العار الذي نتّقيه.. مئة عام من الهزائم والآمال الضائعة

الثلاثاء 2021/06/01
لوحة أحمد قدور

يقول المؤرخ قاسم عبده قاسم – في مقدمة ترجمته لكتاب “ما التاريخ الآن” لديفيد كانادين – “إنّ التاريخ لا يُكْتب وفق القول الدارج عن كتابة التاريخ، لكنه “يحدث“، ثمّ تتمّ قراءة أحداثه من خلال البحث التاريخي مرات ومرات، وذلك أننا حين نتوّهم أننا نكتب التاريخ، نكون في الحقيقة عاكفين على قراءته".

 في معظم الروايات التاريخيّة لا يعيد الكاتب تكرار الحوادث، بقدر ما يتأمّل الأسباب والدوافع التي آلت إلى هذه النتائج الكارثيّة، حتى في إعادة صياغة الحكاية من جديد، فالماضي لا يكون هدفًا مباشرًا، بقدر ما هو وسيلة أو أداة تستشرف ما كان وما هو كائن إلى ما سيكون، أي أن الماضي هو بمثابة عين زرقاء اليمامة، التي يُستكشف بها عوار المستقبل، عبر تأمّل الماضي وأزماته، ومن ثمّ تلافي تكرار أخطائه.

لذا يلجأ الكثير من الروائيين للتاريخ، باعتبار أن فَهم الحاضر يتطلب – بالضرورة – إعادة قراءة الماضي بطريقة نقديّة، فلا يمكن فهم الكثير من وقائع الراهن دون ربطها بما قبلها، أي بالأسباب التي أدّت إليها، ومن ثمّ يأتي استثمار المدوّنة التاريخيّة في الخطاب الروائي، بصور متعدّدةٍ، لا تبدأ باستعارة أحداثه، أو التنقيب عن شخصياته المهمَلة والمهمَّشة، أو حتى استعارة أساليبه السّردية، وطرائق كتابته، وإنما تأخذ تموجات وأشكال مختلفة على مستوى الشكل وأيضًا على مستوى استعارة الثيمات.

ينطلق عبدالله مكسور في روايته الجديدة (2003) الصّادرة عن “هاشيت أنطوان/نوفل – بيروت (2021)”، من هذا المفهوم في كتابة رواية تزاوج في مادتها الحكائيّة بين التاريخ والواقع المعاصر، فيلجأ إلى التاريخ القديم، ليس في حوادثه الكبرى بشكل مباشر، بل في تأثير هذه الوقائع/الأحداث الكبرى على شخصياته التي أغفلتها المدونة التاريخيّة، فكما يقول غوركي “إن مأساة تاريخيّة كبرى، يمكن تصويرها عبر مصير إنسان عادي من الشعب“، وهو ما فعله عبدالله مكسور عبر تصوير مأساة شخصين (عاديين) تقودهما الأحداث إلى مصيرين متشابهين على تباعد السنين بينهما، وإن كانا يرتبطان بعلاقة قرابة.

عام الانكسارات

يبدو أن الشواهد العينيّة على حالة الموات والانكسار التي تمر بها الأمة العربيّة، لا تقف عند تواريخ /أحداث الماضي فحسب، بل هي مستمرة وتتكرّر بين الفينة والأخرى، فمدونة التاريخ تحتفظ للأمة العربيّة، منذ القدم بتاريخ – مع الأسف – حافل بالانكسارات والخيبات والهزائم؛ كالغزو المغولي، والحملات الصليبيّة، وسقوط الأندلس وغيرها من حوادث يُمثِّل تذكُّرها – لنا – فجيعة كبرى.

وإذا كان الماضي أشدُّ ألمًا وانكسارًا، فإن الحاضر لا يقلُّ عنه إيلامًا وحسرة ووجعًا، فتتواصل النكبات والانكسارات، ومن ثمّ لم تَعُدْ مأساتنا/انكساراتنا مقتصرة على أعوام 1948 (نكبة فلسطين)، أو 1967 (النكسة)، 1982 (مذابح صبرا وشاتيلا)، 1991 (غزو الكويت)، وإنما امتدت لتصل إلى عام 2003، حيث – كما يقول أمل دنقل في لا تصالح – “كل شيء تحطم في لحظة عابرة”.

يمثّلُ عام 2003 في الذاكرة الجمعيّة والوجدان الشّعبي عام السّقوط المريع، لا على مستوى السياسة فقط، باحتلال العراق والتدخُّل الغربي السّافر في القرار العربي، بل على كافة المستويات، فهو عام الانكسارات بامتياز، والرضوخ – بلا أدنى شك – للأجندات الغربية، وقَبول التنازل الكبير؛ هو عام موت (أو موات) الأحلام العريضة، والآمال الكبرى، وبداية الشرخ العميق في صورة الوطن الأكبر، الذي كان – حسب الأغنيات – “يوم ورا يوم أمجاده بتكبر / وانتصاراته ماليه حياته / [وأيضًا] بيكبر وبيتحرّر” فتقزّم وضاق بأهله، الذين ساحوا في الأرض تيهًا وتغريبًا، وقد صاروا – مع الأسف – كما وصفهم نزار قباني  “يرعدونَ، ولايمُطرونْ… () يدخلون الحروب، ولايخرجونْ”.

مقايضة الشيطانصورة

 يعود الروائي السُّوري عبدالله مكسور في روايته إلى أحداث هذا العام الكارثي (2003)، كي تكون شاهدًا على هزائمنا، وذكرى مفجعة على انفصام وحدتنا، وضياع عروبتنا. الرواية تضعنا في محك أسئلة تتعلق بالهُويّة وتبحث عن أسباب ما حدث وما يحدث؟ ومن المسؤول عمّا هو مشترك بين الماضي والحاضر؟

يُقدّم الروائي خطابًا مضادًا، يُفكّك به لحظة السُّقوط بكل ما تحمله من رموز واستعارات، ويُقدِّم رؤية جديدة (لما حدث) قائمة على المراوحة بين المرجعي والتخييلي طورًا، وبين الماضي والحاضر تارة أخرى، فينطلق الخطاب الرِّوائي من حدث محوري يُهيمن على بؤرة السّرد، وفي تنامي حركة الأحداث وعلاقات الشخصيات؛ حيث احتلال قوات التحالف للعراق، وسقوط نظام صدّام حسين.

