الشاعر محمد عبدالحي وذاكرة الهوية

الجمعة 2021/10/01
لوحة: عماد عبدالله

أعوام انقضت منذ أن رحل مبكراً الشاعر السوداني الفذَّ محمد عبدالحي (1944 – 1989) الذي لم يكن شاعراً في سياق الاستثناء الإبداعي (شاعرا) وحسب بل كان في السياق المعرفي والفكري والعلمي أستاذاً جامعيا وباحثاً ومترجما وناقدا. وكان من الشعراء القلائل ممن يوصفون بالعبقرية، بتلك الملكة وطاقتها الإنتاجية الهائلة التي أشاعت وهجاً على امتداد سؤال الشعر والإبداع منذ منتصف الستينات على أسس ومعالجات شعرية جديدة متعددة الروافد. فقد كشف من خلال رؤيته الشعرية لا الخطاب السياسي عن سؤال الهوية وجدل التكوِّين في حده التاريخي الحرج في وطن لم تزل تستعر فيه هويات قلقة لا تكتفي بمشروعية السؤال وحده بل قد يحملها السؤال على حمل السلاح أي “هويات متقاتلة” على وصف المفكر اللبناني أمين معلوف (1949-). ويأتي سؤال الهوية ويرتبط في شعره لا عند حدود طبقات أوزان أشعاره ولزومياته ثرية الإيقاع. ولكن السؤال “النقدي” يبدأ وينتهي بمدى ما أثارته وتثيره تجربة الشاعر وقصيدته – ديوانه – المفارقة “العودة إلى سنار” وما ارتبط بها من تيار مدرسة “الغابة والصحراء”. وهما اتجاهان “الشاعر والمدرسة” شكَّلا جلبة في حوارات الستينات داخل حرم جامعة الخرطوم وخارج محيطها؛ إنها ذلك الاتجاه الذي سيعرف لاحقاً في دائرة المشهد الثقافي التاريخي بمدرسة الغابة والصحراء تلك المحاولة المستلهمة من جغرافيا لا يقف وصفها على المسح الطبوغرافي في موازناته الطبيعية عند حدود التباين المناخي والثقافي و”الهوياتي” بل أقرب تطابقاً بأن توصف بالجغرافيا المُنْهِكَة في وصف أستاذ اللغويات والناقد البروفسور أحمد الصادق برير وأحد أبرز الباحثين في تجربة الشاعر بحثاً وتقديما وترجمة لأعماله.

للشاعر محمد عبدالحي في سيرته الذاتية المبثوثة على نطاق واسعٍ وتلك التي تناولت أعماله بالدراسة والتحليل، شخصية تخرج كما أعماله بتميز لا تخطئه عين فاحصة، تميز ترافقه العبقرية. وطالما تعلق الأمر بالعبقرية والتي في جانب من تعريفها “تميز الشخصية بقدرات ذهنية استثنائية”. ولأن عبقرية شاعرنا تتسع لكل مترادفات العربية وصفاً وألقاباً مستحقة معجميا بحق شاعر فذ وفحل وفطحل لا يقارع، وإن لم تلصق به ألقاب كتلك التي صاحبت الشعراء قديما وحديثا. ثُم إن عبقريته لم تتوقف على حدود قرظ الشعر، بل تعدتها الى آفاق معرفية أخرى. ولم يُوظف عبقريته الشعرية بوصفه أيديولوجيا ناجزة تصبغ وتعيد تسمية الأشياء على سمتها المحدود. ولكن كانت تجربة إنسانية وانبثاقا وجدانيا محفزا في معالجاته الكبرى على النهوض كما جرى في مسار الأمم وتطورها التاريخي. فارتباط الشاعر بالهوية أو بالـ”القضية” أي رمزاً للهوية متجسدة شعراً لا ينتقص من مكانته الشعرية مثلما هو الحال لدى الشاعر الفلسطيني محمود دوريش (1941 – 2008) الذي حمل شعره تجسيداً قومياً القضية الفلسطينية أو الجرح الفلسطيني والشاعر الأيرلندي ويليام بتلر ييتس (1865 – 1939) للقضية الأيرلندية فعرف كشاعر أيرلندا القومي. وغيرهما من شعراء آثروا بملكتهم الشعرية رؤية المحنة الإنسانية من خلال الشعر وعوالمه انتماءً.

