الرحلة المدهشة

من الأخماس إلى البصرة
السبت 2018/12/01
غرافيك "الجديد"

قراءة “البرجمانات”ــ مخطوطات الأجداد هي العودة بالزمن إلى الوراء. وهذا ليس بالأمر الجديد، أو أنَّه لم يشغل الناس في الوقت الحاضر والماضي، بل كان حلماً داعب أذهان الكثيرين من بني البشر. العودة إلى زمن مضى بأحداثه ووقائعه مدعاة لأن يبذل الكثيرون من أجل تحقيق هذا الحلم ما لديهم من غال.

وقد تحققت للبعض من الناس، فرأوا ما لم يره غيرهم. وعاشوا لحظات الزمن القديم بما وصلهم من مخطوطات أكل أطرافها السوس، وعفن السنوات. فقصَّت عليهم كل ما جرى في ذلك الزمن من فجائع وأفراح. ووجدوا فيها الكثير من القصص والحكايات عن أولياء ودراويش، وأصحاب كرامات، طووا الزمن إلى يومنا الحالي، وعاشوا الماضي والحاضر بعد أن كانوا يعيشون حاضرهم بكل مخاطره وعذاباته.

هذه المقدمة لكي أقصُّ ما حدث فعلاً من انتقال شخصي المتواضع، أنا سليمان من بيت آل سليمان سليط الأعمشي، من زمنه الحاضر إلى زمن آخر موغل في القدم، لأحكي أحداث ما دار على جدي الأول في القصة التي بين أيديكم. بشخصياتها ووقائعها، وأحداثها. وهي قصة حقيقية لسكن جدي الأول مدينة “الأبلة” الاسم القديم لمدينة البصرة الحالية، قبل أربعة عشر قرناً، لم يدخلها الكذب والباطل، والخيال من بدايتها حتى نهايتها، فهي موثقة ببرجمان يعود تاريخه إلى مئتي سنة ماضية احتفظتُ به.

لم أكن أعبأ في البداية به بعد أن حصلت عليه من تَرِكة جَدِّي ورثها عن أبيه، وأبوه ورثها عن جدِّه، وهكذا توالى الترك، والحفظ حتى نهاية القرن الهجري الثالث. وأعاد تدوينه أحد أجدادي في ذلك القرن، وأضاف إليه، وهكذا كل مئتي سنة يعيد أحدُ الأجداد من النابهين، ممن عاشوا في “الأبلة” أو ما سميت بعد ذلك “البصرة” وموقعها اليوم مدينة العشار الحالية، على نهر العشار، الذي حوله الأحفاد اليوم، للأسف إلى مجرى للمياه العادمة، وأمر يومنا ليس هو همّي بقدر همّي في إظهار ما اكتنزه أجدادي من إرث ثمين: تاريخ مدينة “الأبلة” ونهرها العظيم، نهر العشار بفرعيه الحاليين: نهر الرباط، ونهر البصرة القديمة، الذي أقيمت شناشيل البصرة على ضفتيه، وهي قصور وجهاء البصرة، وأغنيائها، وأهلها من الذين رسموا تاريخها القديم والحديث قبل قرون كثيرة. كان طريق أهل الأبلة للعالم من خلال نهر العشار، الذي يأخذ ماءه من شط العرب، ويصب في البحر (الخليج العربي)، وكانت السفن تأتي من الهند، وتذهب إليها محملة بالغلال، قبل أن تنقلب الصورة في أيامنا الحالية، فيصبّ الخليج في النهر، ويحول ماءه العذب إلى ماء مالح أجاج قتل الزرع والضرع والإنسان.

تولّى الأجداد “البرجمانات” بعنايتهم، فأعادوا كتابتها وإرفاق ما أضافوه إلى “البرجمان” الأصلي، وآخر “برجمان” وصلني يعود تاريخه، إلى مئتي عام تقريباً، ولم أفك خطه القديم إلا بصعوبة، ولم أكن أفهم بعض كلماته، فكيف لو بقي “برجمان” القرن الهجري الأول، الذي كان بلا نقاط ولا إشارات قطع ولا فوارز، ولا إشارات طباعية حديثة، ولم يخطّ خطوطها عهد بعد عهد؟ وكانت كل صحيفة منه، محبرة، كسبيكة، واحدة كثيرة الخطوط في صفحات عملت السنوات في ورقها ندوباً وخروقاً، وأضاف الأجداد إلى حواشيه توضيحات وشروحات كثيرة تحتاج هي أيضاً شروحاً وتوضيحات لصعوبة نطقها وغموضها.