وهو بذلك يُجسّد للحظة فارقة في تاريخ الأمة العربيّة، لا تتمثّل في سقوط تمثال صدام حسين وما يحيل/يرمز إليه من سقوط حُقبة نظام صدام حسين/أو البعث، أو حتى سقوط أحد الدكتاتوريين في العصر الحديث على المستوى الإيجابي، وإنما فيما تمثّله هذه اللّحظة – على مستوى السّلب – من هزيمة وانكسار وخزي لكافة الشعوب العربيّة على اختلاف مرجعياتها الجغرافية، والتاريخيّة، والثقافيّة وهوياتها وانتماءاتها الدينيّة والأيديولوجيّة، وكأنه يبرز “العار الذي نتّقيه” لو استعارنا بيت أمل دنقل.

هي لحظة مفعمة بالأسى والحزن تُجسّد لحالة اليأس العام والعارم، التي تبدو بصورة أكثر وضوحًا في صورة غلاف الرواية، التي تتوازى مع حمولات أيقونات ناجي العلى وطفله حنظلة؛ وهي صورة تشير لرجل (في الغالب المؤلف) يُعطي ظهره لنا وللعالم أجمع، ووجهه أمام الحائط رافعًا يديه، في دلالة على الاستسلام أو العجز أو الخنوع أو حتى اليأس المطلق، في تناقض حادٍّ ومريبٍ لحالة جَسَدِه الفَتِّيّ، الذي تبدو عليه القوّة والصّلابة وَرُوح الشّباب؛ وكأنّنا إزاء إنسانٍ (أو شعب) على الرغم ما يتمتع به من قوّة وصلابة وتاريخ إلّا أنّه مخصيّ؛ أي عاجز عن الفعل وعن استغلال قوته، والدفاع عن نفسه، ثمّة شيء يٌكبِّلُه.

ولما لا؟ والإنسان العربي – على مدار تاريخه المليء بالندوب والجراح والهزائم والانتكاسات – صار رديفًا للإحباط والعجز، بعد أنْ تحوّل بفعل السياسة ومكر السّياسيين وما جلبوه على المنطقة العربية – منذ تاريخها – من نكبات، إلى مفعول فيه، وليس فاعلاً.

فقد صار الضحية على اختلاف جلاديه، سواء كان هذا الجلاد من بنى جلدته، أو غريب في ثوب مُستعمِر/محتل بغيض، تارة يفرض نفوذه بالقوة، وفي الوقت ذاته يُحدث تغريبة مفجعة للأجداد فيما عُرِفَ بسفر برلك، وهو ما يتكرّر مرة ثانية، بعد أحداث الربيع العربي، لكنها هذه المرة تغريبة للنجاة (إنْ تَمّتْ) من بطش الدكتاتور الوطني.

وتارة ثانية بوجه شيطان أشبه بشيطان فاوست، مع الفارق أن شيطان فاوست فاوضه على أن يمده بأربع وعشرين سنة وهو في شبابه، مقابل أن يُنفِّذ ما يطلبه منه، فمضى في طريق الشّر يقتل ويفسق ويقع في كل رذيلة، هنا المحتل ساوم بالديمقراطية والحرية، وهي فاكهة الجنة المحرّمة في أرض الله الواسعة التي ضيّقها عباده/الحكّام علي شعوبهم وعلى أنفسهم. وما حصلوا على الفاكهة وما نعموا بظل دكتاتور تآلفوا مع نزواته ونزقه. فاستبدلوا الأكثر بطشًا وغلاً، بالأقل.

ميراث الاستعباد والتغريبة

يتكئ الخطاب السّردي في رواية (2003) على ميراث من القهر والذُّل والاستعباد مارسته الإمبريالية (أيًّا كانت هوياتها، وجغرافياتها) على الشُّعوب العربيّة، وهو ميراثٌ متصلٌ بالهيمنة العثمانيّة وقهرها للشعوب (وتحديدًا العربيّة) الخاضعة لنفوذها، منذ تغريبة سفر برلك (نفير 1914) التي قادتِ الأفراد إلى الاغتراب المكاني والنّفسي، وما أحدثه الأخير من تشوّه نفسي وفقدان للهوية وزعزعة لقيم الانتماء والمواطنة، مرورًا بالاستيطان اليهودي منذ أن كان فكرةً نَادى بها التاجر الدنماركي أوليغربولي (1695)، ثمّ أخذ شكل دعوة رسميّة مع حملة نابليون بونابرت على مصر وسوريا (1789)، مرورًا بمجزرة الفرهود في العراق (1941)، وأحداث حماة في سوريا (1982)، وتغريبة أهل الكويت بعد احتلال صدام لبلادهم (1991)، وقصف ملجأ العامرية (حرب الخليج الثانية 1991)، وصولاً إلى احتلال قوات التحالف للعراق (2003).

كما يسرد الرّاوي – عبر تمثُّله لتجارب مَن مرّوا في حياته – حكاياتٍ عن القهر، والخيانة، والتنكيل بالمعارضين، في فلسطين وسوريا والعراق وليبيا، وكذلك استقطاب المعارضين والمنشقين في الدول العربيّة؛ ليكونوا حلفاء يُشاركون الدكتاتور (أيًّا كان) في مخططاته، واصطياد خصومه اللّدودين، والأهم تنامي فكر أصحاب الأيديولوجيات الدينيّة، وتنامي مشروعهم التحريضي والتمكيني، في ظل حالات من الانقسام الداخلي، وغياب الانتماءات بعد الولاءات الجديدة لأصحاب المشاريع الدينيّة أو الاستعماريّة.