والمحتوى الشعري وبيانه اللغوي في المعالجة الموضوعية أو الموازنة اللغوية وتعبيراتها الرمزية، أو ما يعرف بمعالجة قضايا موضوعات الشعر فبحسب التعاطي النقدي الكلاسيكي بالشعر وقضاياه، وربما إلى حدود ما يفهم من غاية الشعر وفلسفته في منحى نقدي آخر يستسيغ تناولها شعرا. والعلاقة بين موضوعات الشعر المتداخلة تقود عادة إلى التساؤل والبحث عن جذور تكوينية (مؤثرات) ليست حصراً على اللغة منتجة الشعر وإنما إلى ما يمكن استيعابه في قراءة العوامل التأريخية وشروطها الاجتماعية والسياسية. وهو ما لا يمكن فصله عن عبقرية تحيط بالشاعر سليقة في تُراث العربية وشعرها الذي يمثل ديوانها الأكبر حين يكون الشاعر حصراً مستقلا بذاته بصنعة لا تكتسب أو الشاعر يولد شاعراً ولا يصنع (A Poet is born, not made) في ثقافات أخرى تعرف كغيرها الشعر كتجربة إنسانية مشتركة لها دواعيها الوجودية والوجدانية. ولكن ما تجلى في شعرية (Poeticism) عبدالحي في خضم تفاعلات اتجاهات شعرية حادَّة قامت بتقويض بنية المنظومة الشعرية العربية بين الرسم العمودي وحداثة التفعيلة إلى مطلق قصيدة النثر؛ فتجلت عبقرية الشاعر ومن ثَّم تقوَّت بتفوق أكاديمي عبّرت عنه أطروحاته البحثية المنجزة في عمر العبقرية بحسبان أن العبقرية لا تأتي متأخرة! في أطروحته العلمية عن الشاعر الإنجليزي أدوين موير (1887 – 1959) التي يعدها الناقد أحمد صادق أول ملامح المشروع النقدي. فإذا كان إنجازه الشعري المبتدع لا يقل حضوراً عن إنجازه الفكري الإبداعي المتميز ومن ثم تتصل فكرة مدرسته الغابة والصحراء كفكرة منبثقة عن تفاعل وجداني وفكري عميق تجذرت مرجعياته في الأدبين العربي والإنكليزي والأهم الجدارة الموثوقة في الخلق والابتكار. والشعر يقاوم من داخل التاريخ باعتباره استقصاءً للحدث وترميزا له تاريخيا، فهو يستدعي ذاكرة يغذيها ما احتشدت به قصيدته (العودة إلى سنار) من صور تأريخية وفولكلورية متفحصة بصورة بصرية جلية:

وكانت الغابة والصحراءْ

امرأةً عاريةً تنامْ

على سرير البرقِ في انتظارِ

ثورها الإلهي الذي يزور في الظلامْ.

وكان أفق الوجه والقناع شكلاً واحداً.

يزهر في سلطنة البراءة

وحمأ البداءة.

على حدودِ النورِ والظلمةِ بين الصحوِ والمنامْ.

غابة وصحراء

وكما سبق القول، فإن الغابة والصحراء تلك الصفة الثنائية “غابة وصحراء” التي لازمت اتجاهاً شعرياً برَّز في الشعر السوداني على بنية تصورات وأفكار مجموعة جلها الشعراء محمد المكي إبراهيم (1939 -) النور عثمان أبكر (1938 – 2009) وكلاهما من أفذاذ شعراء السودان وشاعرنا الذي سترتبط به على المستوى الشخصي والشعري خاصة أن قصيدة- ديوان “العودة إلى سنار” انتهت الى تعريف جامع بذلك الاتجاه؛ فلا تُعَّرف تلك المدرسة الشعرية إلا به وكل ما يمثل مداراتها وتحيزاتها وانتماءاتها الفكرية. وكسائر الاتجاهات التأسيسية لمن هم في حداثة التجربة لم تكن مدرسة الغابة والصحراء تياراً يمكن أن ينظِّر له أو يُقيم وفقاً لقواعد نقدية تفيد في نظرية تاريخ الأدب! وظلت اتجاهاً كثيف الزخم والحضور ولكن بتأثير خفيض ينسب إلى جماعة شعرية أكثر منه اتجاهاً تأسيساً في الشعر سواء على مستوى التاريخ النقدي الأدبي أو الظاهرة الأدبية. وانتهت ربما إلى محطة تاريخية في مسيرة الشعر السوداني كما كتب أحد مؤسسيها الشاعر محمد المكي “في ذكرى الغابة والصحراء”. وتدخل في هذا الكثير من التيارات الفنية (المدارس) في الرسم والتشكيل ومجموعات الغناء وغيرها من محاولات ابتغت التأسيس والانطلاق من بنية علمية بالتنظيم الجماعي في الأداء. فالحدود التي رسمها أو حددها هذا التيار الشعري لنزوع أفريقي عربي وما واجه من ربما حملات مضادة إذا جاز التعبير تكشف عن التحرك العنيف الذي أحدثته هذه المجموعة. وما يجدر ملاحظته أن هذه الجماعة قامت على أسس تأصيلية مبتدعة بنزعها نحو الإجابة – بحسب رؤيتها – عن أعقد قضايا البلاد حول جدل الهوية. ولم تكن تقليداً شعرياً لمدارس مجاورة مع اختلاف الظرف التاريخي كـ”مدرسة أبولو” أو جماعة “الديوان” في بدايات القرن العشرين في العالم العربي. فإذا كان تأسيسها انبنى على رد فعل شعوري مضاد على نحو ما فسره مؤسسوها إلا أن هذا الحسّ اللحظي كوَّن رؤية أراد لها أصحابها ترجمتها على الواقع الشعري والفكري في واقع شعري اتسم بحسب الناقد محمد إبراهيم الشوش (1932 -) بعزلة دفعت إلى ظهور تقاليد دينية واجتماعية ولغوية خاصة به، منفصلة عن غيرها من التيارات الأخرى التي شملت العالم العربي بعد النهضة الحديثة.

