الشاعر حامل المصباح والقارئ المغامر

هل الشعر نهر والقصائد أسماك هاربة
الأحد 2023/01/01
لوحة: وليد علاء الدين

في مسألة القِراءَة

واحدة من أكثر قَضَايا الشُّعَراء الْجُدُد التباساً هي علاقتهم بالقرّاء، فمنهم من يرى في قِلَّةٍ مُنْتَخَبَةٍ لا تزيد على بضع مئات من القراء أقصى ما يطمح إليه شاعر وشعره، ليكون الشِّعْر حديثاً والشَّاعِر حداثياً، وبين هذا الفريق من الشُّعَراء من هو صادقٌ في ما يراه، لَكِنَّ المشكلة هي عند من يَرْطُنُ بهذا المعنى ويخالفه بالذَّهَابِ إلى ما يندّ عنه لإشْبِاعِ رغبة مقموعة في الوصول إلى جمهور أكبر كثيراً من تَلْكَ الْقِلَّةِ الْمُنتَخَبَة، وذَلِكَ من دون أن يكون في وسع شعره التَّعبير عن هذه الرغبة بجلاء، أو تلبيتها باقتدار.

والسُّؤَال بصدد هذه “الكفاية” بالأقل من القراء هو: هل يحيط الشُّعَراء بجل ملابسات العملية القرائية للشِّعْرِ في العالم الْعَرَبِيّ؟ أغلب الظن، لا، فليس من يقين حول ذلك ما دام “الاستفتاء” و”الاستقصاء” في العالم الْعَرَبِيّ متعذرين. نحن لا نعرف، حقيقة، كم بيتاً دخلت النُّسخة الواحدة من الكتاب الشِّعْرِيّ، وكم يداً تناقلته في أسرة القارئ الأول وفي ما بين أصدقائه. ولا نعرف كم نسخة صَوَّرت الأيدي في المدرسة والجامعة والمكتبة العامة من ديوان شاعر، فالنُّسخُ الألف (العدد التقليدي للطَّبعة الأولى من ديوان الشِّعْر) التي طبعت من كل كتاب شعري، يحتمل أن يكون قرأها أكثر من أربعة آلاف قارئ. وقد يتضاعف العدد مراراً بصدد طبعة من ثلاثة آلاف نسخة، وهكذا. نحن لا نعرف شيئاً عن القارئ. لكننا نجازف غالباً، في توصيفه بطريقة سلبية.

هناك قراء، وهم على قِلَّتِهم، بِالنِّسْبَةِ إلى الملايين الكثيرة من العَرَب، أهل ذائقة راقية، يسعون إلى الكتاب الشِّعْرِيّ الجيد، وغالباً ما يحصلون عليه، حتى لو كان ممنوعاً من قبل الرقابة في بلادهم، وهم قراء لا بد أن تكون لهم رؤيتهم المميزة للشِّعْرِ، لكنهم سيظل شأنهم معنا – لأسباب خارجة عن الإرادة- شأن عاشق من طرف واحد، في ظل غياب الاستفتاء والاستقصاء.

ومما يؤسف له، تالياً، أن الشَّاعِر الجديد سوف يظل يصعب عليه أن يبني موقفاً متبصراً من القارئ، فهو لا يكترث بقرّائه المحتملين، ويكاد لا يعرف شيئاً عن اتِّجاهاتهم، فضلاً عن أنه أسير فِكْرَة عن الشِّعْر لها دورها في إقامة جدار عال يفصله عنهم. ومن ثم، سوف يصعب عليه تحديد موقف فَعَّال منهم، وهو ربما، بسبب من جرح نرجسي أصابه به الشَّاعِر الجماهيري صاحب الْقَصِيْدة الأقل قيمة فنياً، نراه يؤثر المقولاتِ المُتَعَالِيَةَ، ويُرَحِّلُ على غالبية القراء أزمة الشِّعْرِ بَدْءَاً من الذَّائقة السَّائدة، ومُروراً بمَا يَتَّصِلُ بالوعي الْجَمَالِيّ العام، ورُبَّمَا وصُولاً إلى أمُور أبْعَدَ مِنْ كِلَيْهِمَا! وفي هذا السياق. قال لي مرّة ناقد أحترم رأيه: الشُّعَراء الْجُدُد يحتقرون القارئ. ويرى هذا الناقد أن أولى علامات ذلك انهماكهم في إحاطة شعرهم، وتحصينه بكتابةٍ نَقْدِيَّةٍ لا تقصد من القُرَّاءِ إلا الشُّعَراءَ أنفسهم.

