الرَّواية السُّودانية والترَّجمة

المُمْكن والمُسْتحِيل
الثلاثاء 2022/11/01
لوحة: محمد عبدالله عتيبي

إذا كان الانتشار الذي أنجزته الرواية السودانية مؤخراً أهم ما يميَّز مراحل تطورها في سياق الكتابة السردية، إلا أن الروائيين السودانيين ربما يطمحون إلى رؤية هذه الأعمال مترجمة إلى لغات أجنبية تزيد من حضورها السَّردي وبالتالي تمنحها بعداً إنسانيًا أرحب. وهذا الطموح وفق تقديراتهم في جانب منه يشير إلى وجود أزمة قلّة تعانيها محاولات أزمة أو إشكالية تعيق ترجمة تلك الأعمال في فضاء الانتشار العالمي الذي تحققه عادة النصوص المتُرجمة إلى لغات أخرى تحقق لها الانتشار والوجود المعترف به. وقد ترافقت هذه الأزمة في السنوات الأخيرة مع أزمات أخرى عدة منها ترجمة الرواية السودانية بين شكاوى عديدة تُحيط بمُدونة الأدب السوداني، خاصة بعد أن شهدت الرَّواية السودانية في العقدين الأخريين من غزارة الإنتاج وقلَّة الانتشار على مستوى المشاركات في المسابقات والجوائز العربية مع غياب ملحوظ في الترجمة. والترجمة المستهدفة لا تعني غير نقل النصوص السردية المكتوبة بلغتها الأصل (العربية) إلى اللغات الأوروبية وحصرياً إلى اللغة الإنكليزية لأسباب لا حصر لها، ولكن ربما منها ما يمسّ مِيَراث الكتابة السودانية السردية والإبداعية والرسميِّة كلغة طبقة نخبوية لها ارتباطاتها وعقدها التاريخية في العلاقة بالمستعمر (الإنكليزي) لغة وثقافة؛ والأهم استخدامها الواسع في تطبيقات العلوم والتقانة وقوة ثقافية ناعمة مهيمنة.

ومن المؤكد أن ثمة غيرها من أسباب لا تتعلق بمكانة اللغة الإنكليزية حصراً ولكنَّها تقترب من أزمة أعمق في صميم الإنتاج الأدبي والمعرفي والتعليمي في الواقع السوداني. والحديث عن الترجمة في وقت غَدْت فيه (الترجمة) في عالم اليوم – عالم ثورة المعلومات – والانفجار المعلوماتي وتدفق قاعدة البيانات المتبادلة بسرعة الضوء من مصادر مرجعية تدفقية (Streaming) يبرهن على أن الترجمة ظاهرة معرفية وجهد عقلي وأداة تواصلية لا تُفعل إلا من خلال المشتركات الإنسانية العامة ومنها الأدب إن لم يكن أهمها. وفي هذا يمكن القول بأنها منطقة تقارب بين المجتمعات الإنسانية وخطابها المنطوق البشري، اللغة والكلام موظفة لأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا في البرمجيات كالترجمة الآلية والذكاء والاصطناعي والمحاكاة الصوتية وغيرها مما يساعد في سرعة الأداء وإتقانه.

ولكن في ترجمة الأدبيِّة (Literary translation) ربما استدرك المرء سعة المدى الزمني الذي قطعته جهود المترجمين في جعل فاعليِّة اللغات تزداد قوتها بفِعل الترجمة، إذ أن الأدب أو الإنتاج السردي (الروايات) أو مفاتيح خزائن السَّرد بتعبير الباحث العراقي سعيد الغانمي يمثل بضرورة المنطق العلميِّ للغة بؤر تركيز وإعادة إنتاج اللغة؛ ويُمكِّنها بالتالي من إطلاق أقصى طاقاتها التعبيرية. ولم يكن لهذا التحول المعرفي في حقل الترجمة دون مؤثرات سالبة، فسرعة نقل الأحداث وتداولها قد لا تتيح للمترجم التثبت من دقة ما ينقل فيعمد إلى إنتاج تعابير غامضة أو ما يعرف في علم الترجمة بالمكافئ الغامض (Vague Equivalent) ومن ثمَّ ينتشر التعبير ويكون شائعا. ولا ننسى أن المترجم الأدبي يتعامل مع مادة ذاّت طبيعية ثقافية تمتد جذورها المعرفية إلى محيط الوجود الإنساني وتتولَّد عنها علامات تعصى على التفسير مما يزيد من الحاجة إلى المراجعة والتدقيق بما تتطلبه الترجمة من توثيق لغوي، وعمق معرفي وبحث مُعجمي.

