعية. وفي مرحلة ما بعد الحداثة نجد حضورا لما أسماه رولان بارت بـ”النص” خلافا للنوع، وما أسماه هنري ميشونك بالأثر الكلي، وهو نص يقترب من توصيف نص ما بعد الحداثة الذي أعلن فيه عن موت الأجناس والأنواع الأدبية.

ولعل التنظير لمفهوم القصة القصيرة جدا، وتأسيس بنيتها النوعية المفارقة لغيرها من البنى الإبداعية وجد ضالته في هذا التيار النقدي، الذي يهدف إلى تحطيم نظرية الأنواع الأدبية وتأسيس بنية النص المتفرد، فلا توجد أنواع أدبية مستقرة، بل توجد نصوص أدبية متجددة، من هنا تم فتح الباب لأصوات ولاتجاهات تنادي بالكتابة عبر النوعية – بتعبير إدوارد الخراط – وتؤيد تداخل الأنواع لإنتاج نصوص تتميز بنيتها بالتكثيف وانفتاح الدلالة والتأويل.

ولكونها شكلا تعبيريا منزاحا عن الأشكال التقليدية، أصبح من الضروري على النقاد تغيير أدوات القراءة التقليدية والبحث عن بدائل في مقاربتها وتلقيها، حيث ترفض القصة القصيرة جدا الخضوع إلى نظرية العوامل، والبنى السردية، ولمفاهيم الزمن التي تقاربه من ناحية زمن النص، أو زمن الخطاب، الاستباقي أو الاسترجاعي، ولتعيينات المكان المفتوح أو المغلق، التي تبحث في أبعاد الأمكنة الجمالية والمادية، فلا مجال في القصة القصيرة جدا يتسع لكل تلك التقنيات التقليدية.

فيكون من أهم خصائص مقاربتها استهداف تقنيات الجملة بدلا من تقنيات النص، وتقديم نص سمته التكثيف اللغوي، واختزال المضمون، والمفاجأة وكسر أفق انتظار المتلقي. ليصبح من سماتها: الإيحاء المكثف، والانتقاء الدقيق، ووحدة المقطع، والتلميح والاقتضاب، والتجريب والنفس الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث.

و”رقص مصاصي الدماء” (2021)؛ هي مجموعة قصصية لمؤلفها محمد ربيع حماد، تنتمي إلى جنس القصة القصيرة جدا، جاءت مقسمة إلى ستة أقسام أو مجموعات رئيسة يبدأ كل قسم منها بعنوان “ومضات” يلحقه تركيب اسمي أو فعلي، ويسبق كل قسم تصديرا غيريا يأتي باعتباره مدخلاً موضوعيًّا للعمل وكاشفًا عن مرجعيات الكاتب الثقافية، وحافزًا خارجيًّا لإثارة القارئ، ولدفعه إلى استدعاء رصيده الفني والثقافي في قراءة المقروء سلفًا، وإعادة قراءة هذا المقروء في إطار النوع الحكائي وبمعزل عن النص الأصلي.

نجد أن ممارسة التصدير تتكثف في المجموعة وتأخذ حضورًا كميًّا ونوعيًّا واضحا، فبجانب مقاطع التصدير الممهدة للأقسام الست، يمهد الكاتب للمجموعة بأكملها بتصديرين غيرين؛ الأول مقولة إدوارد غاليانو “أحاول قول الأكثر بالأقل، لأن الأقل هو الأكثر” وربما تحيل إلى إمكانات القصة القصيرة جدا التعبيرية رغم اختزاليتها للمعاني، والثاني مقولة إيميل سيوران الذي جاء فيها “أنا مستعد للتخلي عن كل مشاهد العالم مقابل مشهد طفولتي” وتحيل المقولة بشكل واضح للافتتاحية التي انتقاها الكاتب من مشاهد طفولته البعيدة، وتمهد لها.

على الرغم من أن الكاتب قد عنون افتتاحيته بـ”تصدير”، فإنها تعد في الأساس من خطابات التقديم وليس من خطابات التصدير، الذي هو استشهاد غيري في أغلب الأحوال، فتنطبق عليها تسميات: التمهيد، أو المفتتح، وغيرها من المفردات التي عدها جينيت مرادفات متوازية لخطاب التقديم.