وإنَّنَّي لأخشى، الْيَومَ، أن يكون هذا الكلام صحيحاً إلى درجة كبيرة، فالرطانة النَّقْدِيَّة، والنَّقْدُ الانطباعي السيّار، وحتى بعض النَّظرات والتَّأملات المهمة التي يلقيها الشُّعَراءُ النُّقَّاد على الشِّعْر، إنما تبتعد كثيراً، لا في لغتها وحسب، بل، أيضاً وأساساً، في استراتيجياتها القرائية، عن جادَّة القارئ. إنها تستبدله تماماً بصاحب النَّصّ وقرَّائه من شُعَراء ونقاد، وقد بلغت هذه الحال من التَّفاقم درجة الظَّاهرة. وفي ظنِّي أَنْ هناك، اليوم، ضرورة قصوى تُحَتِّمُ على الشُّعَراء التَّأَمُّل في هذه المسألة من باب إعادة النظر في العلاقة لا مع القارئ وحده، ولكن مع اللُّغَة أيضاً.

والطريف (هل يبدو حقاً كذلك) أن هذه الكلمة التي أكتبها الآن تبدو بدورها موجهة إلى الشُّعَراء أكثر منها إلى القُرَّاء، ولا بد من الاعتراف هنا بالمعضلة، لعل الاعتراف بها يشرك القارئ كطرف يتعدَّى كونه شاهداً، ليكون شريكاً فعالاً في الملاحظة والحوار، ويحضرني الآن أن أتساءل: لمَ لا يُشَارك القُرَّاءُ، مِمَّنْ لم يحترفوا الكتابة، في إبداء انطباعاتهم النَّقْدِيَّة حول الشِّعْر وقضاياه، على أنْ يفعلوا ذلك من مواقعهم كَقُرَّاءَ ومُحِبِّي شِعْرٍ، من دون أن يُفَكِّروا جَمِيعَاً في أنْ يُفَارقوا هذه المواقع ليصيروا كُتَّاباً، ونخسرهم في النهاية قُرَّاءً مُتَفَاعِلِينَ مَعْ مَا يَقْرَؤُونَ.

في الجَمَالِيَّاتِ الجَدِيْدَة

لوحة: وليد علاء الدين
لوحة: وليد علاء الدين

… لو نحن فحصنا جيداً صنيع الشعراء في العمل مع الْكَلِمَات، لوجدنا أن الذي يحدث اليوم في الشِّعْر أخذ يبدل الذائقة، ويبدل معها حاضر الشعر ومستقبله. مشكلتنا أن الإقرار بالتغيير هو ما ترفضه وتأباه، الكثرة منا، ربما لأن في التغيير أكبر من طاقتنا على الاحتمال، إنه ألم الانقطاع عن العادة، والغربة عن الألفة، والخوف من المجهول الذي يحمله الجديد.

على أن الحقيقة المتعارضة مع هذا الخوف من الجديد تثبت أنَّ الشِّعْرِيَّة الْعَرَبِيَّة في جغرافياتها المختلفة لم تنقطع عن التحرك بحيوية، ولو جاز لنا أن نخضع بعض أبهى النُّصُوص الشِّعْرِيَّة التي ينتجها شُعَراء اليوم إلى المقاييس نفسها التي قيس بها شعر الأمس القريب الذي ملأ عيون النُّخْبَة وأسماعها وأفئدتها منذ منتصف القرن الماضي وحتى نهايات القرن، لَهَالَنَا الفَرْقُ بين ما أُنجز بالأمس وما ينجز اليوم. فرق كبير منتظر من سُنّة التَّطور أن تتيحه للفنان الجديد ومتذوقي فنه، يحيلنا، في آخر الأمر، على تعقيد جَمَالِيّ لا قِبَل لكلام موجز في تسمية عناوينه كلها. إنه فرقٌ في كل ما يؤلّف الشِّعْر، وهو فرق أصيل لعبت فيه النُّصُوص السابقة تارة دور القابلة التي أخرجت الوليد، وتارة أخرى دور اليرقة التي أخرجت الفراشة ثم هلكت.

في الصَّنيع الفَنِّي

محيِّرٌ هو النِّقَاش حول شِعْرِيَّة الشِّعْر الْحَدِيْث، لنأخذ مثلاً قضية موسيقى الشِّعْر والإيقاع الشِّعْرِيّ والأوزان الشِّعْرِيَّة، يمكنني أن أجزم أن الفائدة من النِّقَاش حولها كانت باستمرار فَائِدةً يسيرة بِالنِّسْبَةِ إلى عدد غير قليل من الشُّعَراء الذين عرفتهم، والأرجح أنَّ النُّقَّادَ تصرَّفُوا بطرائق تدعو إلى الملل، في حين أفصحت الكثرة من الشُّعَراء الْجُدُد عن هُزَالٍ مَعْرِفِيٍّ مصحوبٍ بِصَلَفٍ غَرِيبٍ. لقد توطّن إحساس لدى البعض منا أنَّ موضوعات النِّقَاش حول الشِّعْر غالباً ما تكون مُفْتَعَلَةً إذا ما قيست بالهموم الجمالية والفكرية ذات الطَّابع الإشكالي، أحيانا، للحياة الشِّعْرِيَّة الْعَرَبِيَّة.

