الشخصية في السرد غير الواقعي

الخميس 2022/12/01
لوحة: سناء أتاسي

منذ القدم والقصُّ بالنسبة إلى الإنسان حاجة ضرورية ووسيلة للتسلية والتسرية، بها يجمع أفراد أسرته ويعلل ما يراه غريباً ويسمّي الأشياء بأسمائها أو يستعير لها مسمّى آخر بشفاهية وبفاعلية تخييلية تنبثق بتلقائية، فيها كم من السحر وكم من الواقع. وبسبب هذا التلازم بين الإنسان والقص تنوعت طرائق الحكي ولم تستقر على صيغ معينة، بعكس الشعر الذي أرسى قواعده قبل عصر الكتابة ثم تعززت تقاليده أكثر مع معرفة الإنسان لها، فدُوّنت الكثير من القصائد وظل أغلب القصص يُروى عن ظهر قلب كأساطير وخرافات وأمثال وأغاني أطفال وما شاكل ذلك مما ظلت الذاكرة هي وسيلة حفظه وتناقله من جيل إلى جيل. ولا يُعدم وجود تقاليد للقص لكن أسسها ترسخت كأجناس محددة في مرحلة بعيدة عن مرحلة إرساء تقاليد الشعر، ولهذا صار الاعتقاد أن السرد تال للشعر أو أن أجناس السرد حديثة النشأة بالنسبة إلى أجناس الشعر.

وخير دليل على ذلك أنّ ملاحم السومريين والإغريق بُنيت على ما وصل إليهم من قصص أسطورية وحكايات خرافية تعود إلى عصور شفاهية سبقتهم لم تُعرف فيها الكتابة بعد. أما العرب فقد امتلكوا مخزوناً ثرّاً من الحكايات الخرافية عن الغول والسعلاة والجن، وبعضها تضمنته المعلقات وعزز القص القرآني بعضها الآخر فدُوّن مع ما تم تدوينه من سير الأنبياء وأخبار الأمم والملوك والأمثال والأحاجي والنوادر والأخبار فضلا عمّا أدته قصص ألف ليلة من أثر في القصص الشعبية التي ظلت شفاهية باستثناء قصص معدودة.

وعرفت أوروبا في العصور الوسطى الرومانس وهي حكايات قصيرة تشوبها المغامرات والخيال كقصص الساحرات والعشاق والشطار والرعاة ثم تطورت في عصر النهضة وما تلاها فُعرفت القصة الطويلة ثم الرواية القوطية والرواية الفكتورية ومعها تخفف البعد الخيالي وتطور البعد الواقعي وتعزز أكثر.

وخلال هذه المراحل الطويلة من تطور السرد الأدبي كانت الشخصية هي الأساس في الحكي وهي المقصد في صورتين: صورة آدمية هي غالباً ما تكون رجلاً سمته البطولة والاستبسال، وصورة غير آدمية هي غالباً ما تكون خرافية ذات قدرات غير معقولة وخارقة وسحرية تفوق التصور ولا تماثل أيّ شيء في العالم الواقعي.

وإذا كانت الصورة الأولى لبطل خارق وصنديد غير متحققة بشكل تام على أرض الواقع لكن لها أساسا يسمح بالبناء على خلفية ما هو موجود بالفعل، فإن الصورة الثانية لكائن خرافي هي غير متحققة واقعيا أي أن لا أساس تُبنى عليه خرافيتها؛ فمن أين إذن أتى بها القاص البدائي؟ وكيف حاكى في وعيه ما لم يره ولا سمع عنه أو خبر بعض أسراره؟

يذهب جيل دلوز إلى أن الحدس هو أبسط أنواع التفكير ويقوم على الاستشراف التلقائي حيث الأساس بلا أس، بمعنى أنه عدمي وافتراضي يصدر في شكل مشوش من اللامعنى، وعدَّ (الافتراضي هو أساس الفعلي.. هذا ما يسمّيه دلوز منطق الدورة المزدوجة) (دلوز صخب الكينونة، آلان باديو، ترجمة ناجي العونلي – بيروت: منشورات الجمل، ط1، 2018، ص72) وليس شرطاً في المعيش الانتماء إلى واقع ممكن، وهذا (الممكن) هو مقولة من المقولات الأفلاطونية التي تفترض أن لأي شيء بعينه كوناً سابقاً وكائناً واقعاً وكوناً لاحقاً. وهذا ما يجعل التخييل متحركاً برحابة ما بين ثلاثة أكوان يحاكيها؛ أولها الكون الواقع وثانيها الكون المتخيل وثالثها الكون اللامتحقق.

