الرواية العربية وتقاليدها الفنية

في كتاب أكسفورد 2017
الأحد 2023/01/01
​لوحة: أحمد كليج ​

لكلمة التقاليد دلالة المحاكاة والاحتذاء والسير على منوال السابقين والمواصلة وعدم الانقطاع، جرياً على العادة توكيلاً وتفويضاً وملازمةً، والبغية التمسك بالتليد والمحافظة على الموروث من دون تمرد أو ابتكار. وعلى وفق هذا التصور عُرّبت مفردة الكلاسيكية بالتقليدية أي سيراً على آثار الأدبين اليوناني والروماني.

ولا توظيف لمفهوم التقليد والتقاليد في النقد إلا بوجود جذر أصل في الأدب يتم السير على وفقه. وإذا عرفنا أن هذا الجذر الأدبي هو السرد العربي القديم أدركنا أنّ التقليد يعني متابعة السابق والبناء عليه. ولم يعن الناقد العربي القديم بوضع قواعد نظرية للسرد وإنما وجه عنايته نحو وضع المباني الإجرائية للشعر، معاملاً السرد معاملة الشعر من دون توضيح مباني السرد الفنية ومتونه النصية. وصار السرد كأنه تابع للشعر أو في درجة تالية له، مع أنَّ له تقاليده الفنية وأصوله الكتابية بدليل وجود أجناس بقوالب خاصة ومعلومة على مدى عصور من التدوين الأدبي التي أقرَّ بها تاريخ الأدب العربي. ووظفت في عصر النهضة الأدبية فنون هي بمثابة أجناس كالمقامة والرسالة والحكاية والمنامة وغيرها. ومهما تكن درجة التقاطع بين حال نقدنا وتقاليده الموروثة وسردنا ومواضعاته المعتادة؛ فإنّ هذا السرد يظل أصيلاً بقوانين توارثها الكتّاب العرب.

وهذه القوانين هي التقاليد التي قصدها كتاب أكسفورد بعنوان “تقاليد العرب الروائية 2017” (Arab Novelistic  Traditions, Wail S. Hassan, Oxford university press. 2017,) ، فوصل القديم بالحديث، لا افتراضا وإنما تأسيساً على قاعدة موجودة لكنها غائبة. ولا شك أنّ هناك باحثين كثيرين حاولوا كشف النقاب عن هذه التقاليد، بيد أن الأمر أوسع من أن تغطي مساحته جهودا بحثية فردية، لذا كان كتاب أكسفورد جهداً جماعياً سبر تاريخ الرواية وآفاق كتابتها على المستويين النظري والاجرائي.

والكتاب ليس ببليوغرافيا ولا هو موسوعة؛ وإنما هو فرشة نقدية لتاريخ الرواية العربية الممتدة بامتداد العرب في أرجاء المعمورة. واستغرق العمل بهذا الكتاب أكثر من خمسة أعوام من 2012 إلى 2017.

إن تناول الرواية العربية بدراسات غير عربية كثيرة ـ أكاديمية وغير أكاديمية وبلغات مختلفة أهمها الإنجليزية ـ عائد إلى المكانة التي احتلتها الرواية بين أجناس الأدب العربي الأخرى متفوقة على الشعر والدراما والمقالة والقصة القصيرة التي أخذت تحتل مكانة مهمة أيضا وقد تنافس الرواية عليها مستقبلاً.

وليس غريباً أنْ تحظى الرواية العربية باهتمام غربي على مستوى مؤسساته الأكاديمية الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، نظرا لامتداد هذه الرواية في العالم، متوزعة بتوزع كتّاب الرواية بين القارات الست، فلقد جمعت الرواية العربية إلى جانب كتابتها باللغة العربية ما أنتج منها بلغات البلدان التي استوطنها العرب المهاجرون، مما أضفى مزيداً من الغنى والتنوع على المنجز الروائي العربي.

لوحة: أحمد كليج
لوحة: أحمد كليج

ولعل كتاب “تقاليد العرب الروائية” أهم الإصدارات الغربية حول هذا المنجز الكبير والغني، تكفلت أقدم جامعة في العالم وهي جامعة أكسفورد بطبعه ونشره، والكتاب بثلاثة أجزاء هي على التوالي “الاستمراريات” (Continuities)  و”التطورات”(Developments) و”الشتات” (Diasporas)، وبتحرير البروفيسور وائل حسن أستاذ الأدب العالمي والمقارن في جامعة إلينويز، وأقرَّ في مقدمة الكتاب بالفضل إلى الناقد الأميركي روجر ألن لدوره في بلورة فكرة الكتاب ووصفه بـ”سعة المعرفة والحكمة” كان أول من نادى بضرورة وضع ببليوغرافيا تاريخية جديدة في الرواية العربية. وإلى جانب روجر ألن نقاد آخرون اعترف لهم وائل حسن بالفضل لدورهم المهم سواء بالمشورة أو بتعليقاتهم التي وصفها بالثاقبة وهم إدوار كوتنهو وستيفان هليمر وجون توفيق كرم ولوسينو توستة.