يُجسِّد الخطاب الروائي تمثيلاتٍ من صور الاغتراب التي عايشها وعانى منها أبطال الرواية، كاشفًا من خلالها ما تعرضتْ له المنطقة العربيّة على مرّ تاريخها – بغير إرادتها وبإرادتها – من محاولات استعباد وسخرة واستلاب لرجالها وخيراتها، ومنها ما كان اغترابًا مكانيًّا، أي بالانفصال عن المكان كما في حالة الجد الأكبر حكمت العُمر، والابن والحفيد، وبالمثل الشعب الكويتي إبّان الغزو، أو بالاغتراب عن النفس وهو أنكى من الاغتراب عن المكان، حيث الأفراد في الاغتراب عن المكان مارسوا حياتهم، فالجدّ تزوّج في ألمانيا، وصار مسؤولاً عن تجارة السلاح للمنطقة.

وبالمثل الحفيد غادر إلى بغداد ودرس وتعلّم وتخرّج ثمّ فتح عيادة أي مارس حياته، وبعد خروجه من المعتقل واغترابه في الإمارات تواصل مع حبيبته وكاد الاثنان يستأنفان حياتهما لولا القدر.

يتشاطر الجدّ (حكمت العمر)، والحفيد (الدكتور علي) هذه التغريبة والاغتراب النفسي في آنٍ؛ فالجَدُّ هو أحد ضحاياها، منذ أن ذهب مُجبرًا ليُقاتل مع الجيش العثماني في معاركه أثناء الحرب العالمية الأولى، وعندما يُصاب في المعارك، ينقُلُه الحليف إلى ألمانيا للعلاج، وهناك تُبتر ذراعه، ويواصل حياته في ألمانيا بالزواج والعمل، لا يقف أثر التغريبة على فقدان ذراع الجد، أو حتى هجرته إلى ألمانيا، وإنما يتواصل تأثيرها فيما خلّفه وراءه من زوجة تركها بلا عائل، فتضطر إثر غيابه لأنْ تُطلّق منه، وتتزوّج صديقه الضابط العثماني (رضا اللبناني).

يتجاوب الجَدُّ مع المتغيرات التي حدثتْ في المنطقة العربيّة مع مطلع القرن العشرين، ويلعب دورًا جديدًا يُفارق به دورَ تاجرِ المفروشات المستعملة، ومعالجة الناس بالطب الشعبي، إلى وسيط في تجارة السّلاح، وهو ما يضعه في دائرة علاقات جديدة، مع النظام الملكي في العراق، وكذلك مع حُكْم الإمام في اليمن، وغيرهما من دول المنطقة الوليدة حديثًا، ومع هذا الدور البارز، يلعب دورًا آخر يتمثّل في شراء أراضٍ في فلسطين وبيعها لليهود – بعد ذلك – برعاية ألمانيّة وإنكليزية؛ وهما الدولتان اللتان أرادتا التخلّص من اليهود وزرعهم في فلسطين، وينتهي مصيره بالموت في المعتقل وحيدًا، وهو نفس مصير الحفيد.

يسعى الخطاب الروائي وهو يوازي فعل الحفيد (الدكتور علي) مع فعل الجدّ (حكمت العمر)، بتكرار التغريبة والمآل، لأن يقول لنا إنه لا فرق بين مصائر الأجيال الجديدة ومصائر الأجداد، ما دامت شرائط العيش الكريم (أي الحرية والاستقلال) لم تتحقق بعد، فالحفيد بعد أحداث حلب 1982، يحثّه والده على الهروب منها إلى بغداد، وبالفعل يصلها ويعيش مع أسرة الشيخ أبي عامر، بعد رحلة محفوفة بالموت، تذكرنا برحلة رجال غسان كنفاني في روايته “رجال في الشمس” (1963).

ومثلما يتعرض رجال غسان للموت، يتعرّض كثير من رجال عبدالله مكسور للموت، وينجو الدكتور علي – مع القليل – عبر رحلةٍ غير آدميةٍ أثناء الهروب إلى العراق، فتتهيّأ له سُبل الحياة فيها، ثمّ يواصل دراسته إلى أن يتخرج في كلية طب الأسنان، ويُمارس عمله في عيادة في شارع السعدون، إلى أن يلتقي مرة ثانية بالموت، بعد دخول قوات التحالف إلى بغداد، وإن كان في أحداث حلب، قد كُتبتْ لها النجاة، فإن هذه المرة لن يَفْلِتَ من دائرة الموت.

فيُزَّج به في أحد المعتقلات بعد سقوط بغداد برفقة صديقه السفير أبوالكرم، بتهمة التّستُّر على الرئيس صدام حسين، وإعاقة تقدُّم قوات التحالف. يستعيد الرَّاوي/البطل داخل المعتقل حكاية وطن فتتته الصّراعات والانقسامات، وكأن ما حدث طيلة مئة عام هو المقدمة لهذه النهاية المأسوية التي حدثت في التاسع من نيسان عام 2003.

وفي المعتقل يلاقى صنوفًا من التعذيب (المادي والمعنوي) يصل إلى حدّ اغتصابه، كما يخضع لاستجوابات مهينة، إلى أن تثبت براءته، فيخرج من المعتقل، هاربًا إلى الإمارات، ليعمل في إحدى شركات توزيع الدواء، وهناك يلتقي من جديد بإبراهيم الذي صادفه من قبل في المعتقل مع أحمد أخي حبيبته السابقة، ولكن هذه المرة بدور واسم جديديْن، فيصير إبراهيم (عبيد)، وهو الأمر الذي يزيد من قلق إبراهيم/عبيد، فيلجأ إلى اعتقاله وتعذيبه، إلى أن ينتهي به الحال إلى حقنه بحقنة سُمّ، يموت بعدها. وكأنه كتب على العربي لا أن يموت غريبًا في أراضي غير العرب (الجد) وفقط، وإنما يعيش ويموت – كذلك – غريبًا في أرض العرب (الحفيد)، وهو الأنكى والأكثر إيلامًا.