ويتخذ خطاب التقديم صيغة شكلية أساسية تتمثل في كونها خطابًا نثريًّا، إلا أن هذه القاعدة قد تُخترق لحضور ممارسات استهلالية استثنائية. فيأتي الخطاب المقدماتي على أحد الصيغ التالية: صيغة درامية، أو شعرية، أو سردية، أو نثرية. وتكون ذاتية.

كتب

وقد وضعت المقدمة للنص القصصي محيطًا تمهيديًّا وقدمت له إيضاحًا، كما وفرت له بعدا تداوليًّا، وعملت على التأثير في المتلقي مشكّلة ما يمكن تسميته بـ”الميثاق التمهيدي”؛ فانشغلت الافتتاحية التي حوت النص القصصي الأطول في نصوص المجموعة، بتوضيح امتلاك الشاعر/الكاتب لصنعة الكلام التي خالفها باللجوء إلى التلميح والومض في المتن القصصي في مفارقة واضحة ظهرت في طول حجم الافتتاحية وقصر القصص نفسها، مفارقة أخرى تطرحها الافتتاحية تتمثل في تصريح الكاتب بتجنبه لمواضع النقاش الخاص بالمجتمع والدين والحرية، في حين انشغال المجموعة بالقضايا الإنسانية وبالأحداث المتأزمة داخل المجتمع.

وعند الانتقال عن أهم المضامين الفكرية للمجموعة، نجد أن المجموعة الأولى “ومضات على حدود سايكس بيكو” قد خيُم على قصصها موضوع الحرب وما تخلفه من آثار مادية ونفسه؛ من سقوط للقتلى ولجوء للمواطنين وسوء أحوال الباقين منهم داخل أوطانهم.

برزت الفكرة – كما نلمس – بداية من العنوان الذي يشير إلى اتفاقية سايكس بيكو بوصفها أخطر الاتفاقيات التي أسهمت في تقسيم شبه الجزيرة العربية إلى مناطق يسيطر عليها الاستعمار الفرنسي والإنجليزي. ويؤكد الكاتب فكرته عبر استدعاء مقولة للسياسي البريطاني جورج جلاوي المعروف بآرائه المناهضة للحروب والمناصرة للقضية الفلسطينية.

وعبر قصص الومضات الأولى، يشير الكاتب إلى آثار الحروب على المجتمعات وويلاتها على البشرية؛ فيسلط الضوء على مأساة القضية الفلسطينية القائمة على جدلية الاختيار بين البقاء في الوطن تحت سلطة الاحتلال الصهيوني أو النزوح عنه وتركه للمستوطنين اليهود الجدد الذين احتلوا الديار وخربّوا الأرض. فيلمّح إلى تجربة النفي كتجربة موائمة يمر بها الإنسان نتيجة للحروب، فالمنفى – كما برز في “غربة روح” – صدع قسري يفصل بين الإنسان وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي ولا يمكن التغلب على الحزن الذي يسبّبه والذي يرتبط دائما بشعور الفقدان. وكذلك إلى سوء أوضاع اللاجئين من ضحايا الحروب أو التهجير في “مخيم” التي يشير فيها إلى أنه رغم أن المخيمات تقضي بأن تكون مأوى مؤقتا لساكنيه حتى عودتهم إلى أوطانهم، فإنها تتحول إلى سكن دائم أحيانا يطول وجود اللاجئين بها.

ولا شك أن الاستعمار بأشكاله المتعددة هو السبب الرئيس في تعدد الجنسيات، فنجد الفلسطيني – الأميركي أو الجزائري – الفرنسي، وغيرها من أنماط يعاني أصحابها من أزمة الانتماء أو اضطراب الهوية، وهو ما جسده الكاتب بتكثيف وبراعة في “تغطية إخبارية”.

أما داخل الأمة الواحدة، فنجد أن الانقسامات الداخلية بين أبنائها (كما في “فتنة”)، وسعي رجال الدين إلى الاستيلاء على السلطة  (كما في “رايات سوداء”)، وتمرد المواطنين على أوضاعهم الاجتماعية السيئة (كما في “توثيق”)، كلها تداعيات لا تقل خطورة عن قيام الحروب بين الدول.