ومعروف أن روجر ألن من أهم الباحثين الغربيين المهتمين بالرواية العربية والمشتغلين عليها بحثا ودراسة منذ ثمانينات القرن الماضي، وهو يحمل دكتوراه في الفكر والأخلاق والأدب المقارن من جامعة بنسلفانيا وشغل منصب رئيس منظمة دراسات الشرق الأوسط في أميركا الشمالية وله كتب مهمة منها كتابه القيم “الرواية العربية مقدمة تاريخية ونقدية” بطبعتين الأولى كانت في العام 1982 وتبعتها طبعة موسعة في العام 1995 وقد ترجمت طبعته الثانية إلى اللغة العربية عام 1997 وكان بمثابة الدليل الموجه لمسارات الكتاب موضع الرصد وتوجهاته في أجزائه الثلاثة الكبيرة. ومن كتبه أيضا “تراث الأدب العربي” عام 1998، فضلا عن ترجمته لأكثر من عشرين رواية عربية.

وقد تقفى الدكتور وائل حسن أثر كتاب روجر ألن “الرواية العربية مقدمة تاريخية ونقدية” في دراسة الرواية العربية مهتما بتتبع التقاليد من ناحية سبر تاريخ الرواية المصرية التي استحوذت على التمثيل النظري والإجرائي أكثر من نظيراتها العربيات الأخريات، وتحديدا في الفصل الثاني الذي عنوانه “التطورات المبكرة لتقاليد الرواية العربية” وأكد وجود انقسام حول نشأة الرواية العربية بين افتقارها إلى تقاليد ثابتة وراسخة وبين تمتعها بتقاليد عظيمة تقتفي أثر أنواع سردية كانت موجودة في أدب العرب قديما ولها تقاليدها.

واهتم وائل حسن أيضا بالتقاليد بدءا من عنوان الكتاب مرورا بأجزائه الثلاثة، وقيمة الكتاب بصفحاته التي تجاوزت السبعمائة صفحة تكمن في سعة الخارطة التي أراد الكتاب الإحاطة من خلالها بالمنجز الروائي العربي داخل العالم العربي وخارجه، وهو ما احتاج إلى صبر وتفانٍ بذله الباحثون المساهمون في الكتاب وهم سبعة وثلاثون باحثا من ست قارات، اشتركوا في تحليل هذا المنجز، ممارسين أحكام القيمة على وفق مرجعيات مختلفة، ساعين إلى وضع دراسة نقدية استقصائية واسعة تعكس ما في جنس الرواية من تنوع وغنى في التقاليد التي عرفها العرب على طول تاريخهم الأدبي.

إن العمل الجماعي هو خير طريق يوصل إلى الغاية المعرفية التي دعائمها الإحاطة تمثيلا وإحصاء ومسحا والشمول كمّاً ونوعاً. أما مسألة التنبؤ بأن للرواية عصرا لن تنافسها عليه القصة القصيرة فمجرد تخمين قد لا يصدق مستقبلا نظرا لما يشهده هذا الجنس القصير من اهتمام كبير أولا، وما يمتلكه في ذاته من ممكنات داخلية تؤهله للسيادة والهيمنة على الأدب القصصي لاحقا. وليس النتاج الروائي العربي وحده الذي يحتاج إلى عمل جماعي بسبب تشعبه وتنوعه اللافت للنظر؛ بل النتاج النقدي الدائر حول الرواية هو الآخر في حاجة إلى عمل جماعي، نظرا لاتسامه بالتضخم والكثافة حتى ما عاد بإمكان باحث واحد أن يقوم بمهمة الإحاطة بالمنجز النقدي العربي بحديثه ومعاصره.

اعتنى الكتاب ــ موضوع الرصد ــ بالرواية منحازاً إلى الرواية المصرية. وكذلك ركز على نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وعبدالرحمن منيف. أما خارطة الباحثين المساهمين في هذا العمل المهم فتنوعت لكنها متجانسة وإن تفاوتت ألقابهم العلمية وإمكانياتهم البحثية وإنجازاتهم الأكاديمية وأهمية المؤسسات التي ينتمون إليها. فأغلبهم ينتمي إلى جامعات غربية وتحديدا أميركية والقليل كانوا أكاديميين عربا من مصر والإمارات وفلسطين ولبنان وقطر والكويت.

وقد تمحورت الفصول السبعة في الجزء الأول من الكتاب، والمعنون بـ”الاستمراريات” (continuities) حول العلاقة بين الرواية العربية ونظيرتها الأوروبية على وفق مقياس أساس لا يعيد النظر؛ بل يساير النظر المعتاد في أن ظهور الرواية العربية كان تعبيراً عن الانقطاع بين جذور “السرد القديم عند العرب” وحداثة “السرد الفني في الغرب” مما كانت الدراسات الاستشراقية والتابعة للاستشراق قد أكدته في القرن العشرين.

بينما عالج الجزء الثاني من الكتاب والمعنون بـ”التطورات” (developments) وبفصوله الاثنين والعشرين مسألة ما بعد الكولونيالية من ناحية القضايا النظرية والموضوعية التي تتصل بالفكرة نفسها التي كان الجزء الأول قد ناقشها مكرسا لكل بلد عربي فصلا يتعلق بتطور الرواية فيه.

