العقل والواقع

التفكير المنطقي - الصوري
الاثنين 2021/11/01
لوحة: فؤاد حمدي

لنقل – بداية – إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر تفكيراً سليماً دون أن يفكر وفق قواعد المنطق، بل إذا قال قولاً خارج قواعد المنطق فإنه لا يفكر أصلاً. ولكن يجب أن نضيف أن ليس كل تفكير مستندٍ إلى المنطق الصوري هو بالضرورة تفكير سليم، وأقصد بسليم هنا الصحة الواقعية لأحكامنا المنطقية.

غالبية الناس لم يدرسوا المنطق الصوري ولا يعرفون قواعده ولكن ما من إنسان يقول: أنا موجود الآن وغير موجود الآن، أو أن الماء الحار باردٌ، أو أن جميع البشر بكمٌ، أو أن التفاحة هي حبة كرز، أو أن بعض الكلاب بشر. بل ما من إنسان عادي يخرق قواعد القياس في حياته إلى الدرجة التي يبدو فيها أحمق. فليس لأحد أن يقول: كل إنسان مائت عمر إنسان إذن عمر غير مائت.

هذا كلام عادي يعرفه القاصي والداني، قدمنا به للمشكلة، أو لشرح الأطروحة التالية: المنطق الصوري ليست صورياً فقط، إنه منطق واقعٍ، وإذا قلت إنه منطق واقع فكي لا أقول إنه منطق الواقع بالإطلاق، فليس كل واقع يندرج تحت قواعد المنطق الصوري. وتعريف المنطق الصوري هو: أشكال التفكير الصحيح.

والحكم كي يكون صادقاً يجب أن يكون واقعياً، فنسبة محمول إلى موضوع لا تكون صحيحة إلا إذا كان الموضوع والمحمول يشيران إلى ما هو واقعي.

فالحكم: الإنسان ناطق. قول صحيح لأن الإنسان ناطق فعلاً. وبعض الناس بُكم قضية جزئية صحيحة لأن بعض الناس بكم.

ولكن لو قلت الإنسان حيوان مجنح، فهذا الحكم خاطئ، لا لأنه خرق قواعد المنطق، فالنسبة الصورية صحيحة، بل لأنه لا وجود لإنسان مجنح واقعياً. إذن يمكن أن يلتزم العقل بشكل التفكير وقواعد المنطق الصوري، بمعزل عن الواقع، ولكنه في هذه الحال لا يكون صادقاً.

نقد المنطق الصوري

ونقد المنطق الصوري تم وفق هذه الفكرة، غير أن نقد المنطق الصوري لا يقود إلى خرق قواعده، ولا يمكن لإنسان طبيعي ملتزم بقواعد العقل أن يطيح بقواعد المنطق الصوري.

والمفهوم، بوصفه أساس الحكم، لا يكون مفهوماً إلا إذا كان واقعياً مهما كان مجرداً. ولا تكمن واقعية المفهوم المجرد، بأن دلالته قائمة في الواقع الحسي فقط أو ماله علاقة بالحواس الخمس.

فالحجر والهوية مفهومان مجردان واقعيان. الحجر: جسم صلب موجود في الطبيعة مادته صخرية بركانية بازلتية رسوبية.. الخ، وتراه بالعين وتلمسه. الهوية لا وجود حسيا لها. لكنها ذلك الوعي الموجود لدى البشر بأنهم يحوزون على صفات تميزهم عن غيرهم. وهذا الوعي موجود ويعبر عنه باللغة.

جميع مفاهيم العلم بهذا مفاهيم واقعية بالضرورة، وإلا لا يستطيع العلم أن يتحول إلى وقائع تقنية. وهنا لا مشكلة.

لوحة: فؤاد حمدي
لوحة: فؤاد حمدي

المشكلة بالتصورات. والمقصود بالتصورات تلك الوقائع المتخيلة التي يتصورها عقلنا. ويحولها إلى أداة معرفية. ويظن بعضهم بأن التصور الذي عبرت عنه كلمة هو مفهوم. وهنا تكمن المشكلة. وأنا لا أتحدث عن تصور الشيء بعد غيابه المرتبط بالذاكرة، ولا تصور صورة هندسية لبيت ما قبل إنشائه. بل عن تخيل موجودات لا وجود لها وأخذت صورة المفهوم دون أن تتوافر لها طريقة صياغة المفهوم بوصفه كلمة مجردة تشير إلى وقائع .

وهناك فرق كبير بين المفاهيم الحسية والمفاهيم التجريبية والمفاهيم النظرية. وهذا موضوع يحتاج إلى شرح مفصل، ولمن أراد أن يستزيد فليرجع إلى كتاب كومبف أورجيف (المنطق الديالكتيكي) الذي ترجمناه عن الروسية عام 1984، وصدر عن دار دمشق.