تُقدِّم الرواية تمثيلات لأثر التغريبة الجديدة أو سفر برْلك العصر الحديث (الحرب على إيران، ثمّ الحرب على الكويت، حرب الخليج الثالثة [غزو العراق]) التي لا يقلُّ تأثيرها فداحة عن تأثير تغريبة الماضي بفعل سفر برلك العثمانيّة، فكشف الخطاب السّردي عن حالات من التشوّه النّفسيّ والضياع التي خلقتها تغريبة العصر الحديث، عبر شخصية زياد الصديق الرابع للدكتور علي وهيثم وأبوالكرم، وقد تشوّهت ذاته، وماتت أحلامه من جرّاء ما كان شاهدًا عيانًا عليه. فزياد دَرَسَ الإخراج السينمائي في الجامعة، وحَلُم بإنتاج الأفلام، لكنه أُرسل بعد دورة عسكريّة إلى الحدود ليقوم بتصوير جبهات الحرب المشتبكة مع إيران، وهناك شاهد حكايات الكذب، وادّعاءات البطولة، وقد نتج عمّا شاهد أن دَمرت الحرب جُزءًا من داخله، وكأنهم لم يكتفوا بهذا، فأرادوا أن يجهزوا عليه، فأشركوه في تصوير حفلات الإعدام، وهو ما كان كفيلاً بتدمير ما تبقّى في نفسه، فأصابه مرض نفسي بعد أن شهد ووثّقَ إعدام أخيه الأصغر مع مسلمين، فصار “يشرب حتى السُّكْر، ثم يشرب حتى يهذي، ثم ينام على الأرصفة، فانتقل من العقلانيّة إلى الجنون، وقد انتهى به الحال في ليلة ماطرة من ليالي بغداد “ميتًا بثياب متّسخة لم يُنظِّفها ماء السّماء في شارع أبو نوّاس الذي حَلُمَ به دائمًا” (الرواية: ص 19).

وبالمثل السَّفير أبوالكرم، بعد خروجه من المعتقل بعد عامين من التوقيف، طارده شبح أبوخالد (المدير المالي للسفارة، وقد مات أثناء الاعتقال) في الأحلام، وصار يتجنّب الحديث عن السُّجون التي مرّ بها: الكلية الحربيّة، أبوغريب، كروبّر، الناصرية، بحر النجف، بوكا، والأهم – كما ذكرتْ زوجته في حديث تليفوني مع الدكتور علي – أنه “صار  زائغ العينين يروي قصصًا غير مترابطة ولا علاقة في ما بينها، صار يختلق أحداثًا عن حصار بيروت، معركة الكرامة…(كما راح) يحكي بحتمية عن تنفيذ خريطة الطريق الجديدة، ومشروع الشرق الأوسط الكبير، يبكي يضحك يهذي، لقد صار (باختصار) كما وصفته سهام زوجته، شخصًا غير متوازن” (الرواية: ص170).

كما يستعرض الخطاب الروائي – في أحد جوانبه المهمّة – فصلاً عن منهجية/آليات التعذيب التي مارسها الاحتلال الأميركي، على الأفراد وعلى المؤسسات (السّفارة الفلسطينيّة)، وهو ما يؤكد عدم احترامهم للمواثيق والاتفاقات الدولية، عبر أشكال من الإهانة اللفظيّة والقمع الجسديّ، وانتهاك الرجولة. كما يُقدّم الخطاب الرّوائي وهو يتمثّل لصور الانتهاكات والتعذيب التي حدثت أثناء المحاكمات أو في المعتقلات، مفهومًا للسجن على خلاف ما قصده ميشيل فوكو بأنه “مؤسسة عقابية تهدف إلى تهذيب سلوك الإنسان”، فأضحى مؤسسة عقابيّة تهدف إلى تدمير الإنسان وسحقه وتحويله إلى مسخ مشوّه، تنتزع من “الجسد المعذّب” آدميته، فلا مجال لما دعاه برزانة العقوبة، فعلى العكس تمامًا فالسّجن – في أوجز تعريف وأغربه – “هو طوابير ممتدة أمام صنبور المياه الوحيد” (الرواية: ص143).

ومن جانب ثانٍ تُجرد (أي صور الانتهاكات) الاحتلال من كل دعاوى الديمقراطيّة والعدالة التي رفعها كشعارات برّاقة أراد بها استقطاب الجماهير لتأييد الغزو، وبذلك عكست الوجه القبيح للسياسة الاستعماريّة بصفة عامّة، وكأنّ هذه الكتابة بمثابة فضح للإمبرياليّة، وردّ بالكتابة عن دعاوى جلب الحرية للمقهورين، وهي صورة تتماثل في الذاكّرة الحيّة مع جرائم الاحتلال في سجن أبو غريب وغوانتانامو، وما يحدث للفلسطينيين – بصفة يوميّة – من انتهاكات الكيان الصهيوني، وهو ما يشير إلى توحّد سياسة المغتصبين، فالجامع المشترك بينهم هو سحق الضحية واستلاب إنسانيته/كرامته وهويته.

لوحة أحمد قدور
لوحة أحمد قدور

البنيّة الدائريّة

نحن مع مرويّة بقدر ما تنجذب للحاضر ووقائعه فإنّها – في الوقت ذاته – تُعالِقُ الماضي وأحداثه، وتستحضر حكاياته ومآسيه وانكساراته؛ لذا يمكن وصفها بأنها قائمة على بنيّة دائريّة/تكراريّة سواء على مستوى البناء؛ حيث يبدو الماضي مرآة للحاضر والعكس، فأحداث الماضي مُتكرِّرة وكأننا إزاء لعبة مرايا تتبادل فيها الشخصيات الأدوار والوظائف؛ فالحفيد مرآة للجد، وهكذا.

تبدأ الرواية بمشهد محاولة الجدّ حكمت الكتابة على الحائط بظفر إبهامه المكسور، وهو ينازِعُ أنفاسه الأخيرة في معتقله بألمانيا، وتنتهي بنفس المشهد ولكن يحلّ الحفيد (الدكتور علي) محلّ الجدّ (حكمت)، وهو في معتقل تحت الأرض في دولة الإمارات، التي هرب إليها بعد خروجه من المعتقل الذي وضعته فيه قوّات التحالف في العراق.