وبالرغم من أن فصول هذا الجزء ذات صلة وثيقة بتاريخ الأدب؛ فإنها حاولت الإجابة عن أسئلة ثقافية من قبيل: ما التاريخ الاستعماري للرواية في كل بلد عربي؟ وما العلاقات الكامنة بين الرواية وفكرة الأمة العربية؟ هل هي علاقات معقدة أو هي عامة إقليمية ووطنية أو شبه وطنية؟ وما الصلات بين الروائيين العرب والأميركان والفرنسيين؟ وما درجة الصلة بين الجندر والجنس؟ وما أثر هوية البلد في القواعد التي تحكم العمل الروائي؟ وهل هناك التزام بين جنس الرواية وأجناس الأدب الأخرى في كل بلد؟

أما الفصول الثلاثة عشر في الجزء الثالث المعنون بـ”الشتات” (diasporas) فإنها درست تطور رواية العرب في المهاجر والمنافي كظاهرة ثقافية تم تناولها من ناحية تاريخية أدبية على غرار الجزء الثاني مما له صلة بالعلاقات الموجودة بين الرواية العربية أو العربفونية ورواية الشتات الفرنكوفونية، والطرق التي بها استعادت رواية الشتات التقاليد الأدبية العربية وأخذت بتقاليد البلدان الأجنبية التي كتبت فيها وطبيعة الموضوعات الثقافية التي تناولتها مما له علاقة بالهوية والآخر والاستشراق والجندر والدين والسياسة والتهميش وغيرها.

وبهذا تكون أجزاء كتاب أكسفورد الثلاثة مترابطة تاريخيا وجغرافيا وبشكل عاضد فيه الجزء الجزء الذي بعده، فالاستمراريات أوصلتنا إلى التطورات وهذه بدورها وضعتنا في صورة الصيغ المختلفة للأدب العربي وكيف تشكلت الرواية لتصير جنسا أدبيا في البلدان العربية ثم غدت في البلدان الأخرى جنسا مهاجرا.

ومما ساهم في تعضيد هذا الترابط بين الأجزاء الثلاثة الضخمة للكتاب وجعل مقاصد الكتاب واضحة هو هذا التنظيم الجيد والكبير في دراسة تقاليد السردية العربية بشكل قارب ما بين قوة الانتماء والتعدد اللغوي والمسألة الجيوبولتيكية الخاصة بالدولة أو الأمة بوصفها الوحدة الأساسية في رسم خارطة الأدب العربي بشكل نموذجي يتجاوز الفردية الضيقة والفكرة القطرية والإطار المحلي ويحاول كتابة تاريخ جماعي للرواية العربية بدلا من كتابة تاريخ أدبي منفرد لها.

ولأن الكتاب صدر باللغة الإنجليزية، خصص وائل حسن لموضوعة الترجمة مكاناً خاصاً في مقدمته، مبينا أن كتابة أسماء الكتّاب العرب والعنوانات العربية بالإنجليزية كانت بإشراف المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط، كما رتبت أسماء الروائيين بحسب سنة الولادة باستثناء الذين لم تعرف ولاداتهم. وتضمنت المقدمة أيضا سيرا للباحثين المشاركين في الكتاب(وهم من جنسيات مختلفة عربية وغير عربية. نذكر منهم روجر ألن ورحاب الكيلاني وهيثم بحوره وعبداللطيف حميدة وجولي بيالاك وكرستينا سيفانتس وهبة العطار وكنزالو بريلا ولورا ريك وإليسا سالم وسماح سلام وأبراهيم طه وأولبنسون أنبجك تيجاني وكورنيه لوكتس وأكسفر لتفان وبربارا بكلسكا وياسمين محمد ومحمد مصطفى وجفري ناش.. وغيرهم).

والذي يهمنا في المقدمة هو ما طرحه د. وائل حسن من صورة تقريبية للمنهجية البحثية التي تم الاعتماد عليها في معالجة مسائل النشأة والتطور الخاصة بالرواية العربية. وهي منهجية ترتكن إلى مدرسة النقد المقارَن الأميركية، من خلال مسألتين: الأولى هيمنة المنظور المقارن كأولوية منهجية والثانية الارتكان إلى أنموذج بحثي والبناء عليه وأعني به كتاب روجر ألن “الرواية العربية مقدمة تاريخية ونقدية” واتخاذ الرواية المصرية عينة بحثية عليها يعتمد في تحصيل النتائج النهائية.

وعلى وفق هاتين المسألتين كان التخصص في الأدب المقارن والدراسات النقدية المقارنة هو الغالب على الباحثين المساهمين في الكتاب على اختلاف مستوياتهم العلمية ومنجزاتهم الأكاديمية.

ولا خلاف أنّ المنهجية المقارنة تنماز بالتملص من التاريخية والتمتع بالمرونة في التعامل البحثي مع المادة الأدبية، لكن الذي نراه أن معالجة موضوع بهذه السعة وذاك الشمول مثل الرواية العربية كان يقتضي رؤية مقاربة تتضمن في داخلها التوجه المنهجي المقارن بشرط ألاّ تقتصر عليه، بل تتعداه إلى منهجيات أخرى أكثر رحابة في استيعاب الظاهرة وتحليل شائكيتها، متخلصة بهذا التنوع المنهجي من التنميط في معالجة قضايا تبدو في الأصل بمثابة ثوابت مفروغ منها عن نشأة الرواية وتطورها التاريخي والفني، مما كان باحثون سابقون غربيون وعرب قد درسوها. هذا أولا وثانيا التوسع في مجال البحث والدراسة بدلا من الاقتصار على مقارنة الرواية العربية والمصرية تحديدا بنظيرتها الغربية.