ويدور السرد غير الواقعي في الكونين الثاني والثالث، فجلجامش في الواقع هو ملك لكن التخييل أضفى على واقعه سمات خرافية ليكون البطل الخارق الذي لا نظير له يغلبه. وما دام التخييل يتحرك في أرضية الواقع فليس للممكن أن يكون غير ممكن لكن يمكن لغير الممكن واللامعقول أن يكون ممكناً ومعقولاً. وهو ما عرفه الإنسان في عصور ما قبل الكتابة، فتخيل مخلوقات لا أساس واقعيا لها كالآلهة والشياطين والعمالقة أو لها أساس واقعي كالحيوانات والطيور فأضفى هو عليها أعضاء جسدية ليست لها أو منحها طاقات غير طبيعية.

فأما المخلوقات من النوع الأول فإن الإنسان استلهمه من لاوعيه التباسا بالطبيعة وما فيها من طيور وحيوانات وجبال وبحار وغابات، كان قد ترك جمالها وغموضها وقوتها في لاوعيه الباطني انبهارا أو رهبة أو استفزازا، فحاكى ما لم يره وما لا واقع له. وأما المخلوقات من النوع الثاني فإن الإنسان استلهمه من وعيه لواقعه، فحاكى ما يرى ويسمع.

وبهذا الاتساع في التخييل صار قانون الاحتمال الأرسطي شاملاً السردين الواقعي وغير الواقعي، فالإنسان يُحاكي ما سيكون أو ما هو كائن أو ما كان.. ولكن هل يعني هذا الشمول أن الطاقة التخييلية التي يحتاجها القاص في صنع صورة مستقبلية لما ينبغي أن يكون هي أكبر من الطاقة التي يحتاجها القاص في تخيّل ما هو موجود فعلاً أو ما كان موجوداً من قبل؟

لا شك في أن الطاقة التخييلية مطابقة ـ كانت أو مخالفة ـ هي واحدة وتتباين بحسب قدرات العقل وإمكانياته في إعادة محاكاة ما يريد تصويره. وكلما أطلق القاص العنان للاوعيه وتخلّص من هيمنة العقل عليه كانت طاقته التخييلية أكثر رحابةً واتساعاً بعكس ذاك الذي يحكي وهو يحتكم إلى عقله ويسير على وفق بديهياته ومقتضياته.

والاقتناع بالشخصية القصصية في السرد غير الواقعي لا يحتاج تحكيماً للعقل بقدر ما يحتاج تخييلاً يقوم على نظام منطقي وترتيب سببي، يحقق الوحدة العضوية التي هي شرط لأي سرد ولا أهمية بعد ذلك لأن تكون الشخصية حقيقية أو غير حقيقية.

وهذه المعادلة التخييلية التي طرفاها قانون الاحتمال والوحدة العضوية يحاول منظرو علم السرد ما بعد الكلاسيكي ـ مثل ديفيد هيرمان وجيمس فيلان وبيتر رابينوفيتز وبراين ريتشاردسون وروبين وارهول وهنريك سكوف نيلسون ـ نقضها أو تفكيكها من خلال احتكامهم إلى العقل الذي وسيلته البرهنة والتفكير في الفاعلية السردية غير مستندين إلى المنطق الذي وسيلته الإقناع والاستدلال في البحث عن ميكانيزمات تعالق العقل بالسرد وفحص الأحداث القصصية على وفق فروض عقلانية من أجل إدراك اللاعقلاني المزيف والخادع والمستحيل من المشاهد والسيناريوهات، معتمدين في الفحص والتدقيق طرائق معينة، تنبذ فاعلية التخييل كنتاج باطني لاإرادي يحاكي التجارب الواقعية المؤلمة أو الغريبة جاعلاً غير الممكن ممكناً.