 المخطوط

 (حفظت الله كواحد)

 سليمان بن سليط الأعمش

 10 هـ / 118 هـ

الاستعداد للرحلة 

رتبت أنا سليمان الأعمش حصيرتي اليمانية، ووضعت رقيقة الجلد مع الدواة وقصبة الخط في مكانها عند معفر الرقوق، ورقائق الرسائل المكتوبة لي، وقصائد كتبتها أيام الشباب. و”برجماني” الذي أسجل فيه، ما يحدث لي في يومي من أحداث، وما اعتقده من أحوال الناس، والحياة وسير وتواريخ بني الأعمش، ومن حولهم من أهل العزم، والصَّولة في منطقة “الدساكر” شمالي الأبلة. وأنظر متأملاً إلى مدورة غسل أكُفّ الضيوف النحاسيّة، وأفكر، لم يعد يؤم بيتنا الضيوف، منذ وفاة والدي الشيخ عيسى الأعمش. كبير قبائل الأعامشة. وانفضت عني العشيرة، وبايعت إبن عمي مروان الأزرق بالمشيخة عليهم.

قال حكماء بيت الأعمش عني “إن هذا الولد ليس سر أبيه” فهو لا يصلح لتدليس أو لمناورة الشيوخ، ورجال القبائل من بدو الصحراء الذين حول الدساكر، أو إجادة المناورة مثلهم، لتصريف أمور أهلنا، وجعلنا في عز كما كان أبوه يفعل. فهو لا يصلح اليوم لمشيخة، ولا إلى إمارة، ولا يصلح حتى لرعاية قطيع مَاعِز. دعوه لأشعاره وتواريخه، التي يسجلها عن خلق الله. ولا ينال منها حلالاً ولا حراماً. دعوه لأحلامه بالعودة إلى مصاحبة أولياء الله الصالحين، الذين قضوا في الفتن، والعصبيات وحروب الجهاد.

أتذكر ذلك وأنا أحاول إذكاء نار طبيخي بأبعاد الأثافِيّ الثلاث عن بعضها للسماح لي بوضع المزيد من الحطب، لإذكاء نار كافية لطبخ طعامي.. والآن تفرغت لجمع رقوق برجماني، وهي عندي خير ما في هذه الدنيا من جاه، ومناصب وعزة كاذبة. فأضفت على رق من جلد غزال الأتي:

هذا ما جاء في “الأبلة” جؤجؤ المدن، المطلة على نهر الخير، وعلى بعد عدة فراسخ من موقع مدينة “الخريبة” إحدى جهات الدساكر، التي سميت بالأخماس عند الفتح الإسلامي، الواقعة على أطراف الصحراء. يعيش أهلها على التجارة والرعي والصيد في عهد خلافة الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب. إنَّ لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا سليمان بن عيسى كبير مشايخ آل الأعمش. قررت الرحيل عن بطاح أجدادي وأهلي في “الأخماس″ للعيش مع الحضر في مدينة “الأبلة” حتى يأذن الله تعالى لي باستعادة ملكي، ومكانتي بين قوم أكثر حكمة ممن فارقتهم، وأكثر إيماناً ونخوة منهم. انتقالي من هناك إلى هنا لم يصاحبني فيه سوى خادمي مسعود، فله في قلبي محبة، ولي عنده منزلة.

وهذه بصمتي على كتابي هذا. وقّعتها في فاتح شوال من السنة الثامنة والثلاثين للهجرة النبوية المشرفة. (ذكر أن لسليمان بصمة، ممحوة لكفه بعد أن بللها بحبر دواته على الرقيقة أسفل بيانه. كما جاء في عبارات من سبق، ولم تظهر أيّ بصمة في المخطوط، الذي وصلني).

مرت شهور على قراري للرحيل عن “الأخماس″ حتى أعدُّ العُدَّةَ لانتقالي إلى “الأبلة” يساعدني في ذلك خادمي مسعود، وقد أعدَّ الركائب التي ستصاحبنا في رحلتنا، والظهر الذي سيُحمل على الركائب، وسألني مسعود عن الوجهة، فلم أجبه، فظن أنَّ في الأمر سراً لا أريد البوح به لأحد. فصمت احتراماً لرغبتي.