والدراسة التي تعتمد المقاربة بديلًا معرفيًا عن المقارنة إنما تنتمي إلى الدراسات الثقافية، كونها تتجاوزُ دراسة أوجه التّشابه والاختلاف بين أدبين في لغتين وبيئتين مختلفتين تأثرا وتأثيرًا؛ إلى دراسةِ الظواهرِ الثّقافيةِ بلا تقوقعٍ والنظر اليها بلا تنميط، مع الانفتاح على الآخر تعيينًا وإعادة تشكيلٍ. والهدف إنتاج معرفة تَجمع بين التنسيق والنسقية، متلمسة المضمرَ والمعلنَ معًا، ورادمةً الفجواتِ الثقافية بين الآداب، ضمن فضاء عالمي هو بمثابةِ ملاذٍ ثقافيٍّ تتلاشى فيه الخصوصيات والتقوقعات، وتغيب فيه نخبويات التفوق وعقد التعالي، في ظلِّ منظورٍ ازدواجيٍّ يرى الآداب متكافئة، انطلاقا من مقولة المؤلِف الثقافي، واستيعابا لطروحات ما بعد الحداثة التي تركز على دراسة البنيات، باعتماد المواقتة أو التزامنية التي ستفضي رمزيا إلى الانفتاح الذي هو رهان من رهانات عالمية الأدب التي لا تنظر للآدابِ بإقليمية أو جزئية وإنما باستيعابية كونية، وما تصدر أدباء أميركا اللاتينية وأدباء من آسيا وأفريقيا المشهد العالمي الأخير في الرواية دليل على هذه الكونية بعد أن كان حكراً على أدباء أوروبا وأميركا الشمالية.

لقد تبنى بعض الباحثين المساهمين في الكتاب وجهة النظر هذه وبعضهم طوّر نظرته المقارنة لتكون أكثر انفتاحا، لكن السياق العام الذي يتجلى من دراسة تقاليد العرب الروائية يشير إلى أن دائرة البحث سارت في طريق تنميطي لم يتح المجال للتصريح بثقة وبرؤية غير مقارنة ولا ضمنية بالسبق للرواية العربية وكيف أنّ لها تقاليدها الذاتية التي منها استقى الآخر الغربي تقاليده السردية الكلاسيكية وبعضاً من تقاليده الحداثية. وهو ما لم نلمسه لا على مستوى عنوان الكتاب الذي كان بالإمكان توصيف التقاليد الروائية بأنها عربية وليست “تقاليد العرب الروائية” من خلال إضافة مقطع “IC” إلى كلمة “Arab” لتكون وصفا أدبيا وليس عرقياً. ولا على مستوى التقديم والختام للكتاب.

ولا غرو أن الرؤية المقاربة تنطلق من فهم انفتاحي ما بعد استعماري بينما تتقيد الرؤية المقارنة بوجهة نظر استعمارية في جوانب محددة جغرافية أو سياسية أو لغوية أو عرقية أو إثنية.

واعتماد المنظور المقارن ما بين نشأة الرواية داخل العالم العربي وفي المهاجر وبين نشأة الرواية الغربية في أوروبا وأميركا الشمالية تجعل النزعة الجيبولتيكية هي المهيمنة مع بقاء النزعة التاريخية واضحة في حسم السبق بين جنس أدبي مؤثر وآخر متأثر.

وأيا كانت موالاة الباحث المقارن للطرف المتأثر الذي هو أدنى وأضعف؛ فإن التوجه البحثي ظل دائرا في إطار كولونيالي فيه التفوق محسوم لصالح الطرف المؤثر الذي هو الآخر الأقوى والأرسخ.

لوحة: أحمد كليج
لوحة: أحمد كليج

وأدبنا العربي من أكثر الآداب العالمية غنى بالأجناس الأدبية بشعرها ونثرها، لكن الرؤية المقارنة لا تنصفه لأنها مبدئيا تقر بوجود أدب متفوق هو الأصل والجذر والمنشأ، ليكون هو الأدب التابع الذي يسير في ظل الأدب المتفوق، متهما بشكل أو بآخر بالتقليد شكلا ومضمونا أو الجمود كمّاً ونوعاً.

وعلى الرغم من رصانة الأدوات البحثية ما بعد الكولونيالية ونجاعة التوظيفات التحليلية والإحصائية التي تحلت بها كثير من الدراسات التي تضمنها هذا الكتاب، فإن الرؤية الاستشراقية سادت معلية من شأن آداب مركزية ومجحفة بحق آداب هي تابعة وهامشية مع أن الآداب المركزية ما كان لها أن تكون كذلك لولا أنها انبنت على الأساس الذي مهدت له بعض الآداب الهامشية بإرثها الأدبي كآداب الهنود والعرب والصينيين. وهو ما سنناقشه في المبحثين الآتيين متناولين دراستي وائل حسن الأولى التي هي مقدمة كتاب أكسفورد والثانية التي هي الفصل الأول من الجزء الأول من الكتاب نفسه.

تنميط التقاليد إحصاءً وتاريخاً وسياسةً

لا خلاف أن النظرة المقاربة في استمرارية السرد العربي بقديمه وحديثه ستجعل من الممكن وضع تصور دقيق للكيفية التي بها تجنَّس سردنا العربي الحديث في قالب الرواية، متوافقاً مع الرواية الغربية، فضلا عما احتفظ به من أجناس السرد العربي القديم كالمقامة والحكاية الشعبية والمنامات وغيرها وما أضافته إليه الروايات الغربية المترجمة إلى اللغة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من طرائق وتقانات.