إن الإشكالية في واقعية السرد ولا واقعيته ليست جديدة ففي القرن الثامن عشر استهوت الفلسفة كتّاب الأدب والنقاد المنظرين له من ناحية اهتمامهم بالواقعية ومناداتهم بأن الأشياء لها وجود حقيقي خارج العقل المدرك. واستمر الواقعيون النقديون يشيرون إلى وجود خارجي مادي مستقل عن العقل (ينظر: الواقعية موسوعة المصطلح النقدي، ديمين كرانت، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، بغداد: دار الحرية للطباعة، ط1، 1980 ص14 ـ 15)، وكأن العالم مفصول عن الوعي، والجسد مفصول عن الروح والشكل عن المضمون. وهو ما رفضه الظاهراتيون مركّزين على فعل اللغة وجدلية العلاقة بين الذات والعالم. وظلت الانتقادات توجه للواقعيين النقديين والطبيعيين والاشتراكيين لما لديهم من إفراط وتفريط في فهم معنى الواقعية؛ أهي الواقع Real أم هي الحقيقة Truth؟

وإذا نظرنا في العملية السردية واعتبرنا أنّ الفعل المنطقي هو المتغلغل فيها وليس الفعل العقلاني، فإن الشخصية ستكون هي العنصر الأكثر خضوعا لهذا الافتراض. وليس المهم فيها حقيقيّتها بل منطقية أدائها لأدوار البطولة، قائمة بما ينبغي عليها أن تقوم به.

ولقد حللَّ منظرو السرد غير الطبيعي كيفيات بناء الشخصية غير الواقعية في قصص وروايات مختلفة، باحثين عمّا هو غير طبيعي فيها، وهل تكون أدوارها واقعية حقيقة أم أنها خيالية؟ وهل يصح أن يكون السارد واقعيا والمسرود غير واقعي؟ وأي رغبة هي الحاضرة: رغبة المسرود الذي يتمنى أم رغبة السارد الذي لا يتمنى؟

وجد جان ألبر أن الحلم تقانة تسمح للسارد أن يقص ما يشاء من أقوال وأفعال، فلا ضرورة تقيّده كما لا افتراضات معرفية سابقة تتحدد بها شخصياته، ومثاله التحليلي قصة كافكا (الرغبة في أن تصبح هنديًا أحمر Wish to Become a Red Indian)، وفيها السارد يتحدث عن شخصية تحلم أن تكون شخصًا آخر.. ولكننا نرى أن اتخاذ الحلم وسيلة لجعل المسرود غير واقعي ليس جديداً ولا هو الوحيد فهناك الكثير من الوسائل التي تتيحها تقانات السرد تعطي للسارد إمكانيات تسمح له أن يتحدى القارئ؛ منها ترك فراغات وثغرات في أفعال مسروداته، مفترضاً في القارئ قدرة على ملئها. وملؤها يعني أن عملية القراءة تجري بانسيابية وبلا مطبات تخلخل بناءها وتعيق تقدمها.

وكلما كانت الفراغات موضوعة بطريقة منطقية في بناء المسرودات غير الواقعية، كانت أكثر استفزازا لوعي القارئ دافعة إياه إلى أن يكون مفسراً ومؤولاً. أما إذا لم يملك القدرة على التأويل فإن السرد بالنسبة إليه سيكون معتاداً وسيتلقاه كأيّ سرد واقعي.

وقد تكون هذه المفارقة غريبة بين القدم في توظيف الشخصية غير الواقعية في السرد وحداثة توظيفها باستعمال الفراغات ولكن المهم هو تطوير دور القارئ سواء بالارتكان إلى العقل في فهم السرد وإدراك عقلانية مسروداته أو بالارتكان إلى التخييل في جعل غير الواقعي واقعياً.