الحرُّ ينفي نفسه

1 ذو القعدة 38 هجرية

لوحة ليلى نورس
لوحة ليلى نورس

خرجنا في قافلة ذاهبة إلى الأبلة، وذاك ما قررته بعد تفكير طويل. كانت ركائب القافلة تسلك الطريق المحاذي للصحراء، وتمر في طريقها بعدة مراحل، وكل مرحلة تقطع فيها عدة فراسخ. لم تكن الطريق آمنة في كل مراحلها. فقد انتشر في بعض مراحلها قطاع الطرق، مستغلين الأوضاع السياسية القلقة بين عاصمتي الدولة الإسلامية: دمشق والكوفة.

وإنْ كانت السفارات لا زالت مستمرة بين الطرفين، والي دمشق؛ والخليفة الراشدي علي في الكوفة. لكنها في حقيقة الأمر سفارات زائفة ــ كما أظن ــ الغرض منها كسب الوقت، لتحشيد الجيوش؛ وطلب الأنصار من قبائل الجزيرة العربية؛ وكسب القلوب بالعطايا والمناصب من جهة والي دمشق، والوعظ والإرشاد من جهة خليفة المسلمين في الكوفة.

الجميع في الكوفة ودمشق يعرفون أنَّ المعركة الفاصلة بين الطرفين قادمة لا محالة، ومهما فعل الأخيار لحقن دماء المسلمين.

كانت تمرّ بقافلتنا ــفي مراحلها الأخيرةــ “تختروانات” أصحاب الأراضي، وأغنياء “الأبلة” وهي تجوب الطرق المؤدية إلى مجرى نهري دجلة والفرات بعد التقائهما في نهر عريض، حاملة أصحابها. ويجر كل “تخترون” منها حصانان. ويبدو على الأحصنة أنَّها جُلبت من خيول أنطاكيا، لسعة الردفين، وعلوّ قامة كل حصان وضخامته، فحركة التجارة بين بيزنطة، والدولة الإسلامية، لم تنقطع عبر الأراضي الخصبة في الشمال، وانتهاء بأرض السواد.

ومشاهدتنا للتختروانات توقفت بعد أن ابتعدنا فرسخين عن النهر، ولم نلحظ لها أثراً، وبلغنا خاناً من خانات الطريق، فتوقفت عنده القافلة، لأخذ قسط من الراحة. وتجديد تموينها بالماء، ودقيق الحنطة والشعير والفواكه الطازجة والجافة، فالقافلة سائرة بعد مرورها بالأبلة إلى خرسان، حتى تبلغ بلخ، ومرو، وتعبر نهر جيحون، وتبلغ نهاية سفرها في مدينة سمرقند.

كان الوجوم يبدو على وجهي، وكلما حاول مسعود الاقتراب مني للتسرِّية عني صَّدَّدتهُ، وأملت وجهي عنه، فيعرف من تلك الحركة أنَّي لا أحبّ أن يواسيني أحد في ما فقدته. من زعامة وأرض، ونفوذ في أرض أجدادي وأهلي، والذي فقدته كثير وكثير، والله يعلم بحالي. فقد تحوّلت من سيد ابن سيد في قومي. إلى عابر سبيل في أرض الله الواسعة، لا أعرف مصيري ولا مستقري. أعانني الله تعالى على بلائي. وأعانني على تقديسه وشكره، والتهوين، عما فقدته من متاع الدنيا، وما أصابني من تقلبات الأحوال.