ومن جانب آخر لا تزال الرواية السودانية بعد ستة عقود تبحث عن مكانها بين فضاء أدبي واسع تتوق إلى التعلق به على هامش الوطن العربي بكل صراعاته حول أزمة هوِّيات ومكونات ولغات الأدب السوداني وما يجب وما يكون عليه الأدب السوداني كما كتب الشاعر حمزة الملك طمبل في عشرينات القرن الماضي. وبما أن اللغة الإنكليزية كانت – واستمرت كذلك – لغة استحوذ السودانيون حقَّ الادعاء الحصري على إجادتها في محيطهم العربي التَّابع بمصطلح دراسات ما بعد الاستعمار ومضت كلغة يلهج بكلماتها المتعلمون في موازاة الشفاهية التي تسم الحياة الثقافية السودانية، ويقيت لغة تعلُّم وتدريب (Instruction) تنتج لغة ديوانية أو رطانة اصطلاحية تسربت منها مفردات دعمت معجمية اللهجة السودانية ضمن التفاعل اللغوي التلقائي من مسميَّات منحوتة ومُسَودْنة في حدود التداول اليومي الدَّارج. ولأن الكتابة نفسها أو الكتابة الروائية للدقة وضروب المعرفة الأخرى في السودان بالتتَّبع التاريخي لم تبنِ على تراكم مؤسسي يجعل من الكتابة تستعصم بتقاليدها الصارمة إن لم تكن المنهجية. وهذا ما أوجد فراغاً في تتابع السردية السودانية وخاصة في باب الأدب والرِّواية على نحوٍ خاص لحداثة دخولها مدونة الكتابة السودانية بخلاف الشعر والمواريث السردية (الحكاية) وغيرها من أدوات التعبير اللغوية الأخرى بسيطة التركيب. فكان للتجارب الفردية في الكتابة الروائية مع أن الرواية نفسها تجربة ومغامرة مدخلاً مسوغاً بالموهبة وفق شروط تحكمها ظروف الكاتب والتي عادة ما تنتهي بعد رحلة قصيرة في غياب معينات لازمة في بيئة يُنازع الكاتب فيها صراع مبرِّرات وجوده.

ومن بعد، فالسؤال أو بالأحرى التساؤل حول مدى إمكانية أو كيفية ترجمة الرواية السودانية إلى اللغات الأوروبية بكل ما تحمله تلك اللغات من ألق متصَّور وحضور كثيف يتصل بما يعرف بالعالمية وطريقاً ممهداً صوب الجوائز العالمية؟ وفي الواقع السوداني مثال ما يستدعي وجاهة تجربة الترجمة لأهم رواية سودانية وعربية وعالمية – بعد ترجمتها – المتزامنة مع صدورها رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح بترجمة المترجم البريطاني دنيس جونسون ديفز، وهي الترجمة التي يقول عنها صاحبها كما ينقل الأكاديمي الأردني محمد شاهين في تقديمه لترجمة كتاب “الناقد والنص والعالم” للمفكر الفلسطيني – الأميركي إدوارد سعيد كيف أنه أحجم عن ترجمة الرواية حينما طلب منه صاحبها مع وجود ترجمة إنكليزية واحدة واصفَا اياها: بالترجمة (Rough) الفجَّة! ومن المؤكد أن ترجمة رواية في مكانة “موسم الهجرة إلى الشمال” ربما فتحت شهية الروائيين فيما بعد للتفكير في ترجمة أعالمهم كما لو أن الترجمة وحدها تُشكَّل رافعة تزيد من حظوظ العمل المترجم وتضعه حيث يجب أن يكون، وغض النظر عن القيمة الفنية والسردية للعمل وما يحدثه من أثر في كتابة الرواية. ولكن يبدو أن الترجمة المنشودة لم تحدث إلا مؤخراً ولأعمال معدودة (بركة ساكن، منصور الصويم، حمور زيادة… الخ) من قبِل مترجمين غير سودانيين. وإن ما لاقته هذه الترجمات في الفضاء المستهدف بالترجمة من ترحيب وما حازت عليه من جوائز تكون الرواية السودانية التي تنتمي – وفق جغرافيا النصوص السردية – إلى أدب العالم الثالث قد غادرت نسبيًا تلك الدوائر التي تُدرجها ضمن حقول الدراسات الاجتماعية والمختبرات الأنثروبولوجية كأدب منتج خارج الثقافة الأوروبية المركزية.

