الفانيلة الحمراء

فصل من رواية
الأربعاء 2021/12/01
لوحة: يوسف عبدالكي

– سأعتكف كي يخبرني هدهد الثورة عمّا يجول في ذهنه! افتتح أبولينين الحوار.

حسن: أعرفه حق المعرفة، زميل ثقافة وأدب تحرري ومغازل عتيد وخطيب ألمعي، ولسانه ذرب ساحر أوان التحدث.

أبولينين: بلغني أنه، يتردد اسمه كثيراً في أروقة الأمن، وهذا ما يدفعني أن أتجنبه خشية توريطنا بالخيانة العظمى.

حسن: فتى جسور مؤمن بالفكرة، يمتلك طموحات فوق العادة تتلاقح مع طموحاتنا التحررية، صلب الشخصية، عنيد، مقاوم لأي أنواع التعذيب البدني والنفسي.

شاكر: هو تلميذي، شاعر يحتاج إلى القليل من التوصيات لتتبلور أفكاره، لديه طوح أممي ليحوز على أسلوبه الخاص، ما زلت أقدم له النصح والمشورة رغم جماحه الهائج.

أبولينين: تعلمون يا رفاق المسيرة، نحن نسبح في حوض التماسيح، الكرة ما زالت بين أقدامهم.

حسن: كن مطمئن البال رفيقي.

شاكر: أنا واثق أنه سيمد ثورتك بزخم معنوي ومادي يفوق الخيال.

أبولينين: حسناً؛ إن كنتما على يقين من كنيته الناصعة، وتواجده النافع، فلا بأس أن نستثمره لصالح ثورتنا.

بينما كانوا يتداولون طبيعة شخصيته، برز من البوابة، وقف يمسح المكان، ناداه حسن، رفع كفه كمن يؤدي اليمين أمامهم:

– عذراً، أشعر بالخجل أن أكون هنا في أوّل اقتحام لهذا البيت المحرم.

شاكر: بالعكس هذا المكان يليق بك يا سلمان.

حسن: اسحب كرسياً وكن ضيفنا هذه الليلة.

أبولينين: شرف كبير أن أجالس النخبة المثقفة في بلدتنا.

شاكر: لسنا في المدرسة يا سلمان، خارج المدرسة كلانا أحرار.

جاء البوي يجرجر كرسياً، جلس سلمان والقلق ما زال بادٍ في عينيه.

حسن: حقيقة كنا نتحدث عنك قبل هنيهات من الوقت.

سلمان: أملي برفقتكم لا يخيب ظنّي، أنا في المكان الصحيح.

أبولينين: اطلب مشروبك!

سلمان: رفقتكم أسكرتني مبكراً.

لوحة: يوسف عبدالكي
لوحة: يوسف عبدالكي

أبولينين: حقيقة رفيق سلمان، ظنّي يقر؛ لا داعي أن أعتكف كي أحصل على ما يجول في ذهنك من مفاجآت وتوقعات.

سلمان: ما أحمله من أفكار بين يدي أستاذ شاكر.

حسن: يسعدنا أن نجدك بيننا كمناضل من أجل تحرير الشعب من نير العبودية.

سلمان: هذا هو توجهي الشعري والفكري وإن جاز التعبير أقول القلبي أيضاً.

أبولينين: رفيق سلمان حبذا لو وضحت لنا، أو ألمحت بطريقة موجزة، عن سبب إيمانك بالفكرة، لا بد من وجود دافع ما، شخصي، أو واقع حال مزري يحتمك النضال من أجل تغيره، أم لديك ما يبرر انتماءك لنا؟

جاء البوي، وضع بطل مسيح وبطل صودا وقدح ومكعبات الثلج وصحن زيتون وشرائح ليمون حامض وصحن فستق وصحن رقائق بطاطا على الطاولة. وضع سلمان مكعب ثلج في القدح وصب عليه الصودا وأكملها بالعرق، كرع رشفتين قبل أن ينطلق:

– حقيقة رفاقي، سأبدأ قليلاً من خارج مضمون السؤال؛ تقول أمي، قلت له: لا تقفل الباب! كانت داخل المطبخ، لحظة بدأ غضب والدي يتصاعد، كما تقول؛ أزبد وأرعد، نزل كلامي عليه كضربة عصا، أو حصى على رأسه، رفع قدمه اليمين وضرب الأرض بسورة غاضبة، عاط: سلمااااااااااان خارج البيت؟ نسى كتابه عند صديقه! لعنة الله على المدرسة، وعلى مدحت باشا*! هدئ أعصابك يا رجل! تقول لحظتها؛ صرت بباب المطبخ، كنت أقشر رأس بصل يابس، بسكين عكس وهج المصباح الأصفر، كبرق خاطف تزجج في عينيه، خمدت حدّة غضبه. تواصل أمّي كلامها لي وأنا واضع رأسي في حجرها؛ كان ما زال محتفظاً ببعض غضبه، يحاول أن يطحنها بأسنانه. تمكن من انتزاع لسانه من ثعبان الغضب: آه.. لو تسمعين كلامي يا أم سلمان، نحن فقراء، والمدرسة للأغنياء، حتى يصيروا أفنديّة ووزراء ورؤساء وحراميّة، لو تسمعين كلامي فقط مرّة واحدة! ألم توشوش في أذني كل ليلة؛ أريده أن يصبح مثل أبناء الناس ضابطا عسكريا، ماذا دهاك اليوم يا أبوسلمان؟ أتريده يصير كنّاس شوارع أو بيّاع حطب! لا.. لا.. لن أدعه ينام سالماً هذه الليلة! تفاقم غضبه، لم يتبق لنا كرامة بين الناس، كل يوم يرسلون في طلبي، لم أعد أمتلك وجهاً أمام المدرسين، كلما أدخل المدرسة، يعنفني السيد المدير؛ ابنك كسول ويصفن وينام في الدرس. سيمرغ هذا الولد رأسي ورأس عشيرتي بالتراب! الولد يحب الدراسة، ويريد أن يصير مدرساً، مثل أبوخشم العالي المعقد، عذراً؛ أستاذ شاكر، الكلام ليس لي، سأنقل ما كان يدور بين والدي أوان التجاذبات حول مستقبلي! يا امرأة؛ ابننا لم يعد ينفعنا، الفقر حطمنا، يجب أن يترك بيت الفساد ويرافقني في عملي كي نزداد رزقاً! كل التلاميذ كسالى، ليس هم السبب، كل من يعطي الهدايا يصبح ابنه ذكياً، تفو.. عليهم أولاد الخرا، خرا عليهم وعلى شهاداتهم القشمرية!

كلام أمّي، صار سلواي، كلما أتذكر لحظة توهج ذاكرتي بشرارة الحزب الذي عشقته في ليلة عانقت رواية “العقب الحديدية” لجاك لندن.

تعرفون؛ بيتنا عبارة عن غرفتي طين، سقوف الغرف حصران وأعمدة خشب متراصة بهندسة بريئة، دورة مياه في جهة اليمين عند مدخل البيت، لصقها حمّام لا يكفي لاغتسال نفرين معاً. أبي لا يعرف سوى ميكانيكية راسخة، علم الأزل وزوال العالم، علم الإنجاب، ببضع ضحكات وقبضة كلمات دربوه أسرار ليلة الدُخلة، كلام همسه في أذن أمّي، كنت صغيراً أجالس نساء الزقاق، وكن يتراشقن بماضيهن وأسرارهن، كنت ألتقطها من أفواههن. يوم جلبوا له زوجة التي هي أمّي، تم اختيارها وفق مزاج أمّه التي هي جدتي، أبوه الذي هو جدّي، لم يتدخل في موضوع زواجه، وكما هو سائد، ما تختاره الأم هو عين العقل والصواب، كما هو سائد في أغلب منازل البلدة، عليه أن يتهيأ لزراعة جحفل بنين وبنات في مزرعة العائلة. اخذوا أبي، صديقان تزوجا قبله، صوب التلال المحيق بالبلدة، أجلساه على حافة كن قرمزي، وهناك قول لا أدري هو هزل أم جد، يقول القول؛ أن أبي في تلك اللحظة هيجوا عاطفته، أخرج عضوه وبال من فوق حافة كن قرمزي، ويقولون كان هناك طالب يقرأ تحت، نزل بول أبي على رأسه، صاح، قبل أن يلوذ بالفرار أبي وصاحباه، في تلك الجلسة، شرحا له مهمته كزوج مستجد، ما يتوجب عليه فعله في ليلته الجديدة، بعدما يدخل عليها، طلبوا منه؛ أن يتهذب! أن يحافظ على رباطة جأشه! أن لا يكون كالحمار الهائج، أو الديك المخبول والمهوس بتلقيح دجاجات الزقاق كل لحظة، قالوا له: لا تستعجل قضيبك؟ لا تعر بالاً بحشد النساء والرجال الجالسين خارج الغرفة في انتظار عمّا تسفر العملية من رفعة رأس أم خذلان! علموه سبل ترويضها لو امتنعت، أو خافت منه، البنت غالباً ما تتردد، أو تريد أن تعرف شيء الفحل الصاهل عليها، إن كان مرعباً أو مخجلاً، قد تستحي وتنزل وجهها إلى الأرض، اعلم أنها تمنحك الفرصة الخالدة كي تبدي شطارتك وبيان صلاحية رجولتك، عندها يمكنك أن تصول صولتك وتصير رجلاً مثلنا، وبعدها؛ تأخذ دورك في تعليم شباب سيدخلون بيت المشاكل! علّموه كيف يواصل حياته القادمة بعد ليلته العسلية؛ كل لياليك التالية ستغدو روتينا مستعادا من غير تردد أو خوف!