وقت صلاة المغرب لمحني مسعود أبكي بدموع غزيرة؛ وأنا أدعو الله السَّداد؛ وأطلب منه اللطف بنا، وتذليل صعوبات غربتنا. وقد أدمت دموعي قلبه، أقول هذا، وأنا واثق مما أقول. أنصرف عني مسعود ليهيىء لي فرصة لمناجاة ربي. ورأيت أهل الخان بطرف عيني يستعدون لتقديم العشاء لمسافري قافلتنا، وكانت توجد في الخان قافلة صغيرة سبقتنا بليلة واحدة. قدمت من بلوجستان، قاصدة بلاد الشام. وقد جهّزوا العشاء للجميع على مائدة مستطيلة في أوعية نحاسية مُلئت بالحساء الساخن مع قطع من اللحم المسلوق وثريد الخبز. ولمن لا يرغب بهذا الطعام، فقد جهزوا حساءً آخر من حبّ اليقطين المسلوق مع لحم الدجاج المسفود على نار التنور، وهذا ما كنتُ أرغب فيه. وقد همس مسعود بأذن مولى مطبخ الخان بالطعام الذي أرغبه، وكان الرجل أذرياً لا يفقه إلا كلمات قليلة من العربية، كما أنه كان يعاني من ثقل في سمعه، وقد تهدَّل كرشه، أمامه؛ وهو الشكل العادي لهيئة من يقوم بإعداد الطعام في الخانات على طول الطريق؛ لما تتطلبه مهنتهم، من تذوق دائم للطعام، وولع بإعداد أنواع الحلوى، والأكلات السمينة، التي يتناولونها، يومياً، فطعامهم جزء من أجرتهم من صاحب الخان.

وقد أكدت على مسعود بضرورة شراء ما نحتاجه من دقيق الحنطة، والشعير والقديد، ففي ضواحي”الأبلة” الأسعار أقل بكثير من أسعارها في المدينة، بما سلمته إيّاه من دراهم فضية ودنانير ذهبية بيزنطية، أما الدنانير الذهبية المكيّة، التي سُكّت مؤخراً، فهي شحيحة، بسبب نذر الفتنة، التي لا تزال مستمرة، التي وقعت، وقُتل خلالها سيدنا عثمان، فمنع والي دمشق سكّ الدنانير المكيّة، وسكّ بدلها دنانير رفع عنها اسم الخليفة الراشدي الرابع، وانحصر التعامل بها بين جزيرة الفرنجة في البحر العميق، وبيزنطة، والتجار الرومان.

وما إن أكملت صلاتي، حتى شاهدت مسعودا قادماً باتجاهي، فأفرغت له مكاناً على طاولة الطعام، وحالما رأى طاهي الخان جلوسنا في المكان، الذي أعدَّ لتناول الطعام، فهرع صوبنا، حاملاً طنجرة ينثال منها البخار، وقدم لنا طعامنا “حساء من حبة اليقطين” مع دجاجتين مسفودتين. ومعهما خبز رومي، مداف بزيت الزيتون، وميزته المهمة، أنه عمل من القمح النقي، ولم يضف إليه دقيق الذرة أو الشعير، فهو لين لا يتعب من يطعمه بصعوبة مضغه.

 حدثني مسعود عما اشتراه من غلة، وما وجده من أنسجة صوفية بغاية الجمال والدقة، لدرعيات يمكن ارتداؤها تحت الملابس. وطلبت منه بعد أن عاينت بعضها وأعجبني شكلها، وملمسها تحميلها على الركيبة، التي أعددناها لما نتاجر به في رحلتنا، لتغطية مصاريف الرحلة، وتوفير بعض احتياجاتنا الضرورية في مدينة “الأبلة” فهي مدينة غالية جداً، لا يسكنها إلا أصحاب إقطاعيات الأرض الكبار، وتجار الرقيق، وتجار التوابل، وحرير الصين. لم أنبس ببنت شفة. كان مسعود يعرف أنني لا أهتم كثيراً بالمال، وأن سبب انتقالنا إلى “الأبلة” سبب آخر غير التجارة “أنه النفي الذاتي، والرفض، لما هو موجود، ومفروض على الناس بشتى الذرائع والحجج، فالحرُّ ينفي نفسه من قوم لا يطيقهم ولا يطيقونه”. ولكنه كان مؤمناً بأن الخادم المخلص عليه أن يحافظ على أموال سيده، ويصونها، ويعمل كل ما من شأنه أن يحفظه في غيابه وحضوره. ويفكر له في بعض الأحيان بما يجب عليه فعله

استيقظنا مرعوبين بعد منتصف الليل على صراخ شديد وسط الخان، وعرفنا من أحد الذين هرعوا لمعرفة السبب “أن أفعى لدغت أحد المسافرين” عندما كان نائماً، ويبدو أنه كان نائماً قرب مخبأ لها يضمُّ أحناشها. أسرع إليه حلاق الخان ليفصد السّمَّ مع الدم. وخفَّ الألم عنه بعد قليل، وانخفض صراخه، وتحول إلى ولولة خفيضة. وطمأننا صاحب الخان، وهو يحمل في كفيه عشباً، وأخذ يردد على أسماعنا، بضعة كلمات مطمئنة، وأخبرنا أنه سيضع نثار عشبة البطنج، التي يحملها في كفيه في زوايا الخان، وأحافيره، لطرد الأفاعي. وأنّ ما حدث، فهو أول حادث من هذا النوع يحدث في خانه منذ سنوات.

