الشعر‭ ‬كائن‭ ‬محتال

الخميس 2015/10/01
تخطيط لـ حسين جمعان

يُطرب ويلعب ويكذب لكي يكون جميلا‭.‬ مولاي وروحي في يده‭.‬ الشعر له ما يريد من اللغة‭.‬ ما يظهر وما يخبّئ‭.‬ ما يبكي ما يضحك‭.‬ حتى الأخطاء اللغوية مباحة لمزاجه الذي يقلق زئبق المرآة النائمة‭.‬

قارّته لا تقع على المياه وهي ليست من اليابسة بشيء‭.‬ لن نشكوه لأحد‭.‬ لا يشكوه أحد لأحد‭.‬ فهو المنبت والنبتة‭.‬ الصياد وطريدته‭.‬ العابر وسبيله‭.‬ الديك وصيحته التي تزعج المؤذن‭.‬

ولكنّ شيئا ما يقع مضطربا ليسوق لغة مختلفة، كانت قد دفعت شاعرا كبيرا مثل خليل حاوي إلى أن يقتل نفسه، يوم شعر بالحرج الشعري وهو يرى الإسرائيليين يجتاحون لبنان ليحاصروا بيروت‭.‬ لقد استنجد يومها بلغة الموت بدلا من أن يكون مهرّجا في السباق إلى الأناشيد‭.‬ كان محقا في نبوءته المبكرة‭.‬ صار كل شيء بعد بيروت يقع على الحافة الزلقة‭.‬

سيكون الشعر ملهاة للمهزومين حتى وإن كان نزار قباني واحدا منهم‭.‬ تحدث الكثيرون يومها عن جلد الذات‭.‬ ليت ذاك الجلد تحول إلى طقس حسيني لنبرأ من لعنته‭.‬ لم يعد الشعر إلى نفسه لكي يُطرب ويلعب ويكذب مثلما هي عادته، بل صار أشبه بلعبة الحيّة والدرج‭.‬

يجد الشاعر سلّما فيرتقي درجاته إلى الأعلى ثم تبتلعه حيّة بطريقة مجانية ليجد نفسه في مكان لم يكن يتوقع الإقامة فيه حيث أسفل سافلين‭.‬ لقد غلبنا التلعثم البابلي فصرنا نقول ما لا نعرف ونزعم معرفتنا بما لم نقله وما لم يقله أحد من قبل‭.‬ أكان لزاما أن تهتز ثقة الناس بالشعر لكي يدرك الشعراء أن بضاعتهم صارت فاسدة؟ ما من استفتاء على ضرورة الشعر، ذلك لأن العالم العربي في حاجة أوّلا إلى إجراء استفتاء على ضرورة الحياة‭.‬ ما تبقى منها على الأقل وهو قليل الجمال‭.‬

صحيح أن الفضيحة صارت اليوم غير ممكنة الإخفاء غير أننا كنا منذ زمن طويل أمة في طريقها إلى الانقراض، لا لشيء إلا لأننا عجزنا عن تطوير لغتنا‭.‬ عزفنا عن تدوين أحوالنا واستعرنا مناقير طيور برية لا تكف عن التمتمة‭.‬ولأن الشعر هو الذي يطوّر اللغة فقد كان ذلك إشارة إلى أننا أمّة من غير شعراء‭.‬ كنا دائما مشغولين بسؤال هو “مَن يقرأ الشعر؟” وكان الأولى بنا أن نهتم بسؤال هو “مَن يكتب الشعر؟” سؤال الشعر كان بالنسبة إلينا دائما سؤالا غيبيا‭.‬ سؤال مَن لا يجد الشيء في مكانه فيقرر أن يضع أيّ شيء في ذلك المكان‭.‬

لقد أخذتنا التقنيات بعيدا عن روح الشعر‭.‬ ولأننا ندرك أن ضياعنا سيكون على يده فقد صار علينا أن نضيّعه قبل أن يضيعنا‭.‬ فعن أيّ شعر تسأل؟ أهو الشعر الذي لم يكتب بعد وقد لا يُكتب غدا؟ ومع ذلك فإن فكرة السؤال تقع في الماضي‭.‬

ماضي الفحمة يوم كانت جمرة‭.‬ وهو ماضي الإطار الذي غادرته اللوحة‭.‬ يلذ لنا أن نردد “الشعر في مكان آخر” وهو قول صحيح، غير أنه لا يبشر بخير‭.‬ ذلك لأن المعاني، كل المعاني لم تعد متاحة‭.‬ فلا شيء يمكن أن يصف صورة طفلة تحاول أن تعد أصابعها حالمة باليوم الذي تتمكن فيه من كتابة الأرقام على اللوح الأسود الذي صار مزارا للشياطين‭.‬

فشعوب نازحة ومهجّرة ولاجئة لا يمكن أن يقيم شعرها إلا في اللامكان‭.‬ وهو ليس المكان الآخر بالضرورة إلا إذا كان ذلك المكان هو الجحيم‭.‬ ليذهب الشعر إذن إلى الجحيم‭.‬ لن يكون له مكان في حفلة الشواء البشري‭.‬ أيكون حيا فيما قراؤه يحتضرون؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.