مذ شب الأب، لم يتعلم سوى مهنة واحدة، اكتسبها من غير دراسة، من غير رأس مال أو سر قفليّة، وفكرة السر قفلية، كما تعلمون، راجت بين أصحاب المحال التجارية والمؤجرين، كان يحكيه لنا ليالي الشتاء، يقول؛ لم تجد نفعاً صراخات جامع الناس للصلاة، ملاّ البلدة، ذلك الذي نناديه؛ من وجد شمسية ابني محي له مكافأة درهما! تعرفونه، يوم كان معلماً في مدرسة جلولاء الثانية، ربما سمعتم؛ ذات يوم، فقد ابنه محي مظلته، وربما سرقه تلميذ مشاغب، وهذا كان أغلب الظن، طلب من مدير المدرسة أستاذ خالد العنبكي تجميعنا، لتشنيف أسماعنا بخطبة أخلاقية افتتحها: من وجد شمسية ابني محي له مكافأة درهماً! ظلّ يكرر الجملة، وشمسية ابنه محي لم تظهر، بل صار يكنى من لحظتها بـ من وجد شمسية ابني محي. في جُمعٍ متتالية ظلَ يكرر عبر خطب حماسية وصرخات مشفوعة بآيات وأحاديث نبوية شريفة، بصوت غاضب غايته، إحداث تأثير مباشر في النفوس المترددة وضعضعة القلوب القاسية، قلوب عديمة الرحمة: السر قفلية.. يا عباد الله.. شعيرة مستحدثة، تدخل من يتعاطاها باب الربا، من يتعاطاها مراب، ليس له محل من الدين والعقيدة الصحيحة مكان، شعيرة يهودية يريد بها أعداء الدين والدولة، أعداء السلطة، تلويث أبدان عباد الله وعبيده، وخفض درجات إيمانهم، كي تنهار وحدتهم ويغدوا فرائس سهلة الخرق، من يتخذها وسيلة كسب المال تخرجه من الملّة، يا عباد الله اتركوا هذه الخصلة القذرة! أكرر قولي وأقول إن من سرق شمسية ابني محي ما زالت مكافأته قائمة إلى يوم تظهر وتهدأ النفس من هذه البلوى التي باتت تأكلني كل ليلة وابني محي يطلبها وهو يبكي! ملاّ جامع البلدة كان في وادي سحيق يصرخ، والناس يسمعون جيداً ويصغون جيداً، ولكنهم ينشغلون بنباهة، ويتنافسون بطرق ملتوية، بغية توفير أكبر قدر من المال، وتحقيق هدف واحد يجمعهم، الاغتناء السريع.

مع الفجر، حين يرفع ديك الجيران عقيرته، يبكر أبي النهوض، يتوكل على الخالق، بعدما ينهي صلاته، الذهاب إلى الجامع يكلفه الوقت، صلاة الجماعة تنتهي قبل شروق الشمس بدقائق، وهو لا يملك وقتاً كي يصليها جمعاً مع المصلين، الجامع الوحيد يبعد عنّا كما تعلمون، مسافة عشر دقائق والعودة عشر أخرى، عليه أن يكون فجراً وقبل أن يلتهم الخيط الأبيض شوارد الظلام المتبقية داخل زور الحطب في منطقة مرجانه، الطريق إلى الزور يستغرق أقل من الساعة بدقائق، يتوقف ذلك على مدا نشاط حماره، هذا إن كان حماره متعافياً ولا يتلكأ في سيره، وضع في باله، أن الرزق أولى، وصلاة البيت مجزية لأصحاب العمل، ملاّ الجامع قال له ذلك، ومنحه رخصة الصلاة في البيت، شدد على نفسه أن يسبق الزمن، ولا يسمح للوهن، أو الجوع أن يتغلغل إلى بيتنا.