ويشير وائل حسن إلى اتساع حدود الرواية العربية بين البلدان الناطقة وغير الناطقة بالعربية مثل دول الصحراء الأفريقية وكذلك الدول الأجنبية التي فيها كتّاب مهاجرون عرب كتبوا رواياتهم بلغات أجنبية كالإنجليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية والهولندية والكتالونية والإيطالية والسويدية وهو ما ضاعف أعداد الرواية العربية خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين وبحسب مستلزمات التطور والظروف الخاصة بكل بلد أجنبي.

ولا يخفى أن كتاب “الرواية العربية مقدمة تاريخية ونقدية” لروجر ألن ألقى الضوء على بلدان بعينها كمصر ولبنان وكتاب مشهورين مثل نجيب محفوظ وغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وموضوعات خاصة كالمرأة والحرب الأهلية اللبنانية ومسائل ما بعد الكولونيالية؛ بينما لم يتناول موضوعا حظي بأكبر اهتمام في الرواية العربية هو الحرب العربية – الإسرائيلية والقضية الفلسطينية بيد أن مهمة دراسة الرواية العربية بعد هذا التاريخ لم تعد سهلة بعد أن تضاعفت أعدادها وأصبحت صعبة دراستها بجهود فردية. وهو ما تلافاه كتاب أكسفورد ــ موضوع الرصد ــ من خلال عمل بحثي جماعي استطاع أن يلقي ضوءا خاصا قريبا على الرواية العربية التي لا يمكن إحصاء عددها حتى ببليوغرافيا حمدي السكوت الضخمة التي تضمنت أربعة آلاف وستمائة وأربعا وثمانين رواية طبعت بين الاعوام (1865 إلى 1995) أو ببليوغرافيا الناقد سمر روحي الفيصل التي تضمنت خمسة آلاف وسبعمائة عمل روائي عربي حتى عام 2008 أو ببليوغرافيا الباحث نزيه أبونضال التي حوت ألفا ومئة وثماني عشرة رواية لكتّاب عرب، وخمسمائة وتسعاً وعشرين رواية لكاتبات عربيات بين الأعوام (1985 ـ 2003) ومعلوم أن أعداد الروايات العربية في مطلع القرن الحادي والعشرين شهدت اتساعاً ملحوظاً وكبيراً.

وكان لكتاب أكسفورد أن يحقق أحد أهدافه وهو توفير دليل للباحثين يعطي تصوراً بيانياً للتطور الضخم الحاصل في التقاليد السردية في كتابة الرواية العربية لو أنه لم يقتصر في المجموع على بلد من البلدان العربية وشمل في التركيز على التقاليد النوع المحلي أو الشعبي منها وأعطاه الاهتمام بدلاً من تناسيه والعناية بالمقارنة مع تقاليد أخرى تخص ما أرساه المهاجرون العرب الأميركان الذين بدأوا بكتابة الرواية في نهاية القرن التاسع عشر ثم تبعهم المهاجرون في أوروبا وأستراليا وأميركا الجنوبية وآسيا وأفريقيا الذين كتبوا الرواية في القرن العشرين، فضلا عما دشّنه الروائيون غير العرب من تقاليد روائية متخذين من العربية لغة تمثيل أدبي.

وبالطبع منح هذا التنوع الرواية العربية غنى انعكس على طبيعة القواعد المؤسسة والضابطة للنصوص الروائية المكتوبة باللغة الأصلية العربية واللغات الأخرى كالفرنسية مثلا في بلدان مثل لبنان ومصر وتونس والجزائر والمغرب.

والنظر إلى هذا التنوع نظرة مقاربة سيعطي صورة دقيقة ومكتملة للمشهد الأدبي العربي، بدلا من النظر المقارن بين العربفونية كما يسميها د. وائل والفرنكوفونية ويماشي هذا النظر الصورة النمطية التي انتهت إليها أغلب الدراسات الكولونيالية التي طالما أكدت الانقطاع اللغوي بين فضائي المستعمِر والمستعمَر، غير أن أكثرها كان قد تجاهل الكتّاب غير العرب الذين يكتبون باللغة العربية والكتّاب العرب الذين يكتبون رواياتهم بلغات أخرى في بلدان المهجر، وهو ما تصدى له كتاب أكسفورد.

وما عاد صحيحا في الدراسات ما بعد الكولونيالية التناسي لأعمال روائيين عرب يكتبون بلغات أخرى، لا لأنها جزء من الأدب العربي حسب؛ بل لأنها تضيف تنوعاً على الرواية العربية أيضا. وبالنظرة المقاربة تتزحزح تقليدية الرؤية المقارنة التي غالبا ما كانت تقف عند الروايات المصرية وتعمم محصلاتها على العالم العربي. ولقد حاول كتاب أكسفورد فتح المجال لاكتشاف مزيد من الغنى والتنوع في الكتابة الروائية وبشكل عام.

ومعلوم أن الرواية هي أكثر الأجناس الأدبية التي لعبت دورا في تغيير الواقع من خلال تماسها الصميمي مع القضايا المعاصرة أو باستلهامها الذاكرة الوطنية كما هو الحال في الرواية التاريخية، أو بأثرها في توحيد الهويات في هوية واحدة.