وقد تفضي العقلانية إلى الارتياب الذي يدفع باتجاه اختبار العمليات الجسدية والإدراكية النفسية والعصبية التي تمر بها الشخصيات وما يرافق تجاربها مع العالم وتواصلها مع الآخرين من كيفيات اتصال لغوية ورموز دلالية وأنماط تفكير، تعكس وجهة نظر الشخصية. وبهذا الفهم الإدراكي يكون إنتاج السرد قد اكتمل بالقارئ الذي يتبنى ـ بعقل متدبر لا يعرف انبهاراً آنياً ولا تصديقاً نهائياً ـ وجهة نظر الشخصية التي تلائم توجهاته مقتنعاً بأفعالها وأقوالها.

لوحة: سناء أتاسي
لوحة: سناء أتاسي

ومن القصص التي فيها نجد شخصيات تحفِّز القارئ على التفاعل والتدبر قصة (الأنف) لجوجول. وبطلها الأنف كواحد من المسرودات غير الواقعية التي عليها تراهن أطروحة السرد غير الطبيعي، من ناحية التفسير العقلاني الذي به تُفهم الآلية التي على وفقها تمارس شخصية الأنف أفعالها غير الممكنة ولا المعقولة كعضو جسدي يتكلم ويتحرك ويتنقل، منفصلا عن وجه صاحبه.

والتفسير العقلاني يبقى رهناً بالقارئ الذي عليه أن يقتنع بما صنعه السارد الموضوعي، وما أدته الشخصية من فعل ليمارس هو بدوره إدراك واقعية ما هو متضاد مع الطبيعة، معللا سبب قيام الأنف بدور يستحيل عليه القيام به في الواقع وتدحض صدقه كل بديهيات العلم وقوانين الفسيولوجيا الإحيائية. وعلى الرغم من ذلك فإن الشك في دور الأنف كمسرود بطل لن يطال القارئ قيد أنملة، لأنه يقرأ القصة وهو مدرك أن هناك فراغات عليه أن يملأها.

ومنطقية الحبكة هي التي تجعله يدرك أن ما نَسَجَه السارد من أحداث غير معقولة هو أمر مسوّغ ومقبول على وفق كيفيات بها يغدو ما هو غير عقلاني عقلانياً جداً.

واتبع جوجول في محاكاة (الأنف) للفعل الإنساني منطق التسبيب الذي يجعل القارئ غير منفك من التسليم للسارد، متابعاً رحلة الأنف شخصاً متكلماً يجادل صاحبه الرائد كوفاليوف وماشياً يَظهر ويَختفي. وإذا ما تقدم القارئ في القصة، فسيجد نفسه مأخوذا أكثر بأفعال الأنف التي تغدو أشد إدهاشا، وتتعقد الحبكة أكثر حين يدخل الأنف إلى الكاتدرائية لابسا بدلة عسكرية و(يصلي، وتعبير خشوع عميق باد عليه..) (الأنف، جوجول، ترجمة عبد الواحد اليحياني، 2013 ، ص86) وحين تقع عينا كوفاليوف عليه يسعل كي ينبّه أنفه إليه كأنه أمام إنسان آدمي وتدور بينهما محاورة واقعية، قال الأنف: “يا سيدي العزيز ماذا تريد” فأجابه كوفاليوف: “إني رائد ولي رتبتي ومن غير المناسب أن أتجول بلا أنف، فردَّ الأنف: أرجوك ادخل في صميم الموضوع، فأجاب كوفاليوف: ألا تدرك بأنك أنفي أنا” (ص 87).

واللاواقعية في القصة مبعثها منظور كوفاليوف لأنفه، مقتنعاً أن له القدرة على القيام بالأفعال الآدمية. الأمر الذي يتطلب من القارئ تفاعلا ليس المقصود منه الاستدلال العقلي وإنما الفهم الإدراكي لمنطقية الأفعال التي قام بها الأنف والطريقة التي يحاول بها أن يهين عجرفة صاحبه الرائد كوفاليوف، بدءاً من الأسباب التي حملت كوفاليوف على التفكير بنشر إعلان في الجريدة عن اختفاء أنفه، وضّح فيه تفاصيل الأنف وأن على من يجده أن يسلِّمه حالاً إلى كوفاليوف ومرورا برفض الجريدة نشر الإعلان تخوفاً من رمزية ما يعكسه الإعلان عن شخص هو أنف من استهزاء بأحد معين “لو بدأ كل واحد يعلن عن أنفه الهارب فكيف سينتهي بنا المطاف” (ص 95).