وأكد قائلاً “ربما جاءت الأفعى في ملابس الرجل أو متاعه من خارج الخان من الصحراء التي قدم منها”.

فعاد مسعود للنوم وبقيت مستيقظاً. فأنا من الذين إذا استيقظوا أثناء نومهم جافاهم النوم، ولن يعودوا إليه البتة، حتى الليلة التالية. وقلت في نفسي ساخراً “هذه من صفات الملوك والأمراء” وابتسمت، ويبدو أنني من نسل (الفرع الفقير من هؤلاء).

الأخماس

3 شعبان 35 هجرية

لم يكن لي في طفولتي من صديق في “الأخماس″ إلا عدداً قليلاً من أولاد الصحابة، ومن جاء مع قبيلتي، ووالدي يرحمه الله عند دخول أرض السواد، وتخليصها من حكم الفرس. ومن صداقاتي القديمة، صداقتي مع أبي عبدالله سر أبيه وموضع محبة ذويه. وكنت أزوره بين الحين والآخر، حين يخرج في شهر شعبان إلى تخوم “يثرب” مع أترابه، وآل بيته للتعبّد والتهجّد استقبالاً لشهر رمضان بالطاعات، والتوسل إلى الله تعالى واستغفاره. وكان يقصد خيمته في ذلك العراء على بعد فرسخين شمال الأبلة.

ومن ذكرياتي عنه أنه كتب لوالي الشام معاوية بن أبي سفيان يلومه على ما بلغ أهل مدينة الرسول من فحش وسوء خلق أبنه يزيد. وكنا وقتها كلنا لا نحشر أنوفنا في السياسة، لكنه أبى إلا أن يكتب له على أمل إصلاح ولد الوالي. ووصل كتابه إلى معاوية، وهو بين جمع من حاشيته. فأنكر بعضهم جرأة أبي عبد الله عليه في الخطاب، وأشاروا عليه أن يكتب له كتاباً له يصغر إليه نفسه، فقال معاوية لهم “وما عسيت أن أعيبه؟ والله ما أرى فيه للعيب موضعاً”. ولم يكتب إليه، وطلب من ابنه إن يكف عمّا فيه من لهو وسفه. فكبر بعيوننا جميعاً، لأنه لا يقبل في دين الله منقصة، خصوصاً إذا جاءت في من في يده أمور رعية من رعايا المسلمين.

ومن جلسة طويلة شملها بعنايته، ولطفه وجوده علينا. كان يجلس بين جمع من أهله، وأصحابه، كالشمس المضيئة، ومن حوله إخوته كالأقمار المنيرة. ويليهم في الجلسة أبناء إخوته، وأبناء عمومته وأصحابه. قالوا فيما كان يجري في تلك الأيام من خروج على خليفة المسلمين. فهز رأسه أبوعبدالله، وقال مبتسماً. وما أجمل ابتسامته، فإنها تسلب جماع الروح، وتجعل محدثه أسيره لا يلتفت يميناً ولا يسارا.

قال “يا سليمان أن الأمر قديم، وليس جديداً. أتدري يا سليمان، انه بدأ الموضوع منذ تنافس (هاشم وأمية) على الزعامة في مكة، ففاز بها هاشم قبل أن يولد معاوية؛ فخرج أمية ناقماً إلى الشام، وبقي هاشم منفرداً بزعامة بني عبد مناف، فكان هذا أول انقسام بين الأمويين والهاشميين؛ هؤلاء يعتصمون بالشام؛ وهؤلاء يعتصمون بالحجاز!”.

فقلت له: الإسلام جاء، وجاء بخلق جديد، وروح أخوة تمنع الفتنة.

