الذات‭ ‬والانعتاق

الخميس 2015/10/01

خرجت الكتابة من إطار المفهوم الرائي بكونها تنزيلاً وإلهاماً إلى مفاهيم عكسية أكثر وعياً وحقيقيةً‭..‬ من حيث بات عليها أن تتصعد تصعداً من القاعدة نحو الآفاق المفتوحة المتمردة على الحدود‭..‬ ومن عوالم الكتابة يأتي عالمٌ له خصوصيته المتفردة وحياته المختلفة عن سواها‭..‬ ألا وهو عالم الشعر‭..‬ ذلك العالم الذي ما يزال يمتح أفكاراً مخالفةً وغريبةً كالجنون والشعوذة والهجس والتلقين والخفاء‭..‬ وغير ذلك مما هو مرتبط بالعوالم الغيبية والماورائية التي ساد الاعتقاد وما يزال يسود أن الشعراء من سكانها أو كائناتها‭..‬

ومع ذلك ومع كل تلك المفاهيم الغرائبية، التي خدمت وأيضاً هدمت الشعر‭..‬ كان لا بد من أن تفرض متغيرات الحياة البشرية وتطوراتها المتسارعة واقعاً آخر على الشعر‭..‬ إذ جذبته من تلافيفه نحو الواقع وأمرته بالتعايش وتبادل الأطر والمفاهيم النفعية البينة معه‭..‬ وذلك باعتبار الشاعر جزءاً لا يتجزأ من الواقع المعيش حوله ومن البشر الذين يقاسمونه إياه‭..‬ نعم، هنا عاد الشاعر إلى حقيقة كونه إنساناً يجتمع مع بني البشر الآخرين في صفات وطرق وحاجات الحياة، ويتقاسم معهم هذا الواقع بكامل تفاصيله وهمومه ومتطلبات الانتماء إليه والاستمرار فيه باعتباره إطاراً عاماً لمعنى وجودي عام‭..‬

هكذا عاد الشاعر إلى رشده وبات عليه أن يتعامل مع واقعه وحياته في علاقة تبادل أبدية تشبه العلاقة القائمة بين البحر والسحاب‭..‬

عاد الشاعر مرغماً لإنسانيته الطبيعية وبدأ يتعايش معه تعايشاً تفاعلياً فعلياً أو إيجابياً‭..‬ وذلك طبعاً ليس بمنأى عن ضرورة فلسفته المتفردة والمختلفة والمتباينة بين شاعر وآخر حول هذه التجربة، تجربة الحياة، التي يجب أن ترتبط بها كل عناصر كينونته ووجوده‭..‬ فتغيرت مع ذلك كل طرق وكيفيات اتصاله وتواصله‭..‬ فمثلاً غدا الحب في منظوره قضية إنسانية جمعية، بعد أن كان هجساً شخصياً منزوياً ومقفلة دونه الأبواب والنوافذ ومسدودة كل الطرق إليه عدا طريق ضيق واحد يعبره الحبيب والنص متزاحمين‭..‬

وبهذا التطور المفهومي للكتابة الشعرية، وبعيداً عن الجوانب والاكتشافات والابتكارات النصية الفنية وما يرتبط بها‭..‬ تجلت انكشافات جديدة وفتحت بوابات متسعة واندفقت الأضواء والتجليات المطلقة بين عالمي الشعر والواقع حتى كادا يصيران عالماً واحداً مشتركاً في صفاته وكيفيات استمراره تحت سقف الوجود‭.‬

وذلك ما فرض بدوره اجتلاب كل المعاني والقيم والأفكار سواء المتواجدة أو المتوالدة، لتكون في مجموعها نقطة لا بد من الالتقاء فيها أو عندها‭..‬

الفضيلة والجريمة، الموت والحياة، الأوطان واليباب، القول والصمت، الكتابة والهزيمة…، ومئات بل آلاف من الثنائيات والقضايا التي يغرفها الشعر من الواقع حوله ويعيدها إليه بعد أن أعاد وربما كرر إعادة صياغتها بما ينسجم ومتطلبات هذا الواقع‭..‬ الذي يبدو مزهراً للحظات معظمها المشغول بالكتابة‭..‬ ثم سرعان ما يغدو شرساً قاسياً إلا أنه يظل مكتظاً بالكتابة أيضاً‭..‬!

الشاعر وإن غدا بعيداً بعض الشيء عن وجوده المثالي المفترض إلا أنه في الحقيقة يظل مرتبطاً بمعاني ذلك الوجود ودالاً عليه‭..‬ فقط علينا البحث عنه جيداً وسنجده مشغولاً بكيفيات وجوده وتواجده‭..‬ وبالبحث عن ذلك الصوت المتميز الذي يمثل شخصيته الإبداعية وهويته الفكرية الوجودية‭..‬ إنه موجود في كل تفاصيل الواقع يتماهى معها ويدوّنها ويوصلها أيضاً بطريقته‭..‬ ولا يمكنه بالطبع أن يفعل كل ذلك إلا وهو في حالة انعتاق مطلقة‭..‬ وبعد أن يتمكن من تحديد موقعه وموقفه من السلوك والقيم والأفكار المتناثرة من حولها، يبذل قصارى جهده ليلملمها جميعاً في عقد واحد يمثل صوته وموقفه من الحياة وكل ما فيها‭..‬ وفي مقدمة كل تلك القيم والأفكار والمبادئ مبدأ الحرية‭..‬ الحرية التي تمنحه فرصة البحث عن ذلك الصوت، وجعل أصدائه تتردد من كل ما تصطدم به أو يصطدم بها‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.