أو على مستوى الأحداث؛ حيث تتكرّر الهزائم والمآسي، فالأحداث التي عاصرها الجدّ قبل مئة عام يُعاصر الحفيد (الدكتور علي العمر) مثيلها (تجربة الاغتراب، والاعتقال، والمحاكمة؛ يُتهم الجد بالتستر وإيواء مجموعة من ضباط الجيش النازي، في حين يُتهم الحفيد بإخفاء صدام، وإعاقة تقدم القوات) مع اختلاف السّياق التاريخي والسياسي؛ فالحاضر الذي يمثّله جيل الحفيد يُكرِّر الماضي الذي عاصره جيل الجد بكل الأخطاء وذات النتائج، وهو الأمر الذي يدعو إلى التساؤل: مَن المسؤول عن تكرارية المصائر؟ هل الجينات التي تحمل لعنة الماضي؟ أم المكان نفسه الذي يمثّل لعنة على ساكنيه؟ أم الأطماع الإمبريالية التي تحفّز الطغاة قديمًا وحديثًا على تحقيق مكاسب ومغانم في أراضٍ لا يملكونها؟ أم الضعف الذي صرنا عليه، فتكالبت علينا الأمم؟ أم أبناء الوطن الذين فقدوا الهوية والانتماء وجروا وراء مصالح فردية زائفة؟

الفارق الوحيد بين المشهديْن (الاستهلالي والختامي) هو تبدُّل القاهِر، فلم يعد القهر حِكرًا على المعتدي أو المحتل، وإنما أناب عنه من أبناء الوطن مَن يؤدِّي عنه الدور، ففاقه في التنكيل والبطش، وهو ما يشير إلى دلالة خطيرة تتمثّل في نجاح الإمبرياليّة في خلق أعوانٍ لها من أولي الأمر، ينفذون سياساتهم باحترافية عالية.

قد تبدو هذه الأسباب مجتمعة هي المسؤولة عن هذه التكراريّة، ولكن هل يمكن لنا أن نتلافى وقع/حدوث مثل هذه الأخطاء مُستقبليًّا إذا كنا فشلنا في تداركها في الوقت الراهن؟ هذا سؤال مفتوح على احتمالات عديدة، وقد تكون الإجابة مُفجعة!

مرثية الأوطان

تبدو الرواية في أحد صورها تجسيدًا لمرثية لواقع عربي مؤسف تبدّل من حال إلى حال أسوأ، في صورة بغداد التي –  قبل الغزو – تحولت “إلى عمارات إسمنتيّة كالحة، غلب اللون الرمادي والبني علي الأبنية وغابت الألوان عن بغداد، صارت وكأنها هاربة من زمن مضى إلى زمن وقعت فيه بالخطأ”،  ومع بدء الغزو “صارت مدينة يسكنها الموت من الأرض والسماء، يهاجمها ويخترق أبوابها بلا استئذان” (الرواية: ص 40).

وبالمثل يظهر في نقمته على استشراء الرأسماليّة التي قتلتْ كلّ حياة وروح داخل المدن الاستهلاكيّة، وهو ما تجلّى في حالة الاستياء والتبرُّم من الأبنيّة العالية في الإمارات، وندرة التاريخ فيها مقابل كثرته في بغداد.

كما يتجاوز هذا وذاك إلى التأسّى على المآل العربي المفتّت والمنقسم على نفسه بعدما كانت الوحدة والإخاء هي شعاره، وروح التّسامح بعيدًا عن التعصُّب هي مثار فخر وهوية أفراده، فزياد مولود لأب شيعي وأمّ سُنيّة، وحزقيل ابن شمعون اليهودي تربّى في بيت عائلة أبي الكرم، على أنه واحد من عائلته، بعدما قُتلت عائلته جميعًا في أحداث الفرهود ببغداد يوم الثاني من حزيران عام 1941. والراوي الدكتور عليّ العُمر عندما هرب من سوريا، وجد في بيت الشيخ أبي عامر ملاذًا له، فعاش مع أسرته.

هكذا كانت العروبة رديفًا للإخاء والتسامح والمحبة، لكن ما إن حدث الاحتلال وسقط النظام، حتى تفرقت القلوب المؤتلفة وهاجم – البعض – الفلسطينيين باعتبارهم كانوا ينعمون بمزايا النظام السّابق. في تبدُّل لأحوال الإخوة إلى الفرقة والانقسام.

الغريب أن الخطاب الروائي لم ينشغل بتكريس أزمة (ولو ضيقة) متعلِّقة بمفاهيم لم يَعُدْ لها فاعلية، في ظل انقسامات ومعادلات لم يَعُد لأصحاب الأوطان أيُّ دخل بها؛ كالهوية والانتماء والمواطنة والعقيدة الدينيّة، وغيرها، وإنما كشف عبر تمثيلات/نماذج حيّة عن تعدديّة ثقافيّة وسمت المكان (كبلد منفتح استوعب كافة الثقافات على أرضه ومنح مواطنيها جنسيته)، ومرونة هوياتيّة (الجد حكمت/والحفيد الدكتور علي)، ورحابة دينيّة (كما في والد عبدالرحمن الذي حمى حزقيل، ووالد زياد).

ومن ثمّ تبنّى الخطاب الروائي رؤية أن حالة التشرذم وفقدان الهوية الجمعيّة/العروبة داخل المواطن العربي، تعود إلى عوامل كثيرة، منها الاستعمار الذي أذكى روح التفرقة والانقسام، وأيضًا إلى هيمنة التيارات المتشدِّدة، ومحاولتها اللعب على وتر الدين والطائفيّة، في حين أن السّماحة والمرونة والتعدديّة – التي هي الأصل – مكتسبة من مرجعيات ثقافية تعود إلى البيئة الاجتماعيّة والثقافيّة، التي تؤمن بالآخر ولا تسعى إلى إقصائه، أو حتى صبغه بأيديولوجيتها، وإن كانت تستوعبه وتحتضنه. وهو ما نراه بوضوح في الحوار الذي دار بين إبراهيم والدكتور علي في المعتقل، كنموذج دال على حالة المرونة الهوياتيّة، وعدم التعصّب لطائفية أو حزبية، رافضًا – بتعبير جايتري سپيڤاك – “أن يكون المرء نوعًا مُحدّدًا من الذات”.