وما أن تتأزم حبكة القصة حتى تظهر شخصية الشرطي الذي كان قد ظهر في أول القصة بشكل عابر لكنه هنا سيكون له دور فاعل بعد أن ألقى القبض على الأنف الهارب، وعرف أن الفاعل هو الحلاق يعقوبلفيتش الذي رمى الأنف في النهر. فهل يحل أمر القبض مشكلة كوفاليوف؟ الجواب كلا، لأنه سيواجه مشكلة أخرى وهي كيف يعيد الأنف إلى مكانه في وجهه “ماذا لو لم يلتصق؟ سخّنه ونفخ فيه وضغطه لكن الأنف لا يلتصق ونادى على الطبيب ورأى أن بالإمكان إعادته لكن ليس في وضعه السابق كيف لي أن أمضي هكذا كمخلوق عجيب أن اخالط أناسا طيبين” (ص107)، وبهذا الاتساق السببي لمنطقية الأفعال التي تؤديها المسرودات تتناقص العقدة تدريجيا، حتى إذا انفرجت تعضدت الوحدة العضوية للقصة أكثر.

وتغدو النهاية غير متوقعة ولا نهائية وقد كثرت الإشاعات عن الأنف الهارب فقيل إن أنف الرائد كوفاليوف لم يعد يُشاهد يتمشى في جادة نفسكي، وقال آخر “إنه شاهد الأنف في متجر.. تجمهر المارة في الخارج الأمر الذي اضطر معه لاستدعاء الشرطة” (ص 112).

وبهذه لنهاية المفتوحة يغدو السرد غير الواقعي واقعيا، وواقعيته مرهونة ببروتوكول بناء المسرود بطريقة حفزت القارئ على المشاركة في السرد وليس التلقي الاستهلاكي حسب.

ومن التوظيفات التي عبّرت عن منظور سردي يخالف المعتاد ما قام به القاص من تدخل مباشر، فبعد أن وصلت القصة إلى النهاية ختمها جوجول بكلام خارج سردي طرح فيه رؤيته لمعنى الواقعية في السرد، ولماذا تستحوذ هذه القصص الخيالية على اهتمام الناس مع أنها غير مقبولة عقلياً؟

ووضع هذه التساؤلات على لسان أحد القراء الساخطين ممن أزعجه عدم الاستطاعة على فهم السبب وراء استحواذ “أمثال هذه الحكايات الغريبة على اهتمام الناس حتى غدت عملة رائجة في مثل هذا القرن المستنير؟” وأجاب بأن “هذا العالم حافل بالحماقات المشينة للغاية ففي بعض الأحيان تقع أحداث من النادر أن تعتقد أنها ممكنة الحدوث، مثال ذلك الأنف الذي قام بالتجوال متنكرا كمستشار دولة وأثار الصخب في المدينة عاد فجأة وكأن شيئا لم يكن، وقبع حيث كان من قبل، أي بين خدي الرائد كوفاليوف” (ص115).

وهذا الرد ـ برأينا ـ منطقي باستثناء الفقرة الأخيرة التي فيها تقصد القاص استفزاز قارئه واضعا أمامه فراغا عليه أن يملأه وهو لماذا يصر القاص على توكيد منطقية مسروده الأنف وهو يضعه جنبا إلى جنب مسرودات آدمية (كوفاليوف، يعقوبلفيتش، الشرطي)؟ ولماذا ترك منطقة الخارج سردي وعاد إلى القصة مواصلا سرد ما حصل للأنف؟ وما دواعي مغايرته النهاية التي فيها عتم الضباب على المشهد بأن جعل الأنف يعود إلى صاحبه الذي استيقظ ذات صباح فوجد فجأة “بقي أنفه في منتصف وجهه ولم تصدر منه أي بادرة للتجوال.. كانت معنوياته عالية للغاية” (ص 119).