لوحة: يوسف عبدالكي
لوحة: يوسف عبدالكي

حياتنا تتفجر، والعمل مضن، لكنه جالب للرزق والعمل عبادة، والعمر لم يبقِ له من قوته ورغباته الشيء الكثير، يحمل صرّة فيها أرغفة، دائماً حسب متطلبات معدته، خبز وحفنة تمر زهدي، وأحياناً ثمرتي طماطم وخيار ترعوزي ورأس بصل، بحكم التجربة اكتشف أن البصل عقار عجيب، فياغرا الفقراء، يمنحه نشاطاً استثنائياً وهو يجندل الحطب ويرزمها، ويعطيه طاقة حرارية جنسية مغرية، تدفعه أن يسارع في عمله كي يعود سريعاً وينال حظوته، ومن يومها شدد على أن لا يهمله كممول ممتاز للطاقة ضمن وجبات غدائه. قبل أن تشوي شمس الصيف رأسه، وإغراق بدنه في نزيف عرقه، يكون قد جهز ظهر حماره بخمس باقات حطب، يكومها أمام البيت لتجفيفها قبل بيعها.

أمّي.. لا تعرف سوى طبخ بضعة أنواع من الطعام، ورتق الملابس البالية، فالدنيا غلاء والمال عسير المنال، والحياة تتفتق على مغريات بدأت تلهم الناس بجحيم الرغبات، تجيد غسل وكنس البيت، تلك ثقافتها الحياتية، أمّا نظراتها كانت توشى برؤية تعبيرية، غاضبة عندما تجد القسوة ملحاً يحضر لتغير لون وطعم يوميات العيش، تتدخل كلما وجدت رجلها غاطساً في أمواج الغضب، تروضه بحكمتها البريئة، بلسانها العسل، ببضع نقرات تطمح أن تغدو غزلية على صدره، قبل أن يسترخي الغضب ويتبخر، ويتحول إلى عاطفة شبه جارفة تنتهي بنومة هانئة.

نشأت أسير أحلام كبيرة، أجهل منابعها، تسكنني ليل نهار، تعذبني، تقلقني، تأخذني خارج واقعيتي، تمنحني فرص التفكير، رغم تشتتها لكنها وجدتها مغرية، كل فكرة تطرأ بذهني أشبه بفتاة جميلة تناديني، سرعان ما أجدها لعوبا، تغويني، أطاردها وأجد نفسي في متاهة، وهي غائبة، أجد واحدة أخرى واقفة، لا تشبهها، تكون غالباً أجمل وأبهر، تغويني، وهكذا دواليك من فتاة لفتاة، من فكرة لفكرة، أعيش متاهات ليلي، يتعذر عليّ استثمار مداعبات خيالي المتلبسة بالشعر والحكمة. في النهار أصفن، ليس في جلساتي فحسب، بل حتى أوان تسكعي وسيري المضطرب، كثيراً ما نطحت عابر سبيل، أو عمود كهرباء، مزروع منتصف الرصيف، ونلت صفعات مباغتة لا تحصى، جرّاء تهور خيالي داخل غرف الدرس وعلى أرصفة الشوارع، كلما أصطدم بامرأة أو فتاة، أو عندما يصطادني المدرس سارحاً خارج يقظتي، أتجول في مملكة خيالي. كلها كانت بوادر أوليّة لثورتي، دفعتني أن أخترق رتابة الحياة وأجابه الروتين القاتل.

في الليل أندمج مخبولاً مع النجوم والكوابيس، لم أهتدِ لقرارة نفس، تحاصرني كوابيس ليست ملعونة، تؤرقني أحلام كبيرة، فوق طاقة عقلي، تأخذني إلى مديات كنت أصفها ظالمة، فوق مستوى عقلي، بعدما يخلد لخدر الأعصاب، من غير مسك باقة نجوم أغوتني، لكنني وفقت أن أسحبها إلى حديقة اللذة.