•فإبراهيم يسأل:

•د.على أنت سوري أم عراقي؟

•يصيح أنا عربي يا إبراهيم، عربي ولدت في سوريا…

•كلنا مسلمون يا أخي

•لا هذا كلام خاطئ، كلنا عرب، مسيحيون، مسلمون ويهود، سيتحول العرب إلى مسلمين فقط حين يكونون مسلمين، القوّة في التنوع يا إبراهيم، أنا عربي قبل أي انتماء آخر…” (الرواية: ص95)

هكذا سعى الخطاب الروائي إلى تبّني مفهوم هوياتيّ منفتحً غير متقيّد بحواجز الجغرافيا وقيود الدين، والأفكار الأيديولوجيّة المسيّجة، كما تراءى في شخصية الدكتور علي، فإجاباته عن الأسئلة الهوياتيّة التي كان المحقق الأميركي يسأله تنمّ عن هذا الوعي العميق بفكرة المواطنة وقيم الانتماء، وأن المواطنة لا تقف عند حدود شكليّة متعلّقة بحواجز الجغرافيا أو حتى خانة العقيدة الدينيّة، وإنما هي رحبة تتسع لأبعد من هذا وتكسر كافة الحواجز والقيود المصطنعة.

وهذا الموقف يكشف عن طبيعة فنان متسامٍ ومتسامح ومنفتح ومرن غير مُتشدِّد، في إشارة ذات مغزى لأهمية الفن في إعلاء روح التسامح، والسّمو فوق الحواجز والقيود، خاصّة إذا عرفنا أن الدكتور علي كان يمارس الرسم.

•تأمّل أسئلة التحقيق التي وجهت لعلي، وإجاباته عنها، لتتأكد من أن هوية الدكتور علي غير مؤطرة ببلد أو منغلقة على نفسها، بل هي رحبة ومنفتحة لأبعد حدٍّ:

•من أنتَ؟

•على محمد ناظم حكمت العمر

•جنسيتك؟

•عراقي.

•أين ولدت؟

•سوريا

•متى وأين؟

• حماة 1965.

•ماذا تفعل في العراق؟

•أقيم هنا منذ عام 1982، وأحمل الجنسيّة العراقيّة.

•منذ متى لم تزر سوريا؟

•منذ خرجت منها أّول مرّة. (الرواية: ص ص :62،63).

لوحة أحمد قدور
لوحة أحمد قدور

الأسئلة تقدُّم هوية شخصيّة متوزّعة على جغرافيات مُتعدِّدة، هُويّة قوميّة لا منحصرة تحت دولة واحدة، فهو ينتمي إلى جد قادم من فرنسا، كان غير مسلم فدخل الإسلام، ولد في سوريا إلّا أنّه تربّي وتعلَّم في العراق، فالإجابات تفكّك مفهوم الوطنيّة والانتماء ومكوناته المختلفة: هل هو بالانتماء لبلد مُحدّد أم للطائفة والجنس أم للتوجهات الفكريّة.

بالطبع يتبّنى البطل رؤية مُؤلِّف النّص ومفهومه للهوية والانتماء والوطن، ورفضه لفكرة التحيّز لطائفة بعينها، والتجزئة إلى دويلات، ورغبته في التمثّل للمقولات الكبرى عن القومية والعروبة والوحدة، وهي ذات الأفكار التي يؤمن بها المؤلف عبدالله مكسور، فهو يرفض فكرة التحيّز والطائفية وغيرها من أشياء تُضْعف الأمة وتفتت عزمها. ففي سؤال له عن لماذا يكتب عن الشأن العراقي وهو سوري، يقول: “هذه انتماءات ضيقة، أنا عربي قبل أن أكون أي شيء، أما الهوية التي أحملها فهي جواز سفر، ومع الأسف ليس معي بسبب الوضع السوري، أما الشأن العراقي، فهو شبيه للشأن السوري” (حوار تليفزيوني، برنامج صباح النور، 12 نيسان 2021)

ينهض الخطاب السّردي على تقنيّة الاسترجاع، فالأحداث دائما تعود إلى نقطة أبعد من زمن الحكي ومكانه، فاستهلال الرواية يعود إلى الجد حكمت وميلاده، فالراوي الأنا العائد على البطل علي العُمر، يسرد وقائع ما جرى في أيام سقوط بغداد، وفي ذات الوقت يُبطن سرده باسترجاعات تعود إلى طفولته في حماة، ومجزرة حماة، وقصة هروبه  إلى العراق، وبالمثل يسترجع ذكرياته مع صديقه زياد، وعندما يصل صدام إلى عيادته تعود ذكرياته إلى أوّل لقاء به، أثناء تكريم الرئيس له في حفل الخريجين في الجامعة .

وفي جزء منه ينهض على الرسائل بدءًا من الرّسالة التي تؤرخ للجد حكمت ورحلته إلى ألمانيا، وهي موجودة في استهلال النص، ثمّ تأخذ الرسائل حيزًا مهمًّا أثناء التحقيق مع الدكتور علي من قبل القوات الأميركيّة، فنرى رسائل عديدة متبادلة بين الجدّ وشخصيات رسميّة/حكومية، وهناك رسائل السّفير أبوالكرم للدكتور علي بعد خروجه من المعتقل، وأيضًا رسائله التي أشبه بوصايا.

علاوة على الوثيقة التي منح من خلالها الرئيس صدام الدكتور علي وسام الرافدين، وما عثر عليه وسام من أوراق خاصّة بالجدّ في الأرشيف العراقي وفي ألمانيا، جميع هذا يدفع بالنص إلى الطابع المرجعي، إلى جانب عناصر عديدة تشد النص إلى الواقعي/المرجعي، بدءًا من توثيق أيام الغزو، وصولاً إلى يوم سقوط بغداد، ثم الوقائع التاريخيّة والأسماء الحقيقية التي ترتبط بفترة زمنية بعينها، والخرائط التي توضح سير المعارك.