ـــ ذلك واقع يا سليمان لا محيص عنه سنبقى يا سليمان أعراباً تفرقنا بداوتنا، وعاداتنا وعصبياتنا، ولن نغادرها أبداً، في هذا الزمان، والذي يليه إلا من رحم ربي، ومن آمن واتقى، حتى يرث الله تعالى الأرض.

يا سليمان فاز من فاز وخسر من خسر، هي الدنيا، فيها من اعتزل زخرفها، وفيها من اشترى وباع. فلا تغرنّك الأيام التي تعيشها، مهما ازدانت وكملت، فهي إلى نقصان وأفول.

وما أن التقي أبا عبدالله في مجلس أو في طرقه من طرق يثرب عندما كنا صبياناً لم تخط شواربنا بعد حتى يسحرني، بخطابه ورجاحة فكره، ودماثة خلقه؛ ولم يكن هذا وحده ما يسحر به رفاقه، بل ما يحيط به من رؤية وانبهار عجيب أم أرَ مثيلاً له في كل أولاد الصحابة من الأنصار والمهاجرين.

كنت أكبر منه بسنتين أو ثلاث سنوات، ولكن أين أنا المسكين من ذلك القمر المنير؛ المهذب بالفصاحة والعلم، والورع الصادق، حتى أني كنت أقول له مازحاً “يا شيخنا” فيبتسم، ولم أرَ في حياتي أجمل من ابتسامته، ولا من عمق الفرح، الذي تشيعه في من يراها على شفتيه.

ولا زلت إلى اليوم أتذكر حسن بيانه في وداع الشيخ أبي ذر الغفاري، الذي نفاه معاوية والي الشام إلى المدينة، ومنها نفاه الخليفة الراشدي الثالث، إلى الرملة بفلسطين في واد غير ذي زرع، لأنه كان لا يقبل غير قول الحق، مهما بلغ شأن من يواجهه، فلم يطق أهل المدينة من الأنصار، والمهاجرين حدته في مواجهة كل من يقع في معصية أو شبهة معصية.

وكان الزمن وقتها، زمن غنائم ومناصب وجرايات وأموال تغدق؛ فقد كان الغفاري من عصر آخر غير عصر يثرب، الذي عرفه مع بداية الدعوة الإسلامية؛ وهذا موضوع يطول شرحه في هذا “البرجمان” وقد اُعرّج عليه يوماً حين استقر بالأبلة، مدينة الفكر والفصاحة، والشعر، فأدوّنه بما يفيد من يأتي بعدنا من أبناء وأحفاد. فقد سمعت أبا عبدالله يودّع الشيخ الغفاري الماضي إلى تخوم المنفى ببيان لا ينسى، قال له “يا عمّاه أن الله قادر أن يغير ما قد ترى، والله كل يوم في شأن؛ وقد منعك القوم دنياهم، ومنعتهم دينك؛ وما أغناك عمّا منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم؛ فأسأل الله الصبر والنصر، واستعذ به من الجشع والجزع، فإن الصبر من الدين والكرم، وأن الجشع لا يقدم رزقاً والجزع لا يؤخر آجلاً”.

أي بيان هذا، وأي فهم للإيمان، لم نكن نعرفه نحن، الذين كنا بعمره من أبناء الصحابة؟ والله ليكثر عليّ حزني، لمفارقة صحبتك، وبيان صفاتك، والنزول من علمك، منزل الفاهمين، ولكن هي الأقدار… شاءت أن أكره ما يفعله أهلي، وأخاف أن يعوزني الصبر، فيضيق صدري، فأقع في ما يكرهه الله تعالى، ورسوله، وتكرهه النفوس الكريمة، فقتال الأهل والأصحاب من أجل المنصب أو الجاه، وهي عوارض الحياة الزائلة، وليس من شيمة أبي ولا شيمتي ان أكون كما يريدون.