مدرسو اللغة العربية، لم يكونوا بمستوى المسؤولية التربوية، أو بمستوى أمزجة وأحلام تلاميذ انسلخوا من سلطة الأب، ولدوا في زمان العطش والجوع والحلم والكوابيس والرغبة والسراب، ولدوا في أحواض الأسئلة المرهقة، تحاصرهم مشاعر متفجرة، تلفظهم سجون المنازل الطينية بحثاً عن منابع دغدغات فكرية، ينثرها هواء غامض، رطب ومنعش، يباغت ويدغدغ الضمير، تاركاً ساحات ملغومة بالفرح والحزن لكنها مكهربة بأسلاك الواقع، لم يكن من بينهم عبر كل المراحل، واحداً على الأقل تدغدغه موهبة أدبية، أو يمتلك هاجس مضيعة الوقت كما كانوا يعبرون من وراء أنوفهم المدببة، والمليئة بالمخاط، أنوف كأنها مناقير غربان، احمرَّت من كثرة نزف المخاط، أو من شدة عصرها بالسبابة والإبهام لإخراج سائل الزكام المحتقن منها، لا يملكون رغبة تثقيف، ولا فكرة استخدام ورق نشّاف أو محارم لإزاحة قذارات أنوفهم، أو بلاغم حلوقهم، لا يملكون هاجس أهمية المطالعات الخارجية، بعضهم جرّاء البخل، فهم لا يرغبون في دفع نقود من مرتباتهم من أجل أوراق محشورة، حسب تفسيراتهم الدائمة، بأكاذيب لا تنفع، تراهم يلبسون نظارات سوداء، ويجهدون بطرق مسرحية لا تعدو تمثيلات فاشلة، ليسيروا من غير استقامة، يحنون ظهورهم، ويسيرون باعوجاج كامل، أردافهم مرتفعة عمداً كي ينظر إليهم على أنهم قواميس كلام متنقلة، أو عناقيد أمثال حِكم حياتية، وربما عند بعضهم ألف باء الحياة المستقيمة، يلوون ألسنتهم لقول الأفعال الناقصة والخمسة أسماء التي يكرّرونها بتباه كأنها من بنيات أفكارهم، يعربون كل كلمة تنفلت من لسان ما إعراباً غريباً، بعضهم يجتهد، فترى رشق رذاذ بصاق ينقذف من فمه، وهو يجتهد لإعراب جملة عابرة تنفلت من لسان عابر، غالباً ما تنتهي المجابهة اللغوية بقهقهة مفتعلة يطلقها صاحب السؤال، ويختمها بكلامٍ نابي: العالم صعد للقمر، وأنتم مازلتم تسبحون في خبالكم القديم! لا أحد يمتلك حماسة، كسالى العصر، أو ينبوع حرص لضخ البراعم المتقاعسة، بأزاهير عطرة تنفخ في عقولهم، تفتح آفاق مديات ممكنة، فيهم مواليد أحلام أدبية، كما قرّت العصور، ومررت الدهور بساتين الجمال، فجرّت ينابيع الحريّة وأحلام القلوب المتورمة بالمشاعر، قول الحق والصدق، ولو على مساحة واسعة من الفراغ.

“العقب الحديدية” رواية وجدها سلمان الذي هو أنا، بيد مدرس متأنق، الذي هو جليسنا أستاذي ومعلمي شاكر، كان متحالماً يشرح، بطريقة دونكيشوتية، عقله مزكوم بحمى الفضول، هكذا كنت أصفه، بل حتى تمنيت أن أقلده،  ظل سلمان الذي هو أنا، يستغور غلاف الكتاب المتوهج بين يديه، عبر متاريس الورق، زحف من بين السطور، ملتهماً الرعب والسعادة بلفائف الدهشة، لا بد أنه كتاب مكهرب بأشياء ثمينة، قال عقلي؛ طالما هو كتاب غير منهجي، لا بد أنه يبث أشعة ساحرة، اخترقتني وأخذتني خارج الصف، إلى مساكن الليل، إلى مناطق حررتني من مستنقع الواقع وزجتني في مملكة الضياع.