يقطع السّرد الذاتي الذي يهيمن على الخطاب، على اختلاف الأصوات العائد عليها الضمير الأنا: الدكتور علي/صدام/إبراهيم/أحمد/السفير أبوالكرم، خطاب سردي قائم على الحوار المباشر، بين أطراف متعدّدة، وهو خطاب يأتي على هيئة بنية التحقيق/الاستجواب البوليسي، وهو ما نراه في التحقيقات التي يُجريها الأميركان مع الحفيد بعد إلقاء القبض عليه (راجع صفحات: ص: 62- 66، ثم ص 73 -78، ثم ص: 85- 89، ثم ص: 96 -99)، على نحو ما جرى مع الجدّ من قبل الأميركان أيضًا (راجع صفحات: 155- 161).

وأحيانًا تكون هذه البنية متاخمة مع السّرد الذّاتي، فمشهد قدوم صدام إلى العيادة، لا يُرْوَى وصفيًّا فقط، وإنما يتخلّله حوار أشبه بتحقيق، وهذه التقنيّة تكشف عن تغلغل الاستبداد في السُّلْطة، فكل سُلطة تأخذ حصانتها من الارتياب في الآخر، ومن ثمّ تلجأ إلى التحرّي والتحقيق، فصدام ما إن يرى صورة ثلاثتهم المعلّقة على الجدار، يستفسر عنهم، وعندما يأتي رسول أبوالكرم موجهًا الدعوة لعلي بالحضور لمقر السّفارة من أجل الحماية، يسترسل الرئيس في أسئلة حول ماهية الرسول: من هو ؟ وما وظيفته؟ وما جنسيته؟ إلخ من أسئلة تُخضع الطرف الآخر للاستجواب وكأنه متهم.

يميل السّرد في جزء منه إلى التسجيل/التوثيق خاصة في مشاهد احتلال بغداد، فالراوي الأنا يتعامل مع الأحداث بعين كاميرا ترصد بدقة، أجواء المعركة، جوّا وأرضًا، وكأنه استعار صفة المراسل الحربي/العسكري، الذي يُقدِّم تقريره إلى جهاته الرسميّة.

التوثيق هنا يأتي من منظور شخص محايد، وإن كان ينتمي إلى المكان بحكم الجنسيّة والدراسة والإقامة، ومن ثمّ فهو يُقدِّم رؤية أقرب إلى الحقيقة، فلا هو ضدّ كي يُزيّف الحقائق، أو هو مع كي يغض الطرف عن أحداث ووقائع فيها إحراج لنظامه الذي ينتمي إليه، وإنما هو يقدّم رؤيته الشخصية، كما هي دون أيّ تعليق من جانبه، بل أحيانًا يجعل من عدسة كاميرا السّارد وهي ترصد، مشطورة بين تتبُّع ما يحدث في ساحة الفردوس وأثر هذا على الرئيس الذي يُشاهد من النافذة وقائع سقوط تمثاله، وبالأحرى سقوط حكمه ونفوذه، هكذا: “شدّ أسنانه على السيجار قبل أن ينظر إلى ساحة الفردوس حيث ظهرت دبابات ومدرعات أميركية، كخيال من بعيد، أرخى المرافق ستارة الشرفة الصغيرة ووقف الرئيس خلفها تمامًا ينظر إلى اعتلاء جندي من المارينز سُلّم الرّافعة ليضع على رأس التمثال علمًا أميركيًّا قبل أن يربطه بحبل متين، بعد أن اجتمع مجموعة من العراقيين حامليين فؤوسًا صغيرة محاولين كسر قاعدة التمثال” (الرواية: ص27).

على الرغم من أن الراوي ينقل المشهد وتأثيره على الرئيس بحيادية تامة، فلغته الوصفيّة بعيدة عن التلميح أو السُّخريّة أو التشفي أو حتى الإيماء بأيّ شيء سَلْبي يُكنّه الرّاوي للمروي عنه، لكن حضور المشهد نفسه، وتسجيل الراوي/الأنا له، الذي يتوحّد مع المؤلف الضمني بهذه الآلية المجردة من المشاعر، يشي بدلالات خطيرة، أهمها أنه مشهد أشبه بانتقام معنوي من استبدادية وجبروت الرئيس، أو الانتصاف من كل الذين كانوا ضحايا له ولنظامه، بأن يجعله يشاهد بعينيه سقوط تمثاله، وما يحيل إليه رمز التمثال من إحالات تعود إلى: النظام/السلطة/القوة/والاستبداد.. إلخ، ويستشعر – بذلك – مهانة هذا الإسقاط بهذه الصورة المزرية.

وبصفة أعم إنه مشهد انتقام من كل ذي سلطة غاشمة انتهى به الحال إلى ذات المصير، وهو ما تكرّر بعد أحداث الربيع العربي (هروب بن علي، تنحي مبارك ورسائل الاعتذار، مطاردة القذافي وعلي عبد الله صالح، ثم مقتلهما في مخابئهما).

كعادة الدكتاتورين في تفويت فرصة التشفي من قسوة المشهد وتأثيره على النفس، يمنح السارد لشخصية الرئيس سلطة جديدة، بإعطائه سلطة الروْي بالأنا، ويستغلها بأن يقوم بأفعال تعكس سلطويته وجبروته، فيقوم بأفعال يسعى من خلالها لأن يجرد الراوي (والمتعاطفين مع سرده) من الشعور بهزيمته وانتصاف العدالة والظفر أو الانتقام.