تناقش المجموعة الثانية “ومضات ترقص في المحراب” فكرة تمرد الإنسان على المعتقدات البالية ومحاولاته إعمال العقل في كل المسلمات البديهية رغبة في التغيير، وهو ما قد يقابله أعداء التجديد بالرفض مرة، وبالعنف والإنكار مرة أخرى.

برزت الفكرة بداية من العنوان الذي يحمل في تركيبه مفردة “محراب” وما تستدعيه من قداسة بجانب “الرقص” كرمز للتمرد، ويؤكد الكاتب فكرته عبر استدعاء مقولة للكاتب اليوناني نيكولاس كزانتزاكيس المشهور بروايته “زوربا اليوناني” وبتأثره بنيتشه وأفكاره عن الدين والحياة والله.

وعبر قصص الومضات الثانية، يشير الكاتب إلى التجديد بوصفه إعمالا للعقل ورفضا للجهل، وآثاره على المجددين والمحافظين؛ حيث يدعم الكاتب قيم التنوير وثماره، ويدعو إلى تحرير الفرد والمجتمع من كل العقائد البالية السائدة في “تنوير”، ويواصل في “اختيار” عرض الرحلة الفاصلة التي يمر بها المجدد بين الاعتماد الكلي على الغيبيات والإيمان بضرورة إعمال العقل، ويؤكد في “ضلال” قدرة العقل البشري على التغيير  وإصرار المتنورين على إحداثه رغم ما قد يقابلونه من تكفير.

ومثلما يشير إلى الرحلة العقلية التي يمر بها الفرد في تساؤلاته الفكرية المتعلقة بالحياة، يشير كذلك إلى رحلة النفس البشرية أثناء إدراكها لحقيقة الموت ووهم الحياة (كما في “كياسة”)، واعترافها بالضعف كجزء من الطبيعة البشرية (كما في “عين الحكمة”)؛ فالشباب قوة بين ضعفين. ولذلك، يعلن في “أنا وهي” تمنّي الوصول إلى مرتبة الاطمئنان بوصفها أرقى درجات النفس الإنسانية.

تعرض المجموعة الثالثة “ومضات خلف الأبواب” بعض المشكلات الاجتماعية كالخيانة وتزويج القاصرات والطلاق وغيرها، عن طريق توظيف الأجواء الأسطورية التي تمتلئ بشخصيات من الشياطين والجان وغيرها. ويمكن القول بأن الفكرة برزت أيضا كذلك من العنوان، وما يشي به تعبير “خلف الأبواب” من غموض وريبة وأحيانا رعب. وهو ما يتواصل مع استدعاء مقولة للكاتب المصري أحمد خالد توفيق الأشهر في مجال أدب الرعب والفانتازيا والخيال العلمي.

ولذلك يتضافر في قصص الومضات الثالثة الواقعي والفانتازي في تجسيد مشكلات المجتمع بشكل ملموس؛ فنلمح الشيطان وإغواءاته في “قطاف”، وبراءة الحياة الأولى في “جنة” والظلال البشرية في “شيء من اللاوعي” والأصوات الغريبة في “إشارات”، جنبا إلى جنب مع قضايا تزويج القاصرات في “تجارة مشبوهة” والخيانة الزوجية في “عزوف” و”راضية”، والوصاية الأبوية في “حنان زائد”، والمفاهيم الطبقية في “عزف منفرد”، وأشكال الموت المختلفة كالشهادة والقتل والموت الطبيعي في “بقايا” و”كاريزما” و”فراغ”.

أما المجموعة الرابعة “ومضات تقذف بالإشارة” فتتناول ثورات الشعوب ضد الاستبداد ورغبتها في التغيير الاجتماعي وإلغاء التفاوت الطبقي بين فئات المجتمع. نلمس الفكرة من العنوان ودال “القذف” بما توحيه من كشف الستر وفضح السوءات وانتهاك المحرمات، ونتأكد منها عبر استدعاء مقولة لفولتير، الفيلسوف الفرنسي الذي عاش في عصر التنوير وكان مدافعا صريحا عن الإصلاح الاجتماعي.