مرتان أفقت على صفعتين ناعمتين، خال المدرس أن التلميذ الماثل أمامه، سلمان الذي هو أنا، يسكنه داء الصفنة، جاهلاً أنه تلميذ لا ينتمي لحاضره، ولد سهواً في بلدة كسولة، في زمن متراخٍ، في بيت طين تحت سقف غرفتيه كنز مدفون، دفنه القدر ليوم غير معلوم. احتاج سلمان لخمسة أيّام، بعذاباتها، بسهراتها، بفقدان ماء وجهه، بعدما وجد جوع العقل يلغي جوع المعدة، قبل أن يخرج من ثوب الأخلاق، كما تُفسر على إنه سيرٌ مخالف لتعاليم البيت، هروب معلن وفاضح من وعاء التربية والأخلاق، هذا التوجه المنفلت، وردة شائكة، ستخز جسد العائلة، لو أسقط نفسه في مستنقع البلادة، ستخرجها من واقع مؤزل، وتغدو علكة مجانية، دائمة الطراوة، تستقبل مقبلات تزركشها، لتمر تحت كل الأسنان، الصغيرة والكبيرة، الناصعة والمنخورة، المتعافية والمسوّسة، الكاملة والمركبّة، قبل أن تمررها أسنان الزمن إلى نهاية شجرة العائلة عورة تكبر إلى نهاية التاريخ.

لوحة: يوسف عبدالكي
لوحة: يوسف عبدالكي

كان يوم خميس، التلاميذ واقفون بصمت ومدير المدرسة كعادته، يقف منتصف المربع ناقص ضلع، خلفه الهيئة التدريسية، واقفون كأنهم نخيل متثاقلة بالرطب، خيالاتهم خارج الواقع، شلّة لا تجيد السبل كي تتخلص من جراثيم الكبرياء، واقفون مائعون، لو تسألهم عن جملة واحدة من خطاب جناب السيد المدير، لفاهوا بأشياء من بنات عجزهم، كان السيد المدير، يمسك ورقة الخميس، يقرأ تعاليم تربوية معادة على مدار الخميسات لكل الموسم الدراسي، وقد تتواصل لسنوات طالما السيد المدير يتمركز على كرسي الإدارة حتى نهاية حياته، أو طيلة فترة خدمته. إرشادات جديدة، جاءت مع مجيء الحكومة الجديدة، كان من الممكن رؤية بريق التذمر، سيداً ساطعاً على سحنات الجميع، مدرسون وتلاميذ والمستخدم الواقف أمام غرفته لا يفهم من الخطاب شيئاً.

من وراء الصف التلاميذي الموازي للصفوف، تسلل سلمان الذي هو أنا، إلى غرفة المدرسين، لم يهدر دقيقة واحدة، كل شيء مرصود، لهفتي عارمة ، كل خطوة مثبت في خيالي، كم خطوة أحتاج، وكم دقيقة تستغرق العملية، ومن أين أبدأ؟ ومن أين أمشي؟ وأين أدفن حلم حياتي؟ مشاعري لم تكن ملك إرادتي، كي أعد لنفسي حجم العقاب المتوقع، كل شيء مقفول، ضوء ساحر، يشبه الكابوس، يبهره ويستدرجه، منذ أيّام، نهاري شاق، وليلي ساخن، كل شيء تهيأ لركوب حصان المغامرة، هدف معسل يغويني، يستصرخنِ، هدف أكبر من كل أحلامي، كان بحق وحقيقة، هدف الثورة التي صنعتني.

حقيبة مدرس مادة اللغة الإنكليزية تتميز، حقيبة غير مألوفة، لا تشبه حقائب المحامين، ولا حقائب المسافرين، نسيجية بحزام طويل، دائماً كنت أراها تتدلى من على كتف المدرس شاكر، عكس جميع المدرسين، كانوا يأتون ولا شيء يحملون، كأنهم قادمون إلى مقهى وليس مدرسة، كانوا منشغلين بهم جارح، جهد مسعاهم تقليد طه حسين، كيف كان يمشي يحاولون أن يمشون؟ كيف كان يلبس نظارته بعدما فقد بصره، كانوا يحاولون أن يلبسون نظاراتهم، أكثر مما تشغلهم ثقافته السوبرية، وطريقة تنويره جوانب الحياة الحاضرة، رغم هجماته الطاعنة بقداسة الماضي وتفضيل البدع القادمة على مرتكزات اجتماعية راسخة في الأذهان.