أنا شبل أب ترك الدنيا وراء ظهره، لكي يري أعداءه أنه زاهد بدنياهم ودناءاتها. ويوم أخبرتك يا أبا عبدالله تركي “الأخماس″ والسير إلى “الأبلة” مددت كفك، وقبضت على أصابعي، وقلت “ومن ينصرني أن ذهبت يا سليمان؟” فدهشت، فلست في معركة، وأنت بين أهلك وأصحابك، وعرفت سر دهشتي، فابتسمت ابتسامتك الساحرة “كل الذي تراه زائل يا سليمان، وسأكون وحدي!” ألم يقل عيسى على رسولنا وعليه السلام “ستنكرونني جميعاً، وأولهم أنت يا يهوذا”، وظننته يمزح أو يرمي لي بحكمة الحياة، وأسرار دورات الزمن، واختلاف الأوقات والمصائر، وأظنه كان يحكي عن نفسه في زمن تسود فيه لغة الدينار والدرهم.

الأبلة

3 ذو القعدة 38 هجرية

لوحة ليلى نورس
لوحة ليلى نورس

من وقائع رحلتنا الميمونة، أننا استيقظنا قبل الفجر بقليل لتأدية صلاة الصبح، فاليوم أخر يوم سفر لنا، لندخل “الأبلة” وبها نستقر حتى يأذن الله تعالى. كان الفجر مغبشاً بالقليل من الضباب بمستوى مراوح النخيل، وأعلى طرق البساتين النيسمية بين أشجار الرمان وداليات العنب.

وما إن أكمل المسافرون صلاة الفجر، حتى هرعوا إلى ركائبهم يشدون متاعهم، ويتفقدون ما تركوه ليلة أمس تحت حراسة عسس الخان. وما أن صليت حتى غيرت ثوبي بآخر، وعمامتي بأخرى من قماش قطني. وعند مدخل المدينة واجهنا موقفاً لن أنساه طيلة حياتي. كان أحد تجار الرقيق يصطحب معه جاريات صغيرات السن، هلعات، ويبدو أنهن فارسيات من جبال بلوجستان تم سبيهن. وقد بدت على وجوههن آثار نعمة سابقة، ورقة لا مثيل لها إلا لدى بنات الذوات. ويبدو لي أنهن قد تم سبيهن من بيوت مرموقة من بيوت الحكم الفارسي، الذي هزمته جيوش المجاهدين. الذين فتحوا خرسان وبلوجستان، وتوغلوا عميقاً في أرض البلوش والمجوس.

كان التاجر يعرضهن للبيع على القوافل القادمة من الشرق والمتجهة إلى الأبلة. ويدلل على رقيقه بأرق العبارات والأوصاف. كانت أصغرهن تبكي بكاء المثكولة؛ ودموعها الغزيرة تبلل وجهها، وأمسكت بذراعي حالما شاهدتني، وأمطرته بالقبلات، ورجتني أن أخلصها، وأخواتها الثلاث من هذا السَّبي. كانت تكلمني باللسان الأعجمي، وأنا أفهم الكثير من هذا اللسان. فرق قلبي لها، واشتريتها وأخواتها السَّبيات بثلاثين ديناراً ذهبياً من التاجر، وذهبت ومسعود والتاجر، والسَّبيات إلى مسجل الرقيق، القريب من الخان، وسجلنا عقد الشراء، واستلمت رقوقهن السابقة. وأطلقتهن لوجه الله، وسمعت بعض المسافرين يسخرون مني ومن وطيبة قلبي، وإنفاقي دنانيري بلا جدوى، ويلومونني، لأنني فرطت بأربع فتيات فائقات الجمال والعذوبة.

وقد بدت الفتيات مفتونات بكرمي ورجولتي ونخوتي، وكن طيلة انتظار كتابة صك عتقهن من وضعهن كجاريات مملوكات للغير يرمقنني بعيون ممتنة. وسمعت أحد الحاذقين يقول، ممن حضروا البيع والشراء والتسجيل “لو كان هذا المخبول ذا خبرة لاحتفظ بهن حتى يصل الأبلة، وهناك سيبيعهن بأضعاف ثمن الشراء، فالجواري الفارسيات مفضلات على الروميات والشركسيات، والكركيات، لعذوبة معاشرتهن، وانقيادهن لمن يملكهن وإخلاصهن لهم”.

وصادف أن قدمت قافلة ذاهبة إلى خرسان، فأوصيت بهن خيراً، وأعطيت كل واحدة منهن صك عتقها، ومنحت كبيرتهن صرة فيها دراهم ودنانير لنفقتهن في الطريق، حتى يبلغن مدينتهن وأهلهن. وأنقدت حملتدار القافلة الفارسي أجرة مضاعفة عن تأجير ركائب له كانت خاوية، لتقل الأخوات الأربع، لتذليل صعوبات سفرهن.