في هذا السياق، يجب أن نعترف بحدوث تحوُّل مُهِمٍّ في صورة الشَّاعِر في المجتمع رافق التَّحَوُّل في مكانته الاجتماعية. وهذا التَّحَوُّل قائم على تطور فكري وجمالي أدى بدوره إلى تَحَوُّلٍ في علاقة الشَّاعِر مع اللُّغَة، وبالتالي في مفهومنا لِشِعْرِيَّة الشِّعْر. لَكِنْ كيف يمكن تظهير صور هذا التَّطور في ظل ما يشبه غيبوبة نقدية وخطل صحافي لا نهاية له، بالاستفتاء مثلاً، أعني بتعميم الأسئلة الشَّاغلة؟

والسؤال الذي لا يني يشغلني هو عما إذا كانت الخطابات المتداولة عن الشِّعْر اليوم في حاجة إلى استبعاد بعض الأفكار والمصطلحات المُضَلِّلَةِ كمصطلح “الجيل” حتى تصبح فاعلة ومؤثرة في القراءة؟ في هذه الحال، أفكر ما إذا كان في وسعنا بدلا من ذلك القول بـ”جيل جماليات معينة” فنسقط الزَّمَني لصالح الفني؟ ممكن، أجاب الشَّاعِر. ولكن هل يبدو تصرُّفٌ فكري كهذا أمراً مقبولاً في مجتمع الشِّعْر الْعَرَبِيّ، ومن جانب شُعَراء جرت تربيتهم تربية سيئة على أيدي “رواد” شعريين مهووسين بذواتهم الفنية، ومخيلاتهم “الخلاقة” أكثر مما هم منهمكون في تأمل صنيعهم الفني على سبيل مواصلة التجريب بحثا عن الجديد والأجد، كما تفعل النُّدْرَةُ المُبْدِعَةُ من الشُّعَراء؟

في مسألة الوزن الشعري

ولنأخذ مثلا مسألة أوزان الشعر. كلنا نعرف أن ألوان الشِّعْر الْعَرَبِيّ واتجاهاته متأثرة بِالضَّرُوْرَة بإيقاعاته، ولهجة الشَّاعِر ربما تكون متاحة بوساطة بحر شعري مّا بصورة أفضل ممّا لو استعمل الشَّاعِر بحراً آخر لقصيدته. وهكذا نجد ميلاً لدى شُعَراء لكتابة شعرهم على بحور من دون غيرها، بينما نجد غيرهم يُؤْثِروْنَ ما تركه هؤلاء الشُّعَراء من أوزان، ذلكَ لَهُ صِلَةٍ بالمزاج، وببِنْيَةِ الإيقاع الشَّخْصِيّ للشَّاعِر، وبإِيقَاع العصر.

إن أدق دقائق العملية الشِّعْرِيَّة خلال قرون من الشِّعْر الْعَرَبِيّ مرتبطة قطعاً بالأوزان وتَنَوُّعِهَا وتعدُّدها واشتقاقاتها، صحيح أن الأوزان عرفت ناظمي شعر رديئين أكثر مما عرفت شُعَراء مجيدين، لكنها لما قاربها الشُّعَراء الموهوبون اجترحوا بوساطتها معجزات شِعْرِيَّة ما تزال تَلْمَعُ في دنيا الجمال الفني الْعَرَبِيّ كآياتٍ وأُحْجِيَاتٍ فَنِّيَّة لا سبيل إلى فكّ ألغازها، والتَّمَتُّع بغموض تكوينها، من دون معرفةٍ بالأوزان.

وإن كان المرء لا يطالب شطراً كبيراً من الشُّعَراء الْجُدُد الجاهلين بالأوزان وعملها أنْ يَتَعَلَّمُوهَا لِيَكْتُبُوا شعرهم على أساسها، أو أن يقرأوا “ألْفِية ابن مالك”، فإنه على الأقل يسألهم الرأفة بأنفسهم لمّا يدور الْحَدِيْث عن أوزان الشعر. فهذه في المثال الشِّعْرِيّ الْعَرَبِيّ القديم ليست مجرد تقْنِيَاتٍ فَنِّيَّةٍ، وإنما هي أَنْفَاسُ عُصُورٍ وإيقاعاتُ أَزْمِنَةٍ. وفي زماننا الْحَدِيْث، هي تقنية يمكن التَّعَامُلُ مَعَهَا في صيغتها المخففة عبر تجربة “قَصِيْدَة التَّفْعِيلةِ”، وذلك، على الأقل، لاستكشاف البِنَى الإيْقَاعِيَّة والمصادر النَّغَمِيَّة للإيقاع في هذه الْقَصِيدة، على سبيل الارتقاء في عملية تذوقها، وفي معرفة صنعة الشِّعْر على حَدٍّ سواء.

الشعر نهر ولآلئه أسماك هاربة. وهو بحر وأصداف ولآلئ. فلا صيد ولا فوز بلؤلؤة من دون ذائقة هذبتها دربة القراءة، واستعداد للانفتاح على التجارب الشعرية في تعدد مرجعياتها واختلافها الفني، وقارئ مغامر.

 

في كانون الثاني/يناير  2023

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.