ما هي التصورات الوهمية

قلنا بان المفهوم كلمة مجردة تعبر عن وقائع متشابهة، أو ذات صفات جوهرية متشابهة، يصوغه العقل بعملية التجريد والتعميم، ضارباً صفحاً عن الصفات غير الجوهرية.

يكون التصور مفهوماً زائفاً وهمياً إذا كان ناتجاً عن تركيب صفات واقعية لمتخيل غير واقعي و لا وجود له أيّ هذا التركيب، واقعياً. وبالأصل لا يمكن للعقل أن يتصور مفاهيم دون وقائع.

فالغول مثلاً تصور، كلمة تشير إلى وجود كائن له صفات مخيفة. الغول لا وجود واقعياً له. لكنه تركيب من جسم هائل وأسنان كبيرة بارزة وأظافر طويلة وشعر كثيف وحجمه ضخم.. الخ. كل هذه الصفات هي صفات مستقاة من الواقع وراح العقل يركب بينهما ويعد مفهوما اسمه الغول. فالجسم والسن والأظافر والشعر والحجم مفاهيم حسية واقعية، راحت المخيلة تجمع بينها في صورة ما وأطلقت على هذا التركيب المُتَخيل كلمة غول.

ولهذا قالت العرب المستحيلات ثلاثة: الغول والعنقاء والخل الوفي. فإذا تركنا الخل الوفي جانباً بوصفه مصطلحاً يشير إلى خيبة الأمل بوجود صديق وفِيّ، فإن الغول والعنقاء متخيلات لا وجود واقعياً لها.

ومع ذلك فإن الوعي الشعبي قد يتعامل معهما كحقيقتين.

ولقائل أن يقول لماذا اعتبرت الغول مفهوما تصوريا وهميا وهو أمر متعارف عليه ولم تعتبر غيره من المفاهيم التي يؤمن بها الناس إيماناً جازماً كالملائكة مثلاً.

إن الذي يؤمن بالملائكة يؤمن هو الآخر بمفهوم تصوري مركب من صفات واقعية. والذي يؤمن بها يقر أنها لا وجود لها في الواقع الأرضي. لكنه لا يؤمن بأنها وهمية، بل واقعيتها في عالم آخر. إنها بالنسبة إلى إنسان ملحد تصور وهمي بالضرورة، أي مفهوم وهمي.

وهناك العشرات من المفاهيم التصورية الوهمية التي تعيش مستمرة منذ آلاف السنين في عقول الناس وتحرك سلوكهم وتقوم بوظيفة اجتماعية وسياسية وأخلاقية في كل المجتمعات سواء أكانت وظيفة سلبية أم وظيفة إيجابية.

بل إن الكثير من البشر يقومون عبر – شبه المفاهيم التصورية الوهمية – بنشاط حياتي شديد التأثير في الواقع. حسب المرء أن يتأمل مفاهيم: الوعد الإلهي، شعب الله المختار، يهوه، الهيكل.. الخ، كي يعرف الوظيفة التي تقوم بها هذه الأوهام في حياة الناس.

هناك المفاهيم ا الواقعية  التي لا يمكن أن نشير إليها حسياً، لكن وجودها الواقعي قائم في صفات مركبة أي يركبها العقل، لكنه – أي هذا التركيب – موجود واقعياً.

خذ مثلاً مفهوم الحرية: لا وجود في الواقع بالأصل لجسم اسمه الحرية، الموجود بشر يسلكون سلوكاً ما.

السلوك الحر هو الناتج عن وعي وشعور أن صاحبه حر في الاختيار والتفكير والسلوك دون أن يكون مقصود السلوك إيذاء الآخر. ونحن نستطيع أن نعرف نقيض هذا السلوك بالعبودية التي تعني أن هناك كائناً بشرياً يسلك دائماً وفق أوامر سيد له مهما كان هذا السيد واقعياً أو متخيلاً.

ولعمري بان التمييز بين المفهوم والمتصور المتخيل شرط ضروري للتفكير الواقعي والمنطقي، وشرط لازم للتحرر من الوعي الأسطوري والخرافي وما شابه ذلك.

ومن الأسئلة المهمة المتعلقة بالتفكير المنطقي السؤال الآتي: هل قوانين العقل هي نفسها قوانين الواقع أم سابقة على قوانين الواقع وموجودة وجوداً فطرياً في الدماغ البشري؟ لا شيء في العقل ما لم يكن قبلاً في الواقع.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.