فها هو الدكتاتور – عكس ما تراءى للجميع وصوّرت وكالات الأنباء – لم يَفْقِد صولجانه البتة، فما زال يتمسك بجبروته (التاريخ والأوامر)، فيسرد – بصوته/الأنا – تاريخًا بطوليًّا له مع سقوط تاريخه الفعلي، فيحكي في نبرة استعلاء وفخر عن دوره في الانتصاف لرئيس الحكومة السابق عبدالمحسن السعدون هكذا “أنا الذي كنت وراء الحفاظ على التمثال البرونزي الذي أنجزه بياترو كانونيكا عام 1933” ومرة ثانية يشير إلى تحقيقه العدالة الاجتماعية والمساواة بين الطبقات، فيخاطب الدكتور قائلا “..انظر يا دكتور إلى هذه المنطقة، هذه كانت للخواجات لكنها منذ سنوات تحوّلت إلى منطقة شعبيّة، من الذي جعل الناس سواسية في العراق” (الرواية: 28).

ولكي تبلغ الأنا ذروة اعتدادها وشموخها ورفضها الاستسلام يمنح الدكتور على العمر وسام الرافدين من الدرجة الأولى، بتاريخ الـ9 من نيسان 2003، ختم توقيعه جاء بتاريخ السقوط، وكأنه ينكر الاعتراف بما يراه أمامه، كمحاولة – أخيرة ويائسة – لإكساب نفسه شرعية، ينفي من خلالها مزاعم سقوطه.

ومن الصّور التي أراد أن يرسّخ بها المستبد لهيمنته والتفاخر بتاريخه السُّلطوي، فيسرد الرّاوي عن كتابته للكتب السَّماوية بدمه، ولم يكن فعله هذا تقرُّبًا إلى الله، وإنما لإرضاء الأنا الداخليّة التي جعلته يُقْدم على ما أقدم عليه، وصولاً إلى الجلوس في غرفة عيادة طبيب يُشاهد انهيار بلده ودمار شعبه، فالهدف الحقيقي “كي يقال إنه أوّل رجل في التاريخ يخط من دمه الكتب السماوية الثلاثة” (الرواية: ص 31 )، فهو لا يريد أن يظهر بمظهر الإنسان العادي الذي يحمل أمراضًا وراثيّة أو التهابات في الأعضاء الحيويّة من جسده. وأيضًا في صورة الانتساب إلى الديانات الثلاث، حيث تداول الناس ثلاث مخطوطات تشير إلى انتهاء نسبه بالنبي محمد تارة وبالرسول عيسى تارة ثانيّة وبالنبي موسى تارة ثالثة.

تشكّل الخطاب الروائي من لغة سردية اعتمدت – في المقام الأول – على اللغة الفصحى بما في ذلك لغة الحوارات والمراسلات والتحقيقات، وهي لغة غير متعالية، وإن كانت تعتمد بشكل أساسي على الاستعارات والتشبيهات والمجازات في غير غلو أو إسراف، وإنْ مالت في بعض جوانبها إلى التجريد والتعريّة من أيّ بلاغة أو مجازات، خاصة في الأجزاء الخاصة بوصف ما تعرض له السّارد من امتهان وتعذيب داخل المعتقل، وبالمثل لغة التحقيقيات/الاستجوابات؛ فاللغة المستخدمة تتجرد من كل زخرف لأن الموصوف تأثيره أقوى من أيّ استعارات ومجازات.

كما استطاعت اللغة أنْ تنقل لنا إحساس المستَبِدِّ وهو في حالة السقوط، فجاءت متناقضة لحاله، متعالية وتستعير ألفاظ الشموخ، فالأنا هي المهيمنة، وأفعال الأوامر وصيغة الأسئلة الفوقيّة التي تضع الطرف المسؤول تحت سلطة الاعتراف أو الاستجواب هي السائدة على لغة الخطاب، بالإضافة إلى تردد الأفعال الدالة على القوة والتحكُّم والسُّلطة، والتي تمنح صاحبها نفوذًا، وكأنه بالاستعانة بهذه اللغة يستعيد سلطاته المفقودة.

 كما يمرّر الرّاوي خطابًا لغويًّا يوحي بالسخرية من تناقضات شعارات الدكتاتور وأفعاله على نحو ما نراه يتردد من شعارات على الجدران، وهي بقدر ما توحي بإشعال حماس المواطنين، فإنها تفضح واقع الديكتاتور على نحو “لا تشعل حربا أنت تعلم أنك ستخسرها: مَن لا ينزف عرقًا في التدريب لا ينزف دماء فداء للوطن” وغيرها من شعارات مكتوبة ومحفورة على جدران الشوارع وإن كان في حقيقة الأمر الواقع يقول غير ذلك.

 يتناص الخطاب السّردي – في بعض أجزائه – لغويًّا مع مطلع قصيدة الأرض اليباب لإليوت “نيسان ما أقسى الشهور” ليلعب على هذه المفردة، التي استعارها أيضًا جورج أورويل كمفتتح لرواية 1984 هكذا “كان يومًا باردًا من شهر نيسان“ (1984، ترجمة الحارث النبهان، ص 5). هنا يستحضر الخطاب السّردي لكل الحوادث التي وقعت في شهر نيسان، كيوم مولد الرئيس الذي تصادف مع تاريخ الإعدام، وبناء عليه تمّ العفو على مراد العبود (أحد معارضي الرئيس)، وهو الشهر الذي تلا شهر الجراد، ونسيان سقوط بغداد ونسيان مذبحة دير ياسين، مجزرة قانا في لبنان، واغتيال كمال عدوان وكمال ناصر، ويوسف النجار في بيروت، وميلاد البعث وسقوطه، اتفاقية رودس بين إسرائيل والدول العربية، حادثة بوسطة عين الرمان التي شكّلت الشرارة الأولى للحرب الأهليّة في لبنان، مجزرة بحر البقر بمحافظة الشرقيّة في مصر (الرواية: ص 43).

في الأخير نحن بإزاء رواية تدين الحاضر والماضي معًا، تُعرِّي خيباتنا وانكساراتنا، وتشير إلى موطن الداء دون مواربة، أو حتى تكتفي بالتلميح والإشارة، فلا تقف عند شخصيات بعينها، وإنما عينها على سبب الأزمة الحقيقي، وآفة ونكبة الأمة، متوسِّدة ببنية روائيّة دائريّة، راوحت بين الماضي والحاضر، عبر لغة سهلة فصيحة، وسيطة، بعيدة عن التكلُّف والتقُّعر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.