دمعت عينا مسعود، وهو ينظر هذه الرأفة والشهامة بعملي هذا. وما إنْ اطمأننت عليهن، وغادرت قافلتهن، حتى رأينا الصغيرة، وهي تبعث تحياتها بكفها الصغيرة البيضاء من فوق هودجها، وتؤشر إلى السماء، كأنها تقول لي أنَّ عملك حفظه الله لك، وأنَّه لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

دخلنا سوق مدينة الأبلة قبل صلاة الظهر بساعة، وياله من سوق عظيم، لم نرَ مثله في عموم المدن التي مررنا بها من قبل، امتد السوق متعامداً مع نهر عظيم، واسع، وله ضفتان مرتفعتان. يهبط إليه أصحاب الزوارق، والجبائش بسلالم من الحجر، وأخرى من الخشب.

نهر رست فيه الأبوام والقوارب، وجباشات البردي، محملة بالغلال، والأثمار وخضروات الشمال جاءت من مدن ومداشر، ودساكر تقع على نهري دجلة والفرات.

وما إن تركنا القافلة، حتى قصدنا حمَّام المدينة بعد أن وضعنا متاعنا في خان حفظ البضائع، وأخذنا صكاً ممهوراً بما أودعنا، وتخلصنا في الحمَّام الساخن من وعثاء السفر. وما إن خرجنا من الحمَّام، وجلسنا في استراحة قصيرة بانتظار حلول وقت صلاة الظهر في غرفة المجلس في النزل، الذي أكتريناه من صاحب عقارات للكراء، حتى علت الأصوات.

فخرجنا من النزل نستطلع الأمر، فشاهدنا على رأس الطريق ثلة من الفرسان يحيط بهم جمع من أهل المدينة، وصبيانها، والفرسان ارتدوا ملابس غريبة ملونة، واعتمروا عمامات ملونة هندية، وأمسكوا سيوفاً لا هي بالكرجية ولا الفارسية ولا اليمانية، فهي طويلة تصل إلى الأرض، محنية على شكل نصف دائرة، مغمدة في أغمادها.

وقد كان على رأس هذه الثلة من الفرسان فارس طويل القامة متوشَّحاً بعمامة ضخمة زرقاء اللون، متوَّجة بكركوشة صفراء، متناثرة على نصف قطر العمامة.

وعرفنا من الناس الذين تجمعوا حولهم. إن هؤلاء يقومون بدور الوسطاء بين التجار، وعصابات الصعاليك، التي تنتشر في بادية الجزيرة، وتفرض إتاوات على القوافل المارة، وهؤلاء ينالون ما يشبه الحسنة من التجار، لتوسطهم بين الصعاليك والتجار؛ لأجل تأمين سفر القوافل في كل مراحلها عبر بادية الجزيرة.

رقص هؤلاء الفرسان أمام الجميع، وعزفوا بنايات من قصب البردي، فيها العديد من الثقوب الجانبية، المزفتة بالقير. وكان أمامهم رجل قصير القامة طويل الذقن، هو أميرهم بلا شك ينفث من فمه النفوط، فتخرج من فمه كرة نار هائلة تدهش الحاضرين.

وكان حاديهم يروي قصة “عنترة وعبلة” ويردد أشعار عنترة، حسب وقع أنغام الناي، فأدهشنا برقة سرده، وخفة رقصه، وتناغم الصفير الحزين مع الكلام المقفى، فلم نملك إلا أن نقول لهم بين فترة وأخرى: تبارك الله… تبارك الله. ونرمي لهم ببعض الدراهم، فيهزون رؤوسهم شاكرين، ويزدادون نشاطاً ومرحاً.

وعرفنا بعد ذلك من أهل الأبلة، أن هؤلاء من “أهل الكدية” يعيشون في هذه المدينة الكبيرة ويرتزقون بهكذا طريقة.

واستبشرنا خيراً بسكننا الجديد، فقد تعلمت من أبي يرحمه الله تعالى، أن وقوف “أهل الكدية” بباب سكنك الجديد، هي بشارة خير: بسكن مريح ورزق وفير وسلامة وأمن وصحة وسعادة قادمة لك بإذن الله تعالى.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.