وهو ما ركز عليه وائل حسن بشكل مختصر في المقدمة التي هي أقرب إلى المهاد النظري منها إلى مجرد التقديم، وفيها حاول وضع قاعدة للتقاليد العربية في الرواية بناءً على مفهوم الدولة القومية وبخمسة مستويات من التقاليد: المستوى الأول سماه “ما قبل القطري” وفيه يتجلى فعل الذاكرة والمناطقية الخاصة بكل بلد عربي، ثم المستوى الثاني “القطري” ويشمل كل قطر عربي وبلد مهجري ثم المستوى الثالث “ما فوق القطري” وينطبق على دول المغرب والخليج والشرق ذات التجمعات فوق الوطنية والأوسع من المناطقية، ثم المستوى الرابع “عموم العرب أو العروبي” التي تتعدى حدود الدين إلى تجمعات أكثر وطنية، والمستوى الخامس “الترجمي العابر للحدود” المتعلق بالأدب العربي كجزء من تصنيفات أكبر كالأدب الافريقي والشرق الاوسطي والغرب آسيوي وما بعد الكولونيالي والأدب العالمي(See: Arab Novelistic Traditions, P 6.).

وهذه المستويات الخمسة بحسب وائل حسن تطورت وتداخلت بشكل مرن مرسخة التقاليد التي تجانست مع التقاليد الأوروبية بما يلائم السياق العربي وانطلاقا من حقيقة أن الحدود ما بين الأقطار العربية مفتوحة وممكنة للتنظيم.

لوحة: أحمد كليج
لوحة: أحمد كليج

هذا النموذج السائد تجسد تاريخياً في مصر حتى 1960 مع أن نماذج الرواية العراقية والسورية والسعودية كانت حاضرة أيضا ما قبل هذا التاريخ بكثير تصل إلى العقد الأول والثاني من القرن العشرين.

وتأثراً بروجر ألن أولى وائل حسن في تقديمه لكتاب أكسفورد اهتماما خاصا بالبعدين الثقافي والسياسي اللذين تطورت الرواية في كنفهما، فأشار إلى علاقة الرواية العربية بالتاريخ التي اتضحت أولا عند جرجي زيدان ورواياته الاثنتين والعشرين ثم تطورت نحو الواقعية مما دشنته بقوة رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل عام 1914 كأول رواية مثلت مصر المعاصرة وتجدر الإشارة إلى أنها ليست هي أول رواية عربية بل سبقتها روايات لبنانية ومصرية(علما أن رواية “غابة الحق” للسوري فرانسيس مراش (1836ـ  1873) نشرت عام 1865 م). ووصولاً إلى واقعيات أخرى تجسدت في شكلين من الانتماء الأول للأمة العربية والثاني للدولة القومية، تعبيرا عن الهوية المشتركة أو الهوية الوطنية أيديولوجيا وسياسيا، ولاسيما سياسة جمال عبدالناصر التي انطبع وجودها في الذاكرة العربية من المحيط إلى الخليج بحسب الباحث الذي حصر التمثيلات الثقافية في الإحساس بالهوية الوطنية في الرواية المصرية بما جسدته روايات نجيب محفوظ ذات المنحى الواقعي، معبرة عن مصر والقاهرة لكنها روايات تجاوزت الوطنية والمحلية من خلال الحوار الذي لم يعمد إلى العامية إلا في إطار مفصح غير متناس للقضية الفلسطينية.

وهذا الإحساس القومي بالأمة العربية (Arab Nation) وليس الدولة العربية (Arab State) جعل قضايا الاستعمار والحدود المصطنعة وظهور البترول تعزز الشعور بالتعالي على التقاليد المحلية والارتفاع بها نحو التاريخ والسياسة والمجتمع والاقتصاد والأخلاق واللغة.

ومن الأدباء العرب الذين ذكرهم وائل حسن في مقدمته، ووجد فيهم تجاوزا للمناطقية ومفهوم الدولة القومية علي أحمد باكثير الذي ولد في إندونيسيا لعائلة يمنية ثم صار مواطنا مصريا، والروائية والشاعرة أندريه شديد التي ولدت في مصر لعائلة لبنانية وأصبحت مواطنة فرنسية وعبدالرحمن منيف الذي ولد في الأردن لأب سعودي وأم عراقية، الروائي إسماعيل فهد اسماعيل لأب كويتي وأم عراقية لكنه كتب رواياته في العراق حتى التسعينات التي أخذ سرده يصف العوامل الاجتماعية لغزو العراق للكويت وغير ذلك كثير من الأدباء العرب المهاجرين والفلسطينيين خاصة والعراقيين الذين هاجروا إلى إسرائيل والسودانيين في أستراليا وبريطانيا.

وقسّم وائل حسن التقاليد الوطنية في الأدب العربي إلى ثلاثة نماذج: تقاليد محلية وتقاليد أقليات وتقاليد مناطقية. وبسبب هذه التقاليد أصبحت الرواية العربية ظاهرة عالمية تزخر بتنوع لغوي أنتجه الكتاب الروائيون العرب وغير العرب لاختلاف لهجاتهم واللغات التي يكتبون بها، حتى أننا قد نصادف رواية عربية لكن كاتبها ليس عربيا كان يكون نيجيريا لغته المحلية تختلف عن العربية. وأشار الباحث إلى أن عبدالفتاح كيليطو كان قد وضع دراسة مقارنة بحث فيها عن نظائر أوروبية في التقاليد السردية العربية، مجسدا التنوع في الجغرافيا واللغة والتعددية في الهويات والثقافات التي هي واضحة داخل الرواية العربية وبما يعطي انطباعا أن هذه التقاليد تحتاج الى دراسات ذات قواعد بيداغوجية كي تضع تصورات ومقاربات ومقارنات منظمة ودقيقة.