الرفيق شاكر.. عندما يجيء إلى المدرسة، كما كان يراه، وعندما يغادرها أيضاً، سلمان الذي هو أنا، يرصده، يقف دائماً مستمتعاً بمشهد إنسان وسيم، ملابسه الغربية، طريقة مشيه، يسترسل شعراً طويلاً، سارحاً، لا يشبه شعر المدرسين، كلهم أصحاب شعر ملولب أو محروق، كلهم كانوا يقفون أمام المرآة ساعات طويلة، كانوا يريدون فرصة إقناع واقتناع بأشكالهم، أو فرصة تعديل شعورهم القنفذية، غالباً ما كان التذمر يقذفهم إلى حوض البؤس ليلعنوا أنفسهم وشكولاتهم المريبة، فقط شاكر، شعره ليس من زمن الحاضر، ربما هو شعر سقط سهواً على رأس واحد في بلدة جليلاء، شعر مذ هبط من رحم أمّه، وحتى يوم يواروه الثرى لا يحتاج إلى أسنان المشط كي يترتب وينسرح، حتى لو هبّ كل تسونامي الشتاءات لن يغير طبيعته، سيسبح مع موج الريح والرياح، لكنه سيرجع سارحاً كما كان، أراقبه يمشي، تتدلى من كتفه حقيبة مميزة، بيده دائماً وأبداً، يحمل كتاباً غريب العنوان.

وصل سلمان الذي هو أنا، مربع جريرتة، وقف يرتجف، قلبه انتفض وارسل رعد طبوله عبر شهيقه وزفيره، لم تسعفه دقائق الصمت، انصاع  لشيطان الرغبة، سحب الخرّاط وبيد مرتجفة سحب الرواية، مرتعشاً دسها تحت قميصه، تقدم ببطء، شعر أنه يرتدي حزاماً ناسفاً، مع كل خطوة كان يفقد جزءا من روحه، كاد يتراجع عن قراره، لكن صهيل الأرق دفعه أن يتدحرج إلى الأمام، قوّة ثورية لن تقبل الخضوع، تدفعه، قفل عليّ مسالك خطوط التردد، بعدما خرجت من باب الإدارة، في تلك اللحظة كان التلاميذ يصفقون، وكان المدير قد أنهى الفقرة الأخيرة من خطبته التربوية، سواء وصلت الفكرة، أم أنها لم ولن تصل أبداً، فالتصفيق واجب تربوي وسلطوي وأخلاقي، على الجميع أن يضربوا عنيفاً كفاً بكف، تصفيق تفجر أكثر مما كان يحدث، في فقرات الإرشادات والتعليمات توفرت مفردات جديدة، كلمات تتعلق بالحزب والوطن والحكومة، العز والشرف والمبادئ، البطولة والمجد وتأميم خيرات الشعب وبيان آذار، الأمة والصهيونية، والوعد المشئوم لمؤسس الدولة العبرية، الرأسمالية والاستعمار، حضرت كلمات الحرية والاشتراكية والوحدة، الأمة التي تحاول منذ فجر الضياع أن تلم شمل شتاتها، في معابثة إرجاع وسطيتها بعدما تشرذمت وتفككت وفقدت خصلة الشهادة على الناس، بعدما دالت وخضعت مشارق الأرض ومغاربها، شمالها وجنوبها، تكررت كلمة نظرية المؤامرة مع كل سطرين من الجمل الحماسية للسيد المدير.