لوحة: سعد يكن
لوحة: سعد يكن

وهنا يشير الكاتب في “لقطة” إلى تهديد السلطة، بمختلف أشكالها العسكرية والدينية والاقتصادية، لاستقرار المواطنين المجبرين على “التفاوض” مع واقع لا يقبلونه ولكنهم مرغمين على البقاء داخله. ويواصل الإشارة إلى استبداد بعض الحكام العرب وممارستهم القمعية ضد شعوبهم (كما في “ممنوع”)، ويلفت النظر إلى استمرار ثورة الشعوب ضدهم رغبة في تحرير أوطانهم وتحقيق المساواة الاجتماعية عبر الثورات المطالبة بالعدل والقضاء على الفقر في “نضال” وعدم خوفهم من الاعتقال أو فقدان حياتهم في سبيل تحقيق ذلك، كما عبر في “كمين”.

تجسد قصص المجموعة الخامسة “ومضات شبحية” ما تتعرض له النفس الإنسانية من مشاعر اغترابية مختلفة، تجبرها أحيانا على العزلة الاختيارية. وقد اعتمد فيها الكاتب على منحى سريالي منطلقا من الواقع المادي للتعبير عمّا فوق الواقع، من أحلام وظواهر غريبة وتصورات خيالية.

وهو ما يتجسد في العنوان الذي وصف تلك الومضات بـ”الشبحية” تأكيدا على بعدها غير الجلي وعناصرها الخارقة للطبيعة. وهو ما يتماشى – بالتأكيد – مع اختيار تصدير مقتبس عن إحدى مقولات الفنان الإسباني بيكاسو المشهور بأعماله السيريالية التي تعتمد على المفردات الواقعية في استخدامها كرموز للتعبير عن الأحلام والخيالات والارتقاء بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي.

فتصور قصة “كيان” الفرد في اغترابه عن المحيطين بالإنسي وسط الأشباح، بينما تجسد “زيف” تحطيم كل تلك “الأصنام” التي خلقها الإنسان على مر العصور وآمن بها ومحاولة تفكيك قدسيتها بعيدا عن الوصاية الأخلاقية أو الدينية أو السياسية عن طريق “الماء” واستدعاء قوة الماء التدميرية المتمثلة في الطوفان وما يتبعه من تطهير وخلق جديد. أما قصة “جولة” فترصد قدرة الأحلام على تعبيرها على الواقع، وتنتهي المجموعة بقصتي “انفراجة” و”علاقة خاصة”، وهما معبران عن علاقة الفنان بعمله وارتباطه به.

أما المجموعة السادسة والأخيرة “ومضات تظلل صاحبها”، وهي أطول نصوص الكتاب؛ حيث تضم حوالي 40 قصة/قصيدة قصيرة، وهو تفاوت ملحوظ وغير مبرر بينها وبين كم المجموعات الأخرى وكيفها، فتعود مرة أخرى لمقولة للفيلسوف الروماني إميل سيوران.

تدور ومضات المجموعة حول المشاعر الإنسانية والأحاسيس المتناقضة، فتستكشف مشاعر الاغتراب عن الذات (كما في “جوع – حنين”)، وعن الوطن وما ترتبط بها من خذلان وإحباط وحزن (كما في “مدونة – نقصان”) والتمسك بالأحلام بديلا للواقع،  كما تجسد القصص مفهوم الظل بوصفه قرينا للغموض والسوداوية (كما في “مراقبة”)، واستدعاء الذكريات بوصفها بديلا للحاضر المأزوم، وفكرة الثورة بوصفها الوجه المكمل للحب (كما في “اشتباه – سياسة –  ترصد”)، وتلقي الضوء على بعض الصفات كالنفاق بوصفه الصفة الأكثر دناءة في النفس الإنسانية.

وهكذا تعاطت المجموعة القصصية القصيرة جدا “رقص مصاصي الدماء” مع المحددات النوعية للقصة القصيرة جدا ومع سماتها الأسلوبية والتعبيرية؛ من اختزال وتكثيف سردي ومفارقة الصورة والرمز وخصوصية البداية والنهاية، ومن جرأة في التعبير عن الهموم الذاتية والاجتماعية والإنسانية المعاصرة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.