والاتجاه الآخر في ترجمة الرواية السودانية، الروائيون السودانيون الذين يكتبون باللغة الإنكليزية مباشرة ويتواجدون في السياق الجغرافي للغة الغرب تحديداً (المملكة المتحدة) حيث استطاعت بعض الأسماء من تحقيق نجاحات بما أضافته من نقلٍ لوقائع سردية سودانية في تلك اللغات. فمن أبرز الأصوات الروائية ليلى أبوالعلا التي تكتب وتقيم ببريطانيا والتي تمكنت أعمالها الروائية من الحصول على جوائز أدبية مرموقة كجائزة كين للأدب الأفريقي، وحسناً فعل الرَّاحل الخاتم عدلان ومن بعده بدرالدين الهاشمي وعادل بابكر وجمال محمد إبراهيم بترجمة أعمالها الروائية ومجموعتها القصصية مجتمعة إلى العربية في تجربة سودانية نادرة الحدوث! والملاحظ حجم التأثير الذي تحدثه الكتابة المباشرة باللغات المستهدفة بالترجمة إليها وبين النقل إليها من اللغة الأصل عبر الترجمة. وتعتبر جهود المترجمين السودانيين لترجمة أعمال لروائيين كتبها مواطنوهم بلغات أجنبية يكون قد تحقق توطين النصِّ (Domestication) بسياقه اللغوي والجماليِّ. ولا بد من الإشارة أيضا إلى الروائي السوداني جمال محجوب وما نقله في عوالم سودانية في رواياته المكتوبة باللغة الإنكليزية والمترجمة أيضا.

ومن المثير للاستغراب وربما دليل مما يساق في معرض “أزمة الترجمة” أن تظَّل الكتابات عن السودان في متون كتابات الأجانب الذين عملوا في السودان رابضة في نصوص لغاتها الأصلية يطّلع عليها من يطّلع ممن يجيدون لغتها. وتشمل هذه الكثير من دفاتر وملاحظات الرَّحالة والموظفين الاستعماريين، ولمّا كان الحديث عن الترجمة يجدر بنا أن نشير إلى رواية “الطليعي الأسود” لموظف قلم المخابرات البريطانية إدوارد عطية التي نقلها مؤخراً إلى العربية المترجم بدرالدين الهاشمي صاحب الاهتمامات بما كتب عن السودان أو السودان بعيون أجنبية كما يحمل أحد عناوين ترجماته؛ فقد ظلت الرواية دون أن تترجم إلى العربية لما يقرب من السبعين عامًا.

وما يُفهم من الترجمة الأدبية أنها عملية تستهدف لغة المصدر المنقول منها بمصطلح الترجمة (Source Language) بينما تظَّل اللغة المنقول إليها (Target Language) أكثر مطلباً من الأولى، وفي كلا الحالتين لم يُنجز (المترجمون) السودانيون – على قلتهم، وقلة ما ينتجون – ما يعتدُّ به في دائرة مقروئية الأدب العالمي أو فلنقل بتواضع أكثر الأدب المحلي أو الإقليمي اللغوي حيث تشكل لغة الكتابة فضاء التداول. ثمة أسس إستراتيجية تغيب عن وعي المترجم حين يزمع على تنفيذ ترجمة خاصة النقل من اللغة الأم إلى اللغات الأجنبية بما يشبه الاستشراق من الداخل على تعبير الدكتور عبدالله علي إبراهيم في غير موضع الترجمة! فمن بين المبادئ المستقرة في تقاليد الترجمة إجادة اللغتين والمعرفة العميقة بالدلالات والإشارات الثقافية والتي هي تمثل محتوى العمل السردي (الروائي). فإذا ما قام بالترجمة مترجم ينتمي لغة وثقافة إلى لغة العمل الروائي السوداني (عربي اللغة) إلى اللغة الإنكليزية مع وجود مثل هذا المحاولات كترجمة المترجم المقتدر عادل بابكر لأعمال الطيب صالح وبركة ساكن إلى الإنكليزية وترجماتي لمنصور الصويم وبعض كتّاب القصة القصيرة والروائيين السودانيين والعرب؛ فإن اختلاف الحقل الثقافي واللغوي لا بد أن تعترض عمليِّة الترجمة عوائق لا تقف عند حدود المشكلات الثقافية  (Cultural Problems) كما تعرِّفها الدراسات النظرية للترجمة ولكن قد تفضي إلى صعوبة في فهم تحليل المحتوي السردي نفسه المنقول إلى لغة الهدف وهي تُهم طالت مثل هذه الترجمات. ولكن تبقى للمحاولات أهميتها في الإشارة إلى وجود نصٍ مُرحَّلٍ لغوياً عبر وسيط (المترجم) أجنبي. وقد تحقِّق مثل هذه الأعمال حضوراً محصوراً على الدوائر الأكاديمية والمطبوعات محدودة الانتشار.