توفرت فرصتي النادرة، توجهت نحو دورة المياه، وجودها قرب الحائط الخارجي لسياج المدرسة، وقصر ارتفاع السياج الخلفي، أعطتني الأمل الكامل بنجاح مهمة أقلقتني منذ خمسة أيّام، مذ رأيت “العقب الحديدية” تغويني للانتماء للثورة، عبرت السياج ودسست الكتاب بين الأحراش، أتذكر أنني وضعت عليه حجراً، تحت سطوة شعور لا إرادي، ربما شعرت من لاوعيي في تلك اللحظة، خوفي عليه، عدت أنتظر في دورة المياه حتى انتهاء حصة كلمة الخميس ومن حسن حظ الثورة طالت لأسباب إرشادية وتعليمات سلطوية واجبة دسها في رؤوس التلاميذ، رجعت إلى الصف، فاقداً وعيي، وضميري زاد من تعذيبي، تارة أقر بضرورة إرجاعه، أن ألقيه في أي مكان داخل المدرسة، السرقة الأولى، كما تعلمون، أقسى إجرام يرتكبه المرء في حياته، كونها خطا فاصلا ما بين مثاليته وانحطاطه، وسقوطه المذل ولا قيمته في باقي حياته، وتارة أصغي إلى نداء صارخ فيَّ، يأتي من مكان ما، من بركان عالمي، فيما بعد عرفت أنه نداء الوطن السعيد، نداء يحجمني عن فكرة التخاذل والتراجع، كما تعرف رفيقي، الثائر مشروع فداء، إن تخاذل فهو مندسّ، أو مرتدّ، أو خائن، ضوء ما قريب صرخ، ارقص رأسي بدوي عاصف، توضحت؛ ليس قبل أن تقرأها يا سلمان! لا أعرف أن كان الرفيق شاكر فطن لفقدان كتابه، هذا ما أقلقني في تلك اللحظة، لا بد أنه سيبحث عنه، إن كان قيد القراءة، فهو دائماً يحمل كتاباً معه أينما يكون، ربما، داعبني هاتف؛ وصل إلى صفحةٍ ما، وأوان الفسحة يواصل عكس البقية ينهمكون بالثرثرة الفارغة، يحاول هو استثمار وقته، على ما يبدو إنه انتهى منه، قرّ بالي على هذا. إنسان خيالي، يرفع أنفه كبطريق وهو يمشي، يتمايل ميلان العباقرة أصحاب الفضول والكبرياء، أولئك الذين كانوا ينظرون إلى أنفسهم كائنات ليست أرضية، تواجدت بين كائنات عابثة، لا أُبالية، بسترته المقلمة دائماً وأبداً، برباطه الأحمر، فيما بعد بدّل رباطه، لحظة تقاطرت من حوله العيون السلطوية، واتهامه بالماركسية، استبدل الرباط الأحمر، بالجوارب الحمراء، كائن واثق من نفسه، لا يعطي الأشياء من حوله أهمية تذكر، دائماً في باله عالم مفترض، يجتهد لتأسيسه، ما أن ينهي كتاباً، يبرز للعيون كتاب جديد، أهل البلدة يعرفونه، يصفوه: إنسان معقد!. كما تعلمون؛ وصفة شعبية شائعة، في مجتمعات البلدان المتأخرة، من يقرأ الكتب، أو يحملها، في عقلهم الحجري، ترسخت كلمة معقد. الرفيق شاكر الأخ والأستاذ لعب دوراً في بلورة وعيي الثقافي زرع في الثقة المطلقة بأهمية الكتاب والثقافة والقلم في مستقل الإنسان، والقلم كما قال لي ذات توجيه: سلاحك في الغد للعيش وفرض شخصيتك في عالم سيتوحش بالحروب والفتن والأوبئة! تركني أقود سفينة حياتي بعدما رسم في أفق خيالي مسالك العبور إلى ضفة الثورة، وكيفية تجنيب نفسي من مخالب القروش والكواسج الملتصقة بظهورنا.

لوحة: يوسف عبدالكي
لوحة: يوسف عبدالكي

تلك هي بداية النضوج الفكري، وولادة بركان الثورة في داخلي يا رفاق.

أبولينين: حبذا لو دوّنتها لي بغية أرشفتها، كلامك بلسم منحني الثقة بما أحلم به.

سلمان: فعلت ذلك، دونتها بطريقة غامضة، كتبتها بطريقة ملغزة.

شاكر: من خلال كلامك، أجد أنك تميل للسرد أكثر مما تمتلك روح الشعر، ركّز على السرد في أيّامك القادمة، ما يسكنك لا يستوعبه إلاّ وعاء السرد.

سلمان: حقيقية أستاذ شاكر، قراءة الروايات دسّمت خيالي وحررت أحلامي ومنحتني طاقة بلا حدود للكتابة.

حسن: أتوقع أنك مشروع مستقبلي للأدب رفيق سلمان.

أبولينين: ستكون زهرة جلساتنا رفيق سلمان منذ هذ الليلة.

سلمان: رفقتكم ستمنحني طاقة مضافة، ومساحة واسعة كي أواصل ثورتي في عالم الأدب والمغامرة من أجل الثورة عليهم.

صفق أبولينين، كان الليل قد انتصف، جاء البوي يركض، دفع أبو لينين الفاتورة وخرجوا إلى الليل يجرجرون تعتعتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مدحت باشا: سياسي إصلاحي ووالي عثماني نصب والياً على العراق عام 1869. أدخل إلزامية التعليم إلى مدارس العراق، وفرض الخدمة العسكرية الإجبارية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.