وبالطبع الغاية ليست في آدمية أفعال الأنف أو شبحيتها، بل هي قناعة القارئ باستطاعة المسرود القيام بدور البطولة. ولتوكيد أهلية الأنف أداء هذا الدور كرر جوجول تذكير قارئه بأن القصة ليس لها أيّ أساس واقعي “نرى بأن الكثير من الأحداث في قصتنا مغرق في الخيال.. إلى جانب أنه من غير المعقول أن يختفي أنف بمثل هذه الطريقة الخيالية ثم يعاود الظهور في أجزاء مختلفة من مدينتنا في هيئة مستشار دولة” (ص 119). وأضاف معززا وجهة النظر النفسية المستفزة لمدارك القارئ واضعاً نفسه مكان القارئ موجهاً خطابه إليه، مؤكداً أنّ لا شيء يستحيل في السرد، قائلا وهو بصدد الحديث عن بطله: “لا أستطيع فهمه على الإطلاق، أولا: لا فائدة منه للوطن بأي حال من الأحوال، ثانيا لا فائدة ببساطة لا أعرف كيف يمكن للمرء أن يفسرها على أيّ حال عندما يقال كل شيء ويفرغ منه يجب على الإنسان أن يقر في هذه اللحظة أو في غيرها وربما تستطيع أن تجد وعندئذ لن تجد كل شيء في جانب اللامعقول أليس كذلك؟ مع ذلك إذا توقفت لتفكر برهة هناك ذرة من الحقيقة فيها، ومهما تقل فإن هذه الأشياء نادرة الحدوث يجب أن اعترف لكنها تحدث” (ص 120).

وتعد هذه القصة كلاسيكية بحسب تصنيفها التاريخي لكنها تعد حداثية من ناحية توظيفها للشخصية غير الواقعية، وقد يكون حقيقا بنا عدُّ جوجول رائد هذا النوع من التوظيف في السرد غير الواقعي.

ومن الروايات أيضا “تحريات كلب” لفرانز كافكا وفيها يغدو الكلب متكلما يسرد قصة حياته، كيف عاش محترما وموقرا، بادئا من الطفولة حين كان جروا صغيرا، مستعملا أوصافا ترسم لنا هيأته الكلبية “لشد ما تغيرت حياتي.. حينما أقلب الأمر في ذهني وأستعيد الوقت الذي كنت لا أزال فيه عضوا في فصيلة الكلبيات، أشارك في كل اهتماماتها كلبا بين الكلاب” (تحريات كلب، ترجمة كامل يوسف حسين،2015، ص17). ومرورا بذاك الحادث الذي فيه اكتشف حبه الأثير للموسيقى لكنه اصطدم بمجموعة كلاب “لا تنتمي إلى النوع ذي الشعر الصوفي الطويل الذي انتمي إليه” (ص 23). وانتهاء بالعواء الذي صار يرافق الموسيقى التي كان يجدها تنداح من كل الجوانب. وتنطوي الرواية على بعد أخلاقي جسّده الكلب وهو يتحرى الحقيقة في أبناء جنسه، مفكرا في ما حوله. يكتب المقالات وينشرها ويتبنى وجهات نظر تظهر حبه الكبير للمعرفة والبحث العلمي.