شعر الهوية وهوية الشعر

لوحة: كمال علي الطيب
لوحة: كمال علي الطيب

مثلت قصيدة “العودة إلى سنار” التي نشرها الشاعر في منتصف الستينيات بصحيفة الرأي العام السودانية 1966، رمزية التمازج الإثني كيميائيته الأنثروبولوجية والتاريخية بين مكونات أنتجت في الوسط ما شكل هوية هجينا وثقافة قومية سائدة في بلد تتعدَّد فيها كافة مكونات الاجتماع البشري والعمراني على مفهوم ابن خلدون التاريخي، فقد سبقت إليها دعوات عدة على اعتبار سنار “بوتقة الانصهار” (Melting Pot) نقطة البداية التي تم بعثها وتشديد الانتماء إليها وتبني نموذجها المفترض مثلما طالب غداة الاستقلال المفكر الراحل جمال محمد أحمد (1915 – 1986) بإطلاق اسمها على الدولة الوليدة بدلا عن السودان! وسنار كذاكرة جمعية رمزية كثيفة الدلالة ومتحركة ومتحولة عن إحساس بتاريخ مفقود وإن شكَّلت معنى قيمياً يرتاده الشعر بما يمثل المعنى بالمفهوم الشعري في شرحه ودوره في الشعر ومفاهيمه البلاغية في الشعر على قول الناقد الرائد جعفر بن قدامة (889 – 948) إن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم بها فيما أحب وآثر من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه. والمعاني ربما تحولت من نمطها البلاغي القديم إلى معاني اتسعت دلالاتها في القراءة الشعرية بما يتجلى في مخيلة الشاعر عطفاً على تفسير وقائع وأحداث وبنفس المعنى النقدي القديم (موضوعات الشعر).

وأيا يكن موقع تلك مدرسة الغابة والصحراء، ورؤياها في التصَّور ومدى مطابقته لتجربة شاعر أو شعراء في بواكير مرحلتهم الشعرية إلا أنها أثارت من السؤال أكثر من الإجابة بحثاً عن صيغ من واقع مركب لا يًلزم الشعر فيه بالإجابة. وإن تكن قصيدته “العودة إلى سنار” تدشيناً مثيراً على تيارٍ شعري اقتصر جماع الخطاب الوطن وشعبه وذاكرته، ففي تلك القصيدة التي حملها تساؤلات مباشرة تكشف لا عن جدارة السؤال بقدر استبطانها للسؤال في مشروعيته القصوى في مقطعها الثاني “النشيد الثاني”:

افتحوا أبواب المدينة

بدوي أنتَ؟ لا

من بلاد الزَنج؟ …لا

أنا منكم. تائه عاد يغنِي بلسان

ويصلَي بلسان

من بحار نائيات

لم تنر في صمتها الأخضر أحلام الموانئ.