وما يضع التحدي ويزيد من الصعوبة المنهجية أيضًا علاقة المترجم بالنص، وهذه ليست فرضية مجردة تقاس على الموهبة في كتابة الرواية ابتداًء، فما يحكم علاقة المترجم وما يترجمه من مادَّة أو نصِّ يختلف عن علاقة الروائي بالنص أو اللغة للدقة. فللمترجم ميوله وأهم من ذلك خلفياته الثقافية والأكاديمية، وقدراته الترجمية. ومما يلحظ أن فهمًا خاطئا قد استقر في الفهم العام بين طائفة من المترجمين الذي يفترض أن معرفة اللغة الإنكليزية وحدها كفيلة بتجشم مشَّقة التصدي لترجمة الأدب. فهنا ربما تبرز المنطقة المتقاربة بين التخصُّص والتكوين الأكاديمي والممارسة التي تنبثق عن التجربة، والمحدّدات الثقافية وإمكانيات الترجمة اللوجستية إن جاز القول؛ وكل ما من شأنه تمكين المترجم من الأداء. وقد تبدو مثل هذه المقاييس غير قابلة للتطبيق إلا وفق ظروف استثنائية.

والأمثلة تكاد تعصى على الحَصَر في تتبع القصور أو عدم كفاءة إيصال المعاني المضمرة في الشفرات السردية التي هي مقوِّم العمل الإبداعي كما في ظاهرة الخفاء والتجلي للمعنى بتعبير الناقد والمترجم المثير للجدل الترجمي كمال أبوديب. والحقًّ، أن اللغات من زاوية اللغويات تجمعها مشتركات ذات خصائص وسمات (Universal Languages) على مستوى البنية القاعدية التي تنظم كل اللغات وليست فقط تلك اللغات التي تعرف بالعالمية، أي المكتوبة. وهذا لا يعني تماثل التجربة الإنسانية بين المجتمعات اللغوية إلى حدٍ التطابق، وفي طريقة التعبير عن الرؤيا السردية وهو ما يُبرهِن على وجود تنوع شديد الغرابة في إبراز الأدب وتمدّداته في التجربة الإنسانية. وربما تجاوز الأمر أخطاء المترجم. فالمواجهة الأولى لترجمة نص روائي مكتمل في نسق إبداعي آخر يستدعي منهجاً يختلف في المقاربة والتحليل والتوظيف اللغوي، أي النص السردي وما ينوء به من لغة مجازية وإحالات وعلامات يفترض أن تنقلها اللغة بأقصى طاقة ممكنة وسعة ليس قصراً على تفسير المعنى وإيصاله بالقدر الذي يبين في اللغة المنقول إليها. اقتصدت الترجمة في محاولة نقلها لهذه المكونات وعناصرها السردية إلى اللغات الأجنبية لإيجاد دلالات ليست بالضرورة متطابقة المفردات والألفاظ في نسقها الثقافي ومحيطها اللغوي في كل من اللغتين.

ونعود إلى ما يمكن وصفه ثقافياً بغياب الترجمة في المشهد السوداني وخاصة الرِّواية السودانية بعد انفجارها مؤخراً بحسب الوصف الإعلامي لا النقدي. وبغير الأسباب النظرية واللغوية التي تصاحب الترجمة هناك ما يحيط بالمترجم وبكل ما يعرفه ويحدِّد بالتالي مسار أداء وظيفته في خضم مُناخ ثقافي أصبحت فيها الكتابة السردية مُنجذبة نحو بريق الجوائز الأدبية الأخاذ. فالروايات السودانية بوصفها منجزات سردية إبداعيِّة مكتوبة بلغة ومحقَّقة لشروط الكتابة السردية مثلها مثل الإنتاج الروائي في العالم تستحق الترجمة إلى لغات العالم الحيِّة مَّما يؤهلها لأن تكون نصوصاً لديها قابلية الترجمة (Transability) ولكن تبقى تحدِّيات الترجمة التي لا تختلف عن تحديات موقع الرواية السودانية نفسه على الخارطة العربية لغة ومن ثمّ العالمية عبر الترجمة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.