وقد تكون البطولة مسندة إلى مجموع بشري لكنه فاقد العقل ولا يملك سوى جنونه كما في رواية “المجانين الهاربون” لعزيز نيسين، وفيها ثمانمئة وثمانون مجنونا يهربون من مصحة عقلية ليسيطروا على مؤسسات الحكومة “مجموعات من البشر كانوا يجتمعون في الساحات ويصرخون بصوت واحد عاش المجانين عاش الجنون” (المجانين الهاربون، ترجمة محمد مولود فاقي ،2001، ص11 ـ 12) ثم يسيطرون على البلاد كلها، مغيّرين موازين القوى، واضعين الحكام في المصحة العقلية مخربين كل شيء أنجزه العقلاء، فغيروا الدستور وصار كل وزير مجنون يضع برامج جنونية تخرب ما فعله الوزير العاقل. وفي الختام يُحرر المجانين الحكام العقلاء الذين ما أن يخرجوا حتى يغلقوا أبواب المصحة على المجانين. والمفارقة أن الإصلاح لن يكون سهلا، إذ “الشيء الذي يخربه المجنون لا يستطيع العاقل أن يصلحه في أربعين عاما هكذا قال الأولون” (ص 26). بهذا يصبح الجنون قوة مضادة تجعل للشخصية في السرد غير الواقعي قدرة لا تمتلكها الشخصيات العاقلة في السرد الواقعي.

ولا يختلف الأمر مع البطولة المسندة لمسرود واحد مجنون أو لمسرودين اثنين مجنونين كما في رواية “آيات شيطانية” لسلمان رشدي، وفيها تسند البطولة إلى شخصين لكنهما غير سويين واللذين يسقطان من طائرة في أثناء انفجارها وتناثر أجزائها وهما يثرثران ويغنيان بطريقة هزلية غير معقولة “ومن خلال الهواء البارد المخلخل الذي يتساقط عبره مطر من أشلاء ركاب الطائرة وحطامها يهوي رجلان من الركاب وقد أصيبا بما يشبه حالة من الأحلام الهذيانية” (آيات شيطانية رواية، سلمان رشدي، ص 6) الأول جبريل فاريشتا الذي سيكون له شكل الشيطان والآخر صلاح الدين شمشا له شكل الملاك ويسترجع البطلان حياتهما بطريقة كاريكاتيرية يتبادلان خلالها التهم وكل واحد يصف الآخر بالحمق (هيا أيها الأحمق ها نحن فوق لندن الجميلة ولن يكون بمقدور أولئك الأوغاد القابعين تحتنا أن يعرفوا ماذا كان هذا الساقط فوقهم شهابا أم صاعقة أم نعمة إلهية” (ص 6) وما يثيرهما أن لا أحد يعيرهم انتباها ولا يحسب لهم حسابا.. مما يجعلهم يدخلون في مناكفات تاريخية ومحاورات ودينية ساخرة لها صلة بالوحي والقرآن والنبوة.

وترى الروائية دوريس ليسنج هذا النوع من البطولات اللامعقولة أن التأمل في حادثتين الأولى محاكمة ثور بالقتل والثانية الحكم على شجرة بالإعدام ستوصلنا إلى حقيقة أننا “في زمن مخيف فيه أما أن نكون أحياء حيث يصعب أن نفكر في بني البشر كمخلوقات عاقلة فأينما نولي نظرنا نرى الوحشية والغباء حتى ليبدو أنه لا يوجد عداهما شيء نراه.. أعرف وأنا أقول هذه الكلمات أن هناك بلا شك أناسا ربما يتمنون قائلين: أين هذا لا بد أن السيدة مختلة لترى أي جميل وسط الفوضى التي تكتنفنا” (سجون نختار أن نحيا فيها، ترجمة سهير صبري، 2019، ص 12). ولا ترى ليسنج هذه الحقيقة من منظور واقعي فحسب، بل تراها أيضا من منظور مستقبلي “أتصور أنه عندما ينظر الناس إلى زمننا من المستقبل فأكثر ما سوف يتعجبون له هو أننا نعرف عن أنفسنا الآن أكثر مما عرفه الناس فيما مضى” (المصدر السابق، ص 14).

بهذا الشكل تتعدد أفانين توظيف الشخصية غير الواقعية ومعها تتنوع صيغ السرد غير الواقعي في الروايات والقصص الكلاسيكية منها والحديثة. وعلى الرغم من تفاوت الأساليب في هذا التوظيف، فإن النتيجة واحدة هي إضفاء الإمكان على ما هو مستحيل، وجعل اللامعقول مقبولا ومنطقياً.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.