ليس للشعر تفسير بغير دلالات المعاني وليكن التساؤل محورا تدور حول صياغته تراكيب الشعر ووحي الكلمات ورمزية المفردات. فإذا كان عالم الشعر ومن أين يجتمع للشاعر جماع الرؤية أو كما رؤية عالم النفس الأشهر سيغموند فرويد في قوله (1856 – 1939) إذ أن الشعراء يفضلون تقصير المسافة الفاصلة بين طبيعتهم الذَّاتية وجوهر الإنسان عموما. وتبقى قصيدة “العودة إلى سنار” ملحمة نمطية في سؤال الهوية استحوذت على ما عداها من قصائد لرواد هذا الاتجاه المستجد في سوح المنافسة الشعرية ومحاولة شعرية جهِدت في تقصير تلك المسافة المبتغاة.

وبالمقاربة النقدية (Critical Approach) كمدخل لقراء قصيدة “العودة إلى سنار” للبحث عن تصور للهوية كما جلتها القصيدة لم يكن اختياراً فرضته طبيعة العمل الشعري وما يستدعيه ويفرضه من أطر منهجية في البحث والتحليل النقدي؛ ولكن وإن لم يختلف البحث عبر تباين أدوات التحليل أو الشرح عن مقاربة تلامس الإطار الشعري العام للقصيدة ومن ثَّم أمكن باستخدام تلك الأدوات تفكيك عوالمها. ومن هنا تعددت قراءات القصيدة ربما مستويات فهمها؛ ومن هنا جاء التفاوت في درجة قياسها من رمزية مغرقة في الغموض إلى دراما مسرحية تتبدل فيها الصور الشعرية المستعارة من التاريخ والأسطورة إلى قراءة أسس ارتجاعية (Retroactive) لمنحنيات التاريخ كما يفترض أن يتأوله الشعر. وهذه القصيدة الطويلة الغنية بالصور برأي الناقدة سلمي خضراء الجيوسي (1926 -) من القصائد التي تستخدم الأسطورة التي تميل بشكل خاص إلى استعمال الصور الطويلة العريضة التي يدعمها دائماً كثير من الاستعارات القصيرة والرموز والتشبيهات أحيانا. واستعمال الرموز يشجع كذلك على إبداع صور تستمر وتطول، لأن الرموز تمنح ثروة غنية من الترابطات والعلائق تغني الصورة العامة وتعطيها القدرة على الاستمرارية. وإن أطبقنا هذا التصور النقدي على قصيدة “العودة إلى سنار” سنجد ثمة تفسيرا آخرا لا يرتبط بالضرورة بنقد الشعر، وإن قاربه في عمومتيه الأدبية وذلك بتأثير من آراء عالم الأنثروبولوجيا البريطاني توماس فرايز (1854 – 1941) في كتابه الذائع الصيت “الغصن الذهبي” وأثره بالتالي على طبيعة التوظيف الأسطوري في الشعر العربي في أن الأسطورة لا تنزاح عن الذاكرة الموروثة للشعوب.

وإذا اعتبرنا “الهَوِيَّة” تغطي عدداً من الأنماط اللغوية والثقافية والاجتماعية وذلك بوظائفها المختلفة وتحيط بها حزمة من التعريفات المعجمية والاصطلاحية لا تغني عن التعريفات المفاهيمية ببنيتها النظرية وتمثيلها داخل البنيات المتفرعة عنها ومتداخلة في تشعبها المفاهيمي والنظري؛ ويكون المبحث النقدي النظري وتطوره في مدار البحث النقدي وتطبيقاته على الشعر بما هي نصوص منتجة لعناصرها عاملاً مساعداً في إجلاء المفهوم. وهوية الشعر تفسر ما بداخل الشعر من مستوى من القول وتعكس بالتالي – معالجة – قضية الهوية كغيرها من محمولات مكثفة الدلالات مما يصيغه القول الشعري.

وتناص الخطابات الشعرية والتاريخية وخبرة الشاعر في تفكيك عناصر الهوية بدمجها شعريا وإزاحة ظلال المعاني بالمفهوم اللغوي (Linguistic) وإيضاح المعنى لرؤية الهوية شعريا بحجمها وانفعالها الحقيقي، وفي علاقاتها ونسب تراتيب هذه العلاقات في حركة قصيدة “العودة إلى سنار”. ومما شكل رؤية هذه الهوية أيضا بهذا الوضوح التماثل بين الهوية والإيقاع الشعري. وكما التاريخ كعلم له خصائصه المتعدَّدة والمتصلة بالمقاربات المعرفية في التي منحته أبعاده الإنسانية وسياقات إبستمولوجية شكلتها علوم الأنثروبولوجيا والجغرافيا والأركيولوجيا (الآثاري) والثقافة المادية استيثاقا للأثر التاريخي؛ انفعلت القصيدة بهذه الحقول وإن اختلفت أدواتها في التعبير والبيان، وبل أحياناً تطرح بتعبير جريء بإضافة عنصر الشخصية الإنسانية دون جمود الحقيقة العلمية المجردة. هذا الثقل التاريخي والمعرفي شكَّل بما يمكن أن يطلق عليها “هوية القصيدة” مما ألزم الشاعر بأن يستندَّ في القصيدة إلى عمق معرفته وإحاطته بما تثيره أحداث الشعر. فالاقتباسات أو التناقضات ذَّات صلة ممتدة بالهوية الشعرية ورمزيتها وما يقتضيه الشعر من انفعال بالأحداث ليس بالضرورة أن تؤطرها خطاب الحاضر.