ولأن الرواية العربية ظاهرة تاريخية ولغوية وجغرافية وصفها وائل حسن بالشجرة التي جذورها هي مصادرها المتنوعة عربية وفارسية وهندية وأوروبية وفروعها وأغصانها اتخذت مسارات مختلفة محلية وقومية ولغوية.

تدشين التقاليد نظراً وتمثيلاً

يتصدر بحث د. وائل حسن الموسوم “نحو نظرية في الرواية العربية” والجزء الأول من الكتاب موضع الرصد “الاستمراريات” وفيه ينطلق من مقولة د. جابر عصفور أن الزمن اليوم هو زمن الرواية وليس زمن الشعر، مفتتحاً بالتساؤل عن الكيفية التي بها أصبح نجيب محفوظ في ثلاث وثلاثين سنة الكاتب الأشهر في العالم العربي وجعل التقاليد تعبّر عن العرب بعد أن كان الشعر هو المعبّر عنهم ليكون هو الديوان في المرحلة الذهبية منذ القرن السادس للهجرة حيث المعلقات إلى سنة 1945 التي فيها نجح محفوظ في جعل الرواية تتصدر بدله.

ونقل عن د.جابر عصفور أن الرواية احتلت موقعا مهما، والسبب أنها تمثلت الواقعية كمشروع نهضوي ظهر في التاسع عشر ثم شهد تعددية محلية. وعرّج حسن على هذا المشروع مبتدئا بذكر محمود سامي البارودي ومنتهيا بمحمود درويش لكنه لم يوصل هذا المشروع بما شهدته الساحة الشعرية العربية إبّان الحرب العالمية الثانية من حداثة قادها السياب ونازك الملائكة وفيها تقوت شوكة الشعر بوصفه أحد أعمدة الثقافة العربية.

وبرصد تاريخي يتتبع د. وائل حسن السرد العربي القديم واقفا عند نماذج سردية كألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وكيف أن إخوان الصفا والفارابي والتوحيدي وابن سينا وابن طفيل كانوا قد عبّروا عن أفكارهم الفلسفية والأصولية بالسرد. وانبثقت الرواية العربية في مرحلة النهضة جامعة بين سردنا القديم والسرد الغربي الحديث، كما أن أوروبا أفادت في العصور الوسطى من أدبنا العربي وانتقلت إلى عصر النهضة.

وتساءل د. حسن هل كان تأثر المصريين بآداب أوروبا قد جعلهم شرقيين أم غربيين؟ والإجابة يجدها عند طه حسين الذي وجد أن مصر غربية لأنها تتوسط العالم ولأن المقياس الحضاري الذي عليه بنى الكتّاب العرب كان أوروبيا. فكتب هيكل روايته “زينب” ثم تطورت الرواية على يد نجيب محفوظ في الأربعينات والخمسينات وانساب نموذج الإنتاج الثقافي في إطار استشراقي تابع للكونيالية فهيمنت الواقعية كأيديولوجيا جمالية وبهذا الشكل تأسست نظرية جديدة في الرواية العربية.

وللوقوف على جينالوجية النظرية السردية ومصدرها الإنجليزي، درس وائل حسن ظاهرة “الانقطاع والاستمرار” مستندا إلى فورستر الذي وصف الرواية بأنها سرد نثري بطول معين بحدود خمسة آلاف كلمة. ويقسم النموذج النظري الزمن في الرواية إلى مقيدٍ بالماضي يضع الرواية مع أجناس كالملحمة وقصص الرومانس. وشاملٍ يعود إلى ما قبل التاريخ. ومتوالٍ يقطع أيّ صلة له بالماضي.

والرواية الأوروبية التي بدأت في القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين هي ذات جذور بدأت مع بداية الوعي التاريخي. ولقد عد جورج لوكاش الرواية وريثة الملحمة (الرواية هي ملحمة العصر التي هجرت) ولم يعد البطل الملحمي يتمتع بالحماية الإلهية، وصار عليه أن يحمي نفسه بنفسه. وكان لتركيز باختين على الصوت الأحادي والثنائي أن أصبحت الرواية تقليدا أنجلوسكسونيا، وتتبع وائل حسن هذه المسألة منتهيا عند مصر القديمة والحضارة الإغريقية، مع أننا نرى أن النظرية الشاملة للسرد تمتد إلى أقدم من ذلك بكثير لتصل إلى الحضارة السومرية في أوروك وبابل حيث ملحمة جلجامش.

ومثلما أنّ للروايات الفرنسية التي ترجمت إلى العربية في القرن التاسع عشر أثرها كذلك كان للنظريات الإنجليزية تأثيرها لا على النقدية العربية حسب؛ وإنما على النقد الأكاديمي الأنجلوأميركي.

وأعطى وائل حسن اهتماما كبيرا لكتاب “تطور الرواية العربية الحديثة في مصر 1870 ـ 1938” للدكتور عبدالمحسن طه بدر بسبب دراسته أثر الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية على فن الرواية، بادئا بالحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون عام 1798، مصنفا الرواية إلى تعليمية وتسلية وترفيه وفنية. فأما التعليمية فتمثلها روايات جرجي زيدان التي حملت رسائل تربوية في وقت كان اسم الرواية لعنة للكاتب في عشرينات القرن الماضي إلى أن أخذت لها معنى على يد طه حسين ومحمد حسين هيكل الذي لم يذكر اسمه في الطبعة الأولى لروايته زينب لكنه كتبه في طبعتها الثانية عام 1929(See: Arab Novelistic Traditions, P 31.).  وتمثل جرجي زيدان وعلي مبارك ومحمد المويلحي وأحمد فارس الشدياق نمط المقامة القريب من الكتابة السيرية.