وتمدَّدت رؤية عبدالحي في مفهوم الهوية وتجلياتها خارج بحور الشعر وتفعيلاته نحو تأصيل فكري ربما ملازمة في دراسة له بالإنكليزية (Conflict & Identity) صدرت من دار النشر بجامعة الخرطوم حددَّ فيها من خلال تتبعه للثقافة الشعرية للشعر السوداني المعاصر وهو الباحث المختصًّ في مجال الدراسات الأدبية، وفيها يشير إلى أن على كثرة ما جاءت الاهتمامات في سياق الدراسات والاهتمامات بالثقافات السودانية في حقل العلوم الإنسانية اللغوية والسياسية والاجتماعية إلا أن هنالك غيابا ملحوظا للنظرة الأدبية ودور الشعر كعامل في صناعة هوية قومية.

ونخلص إلى القول بأن القصيدة انبثقت عن وعي متجذر بخصوصية ثقافية وتمكنت من فك رموزها الصورية على ما جرى من تعميم في سياق تحليل الخطاب الشعري بمقتضى أن الشعر هو التصوير؛ أو نظيره على القول المأثور للشاعر والناقد الروماني هوراس أو نمطا تصويرياً لفن المحاكاة التقليدية في نظرية أرسطو في فن الشعر. وغني عن القول قصيدة (ديوان) “العودة إلى سنار” لم تكن يتيمة دهر قصيد شاعرنا ولكن لما أحدثته من هزًّة عنيفة على مستوى ذاكرة التاريخ مضافاً إليها جيدا حذاقة الشاعر في تراكبيها المصاغة من عمق أنثروبولوجيا التاريخ أدى بأن تطغى كصوتٍ أوحد لشعر الشاعر الذي لم يتوقف عن الشعر. فمن بين دائرة مقروئية لأعمال الشاعر فقد حظيت – ولم تزل تحظى – باهتمام بالغ كمشروع للشاعر وعلاقته بالعالم المرجعي واللغة التي ستكون رهينة بما خاضته تجربة الشاعر في بنية تصوراته الشعرية وفق أداء شعري متفرد محكوما بمكونات الشعر في أعلى طبقاته التعبيرية. فقد اتصلت حياته منجزة ومنتجة شعراً في دواوينه “أقنعة القبيل، أقنعة القبيلة” وفيض دراساته النقدية المحكمة في شعر الشاعر العراقي بدر شاكر السياب (1926 – 1964) والشاعر اللبناني خليل حاوي (1919 – 1989) وديوانه “بيادر الجوع”، ودراساته النقدية عن الناقد السوداني معاوية نور (1909 – 1941). وكثيراً مما كتبه بهمة الأكاديمي النشط وحساسية المبدع. ومن بعد، فإن الشاعر محمد عبدالحي جدّد بسؤال الشعر وأضاء عبر القصيدة الملحمة مسارب أكدت على قدرة الشاعر الفذَّة في ارتياد آفاق تقصر عنها كل محاولات التعبير دون أدوات كالتي استخدمها شاعرنا مستودعا هويتنا ذاكرة أشعاره وفتوحاته المعرفية الرحبة.

 

*************************

إشارات مرجعية:

            • ديوان العودة إلى سنار.

            • جعفر ابن قدامة، نقد الشعر.

            • محمد إبراهيم الشوش، الشعر الحديث في السودان.

            • عبد المنعم عجب الفيا، أوراق في الثقافة السودانية.

            • أحمد صادق برير، مقدمة كتاب الشاعر: “التراث والتأثير الخارجي في ثقافة الرومانتيكيين العرب”

            • سلمى الخضراء الجيوسي، الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث.

            • ناصر السيد، قراءات في النقد والرواية

            • سغموند فرويد، الغريزة والثقافة

            • Muhammed Abdul-Hai, Conflict & Identity

            • The Oxford Dictionary of Pragmatics

            • The Norton Anthology of Theory and Criticism

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.