لوحة: أحمد كليج
لوحة: أحمد كليج

أما رواية الترفيه فكانت هي المهيمنة خلال القرن التاسع عشر إلى العقد الأول من القرن العشرين، ونضيف أن رسالة هوراس ورسائل ابن المقفع الذي ترجم كليلة ودمنة عن الفارسية كان هدفها التعليم والمتعة أيضا. وأما الرواية العربية الفنية المعاصرة فكسرت التقاليد السردية العربية في الجانبين الشعبي والرسمي، رافضة بحسب عبدالمحسن طه بدر التهجين بالصيغ العربية القديمة، والسبب الظروف الطارئة التي أحدثتها ثورة 1919 في مصر. فكان للسياق الاجتماعي والاقتصادي دور في إنجاح واقعية اجتماعية أنتجت الرواية على غرار النموذج الأوروبي فطبع خلال الأعوام من  1914 إلى العام 1938 أكثر من ثلاثين عملا روائيا.

وبدر هو الذي عد رواية “زينب” أول رواية فنية عربية كما أن “روبنسون كروزو” أول رواية أوروبية فكأن أول رواية أوروبية لا بد أن تكون إنجليزية وأول رواية عربية لا بد أن تكون مصرية! وبالطبع لم تتح أدوات البحث وقت إعداد بدر لدراسته إمكانيات الاطلاع على كامل النتاج الروائي العربي خلال الأعوام التي شملتها الدراسة فضلا عن الاختلاف في توثيق تاريخ نشر رواية “زينب” بين 1914 و1919 كما أن عد رواية “زينب” فنية فيها وجهات نظر تميل إلى اعتبار طبعتها الثانية عام 1929 هي المقصودة وليست طبعتها الأولى. وعلى الرغم من أن في الأرشيف الروائي العربي نماذج فنية أرقى من “زينب” ظهرت إبان أو قبيل أو بعيد هذه الرواية، إلا أن رأي بدر ظل شاخصا ليبني الكثير من الباحثين عربا وغربيين آراءهم عليه.

أما ما ذكره وائل حسن من أن الرواية العربية صارت صورة مستنسخة من الرواية الواقعية الأوروبية وأنها بدأت تصالح نفسها بالتقاليد السردية العربية ابتداء من ثلاثية نجيب محفوظ عام 1957 ففيه إجحاف ليس بالقليل لأنه غير مبني على استقصاء دقيق لكل النتاج الروائي العربي والذي يقرأ أول رواية عراقية وهي “جلال خالد” لمحمود أحمد السيد المنشورة عام 1928 سيجدها تسجيلا واقعيا أقرب إلى السيرة يحكي فيها السارد رحلته البحرية إلى الهند، وفيها يقدم الروائي مشروعا لواقعية نقدية بنسخة عربية أصيلة وواضحة، ناهيك عن حقيقة أن القصة القصيرة سابقة لنشأة الرواية وهي التي مهدت لبزوغ الرواية العربية لاسيما في العراق.

بيد أننا نتفق مع وائل حسن أنّ ثلاثية نجيب محفوظ كانت علامة على نضج الرواية العربية وأنها بلغت سن الرشد منهية الاعتقاد أن إبداع الكاتب العربي كان تقليداً للنموذج الأوروبي، علما أن “زقاق المدق” للكاتب نفسه وهي أسبق من الثلاثية قد حققت ذلك كما لا يفوتنا أن نذكر في هذا السياق روايات توفيق الحكيم مثل “يوميات نائب في الأرياف” و”عصفور من الشرق” و”عودة الروح”. أما رواية “أولاد حارتنا” المنشورة متسلسلة في جريدة الأهرام عام 1959، فإن بها حصل تحول كبير من الواقعية والرؤية الكلاسيكية للسردية العربية إلى الرمز والرؤية الميتافيزيقية وهو ما واصله محفوظ في رواياته اللاحقة.

وعد د. حسن أعمال محفوظ مثل “ابن فطومة” و”الليالي الالف” استعادة للسرد القديم معتمدة أسلوب القرون الوسطى والمأثور من القاموس المعجمي لأقدم الأجناس العربية بمرونة تجمع بين الصيغ الكلاسيكية والمحلية كقانون لتقويم الأدب بحسب الناقد فرانكو موريني (نظريته تسمى شجرة خارطة ولموريني مقالات في القراءة البعيدة)، والذي نراه أن العودة إلى السرد القديم كان قد بدأ قبل نجيب محفوظ وتحقق بطريقتين: الأولى قديمة تقوم فيها الكتابة السردية على نهج المقامات والمنامات والحكاية العربية القديمة والثانية بهدف تجريبي والذي تحقق عند الكثير من الكتّاب العرب مشارقة ومغاربة.

مؤدى ما ينتهي إليه وائل حسن هو أن الرواية العربية كفت عن أن يكون هدفها بناء الأمة أو مدينة فاضلة، وصارت تبتغي الواقع الاجتماعي، لتكون ديوان العرب بقوانين ثلاثة: القانون الأول يتعلق بحقل الأدب وبناه العميقة، والقانون الثاني يتعلق بحكم القيمة، والقانون الثالث يتصل بالمغالطة النموذجية والتفكير السيري الأتوبيوغرافي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.