القارئ‭ ‬يفتش‭ ‬عن‭ ‬السرد

الاثنين 2016/02/01
لوحة: فؤاد حمدي

بالتأكيد القصة القصيرة مصابة بقدر ملحوظ من التراجع، وهو تراجع بدأت ظلاله تلوح مع ظهور مصطلح “زمن الرواية”، مرورًا بمقاومته من قِبل القصاصين والشعراء، ثم الاعتراف الجمعي، معلَناً أو غير معلن، بسيادة الرواية كجنس أدبي يحتمل احتواء العالم

وقد مرّت أساليب القصة بمراحل للتطور‭.‬ وربما أن هذا التطور تجلّى في حقبة الستينات، مع كتّاب كرسوا لبعض الأساطير حول هذا الفن، لكن بغض النظر عن هذه النقطة، هناك فرق كبير بين ما كتبه تشيخوف وبين ما كتبه يوسف إدريس، رغم البعد الكلاسيكي والإسقاط المباشر بين الاثنين أحيانا، ثم جاءت النقلة إلى قصة أكثر حداثة عند يحيى الطاهر عبدالله ومحمد البساطي وإبراهيم أصلان، وهي أيضًا تختلف كثيرا عما يكتبه اليوم أنيس الرافعي ومريم الساعدي أو حتى روائيين يكتبون القصة القصيرة كطارق إمام ومنصورة عزالدين‭.‬ هناك تطور طبعا‭.‬

ولا أعتقد أن التجريب أفقد القصة القصيرة أهمّ مميزاتها كجنس أدبي مستقل، ولكن يبدو أن المتلقّي بات أكثر احتياجا لجدارية سردية ينشغل بداخلها، بالإضافة إلى العوامل التي تحدّثنا عنها مثل الجوائز الأدبية الكبيرة والتسليط الإعلامي على الرواية، ولكنّي أتصور أن الكتابة الحُلوة تجد متلقيها أيّا كان الجنس الأدبي الذي يقدمها‭.‬

ولم تتحول لغة القصة القصيرة لتصبح أقرب إلى الشعر وفضاءاته منها إلى السرد، ولكن أعتقد أن هذا الانطباع له علاقة قوية بالانتصار الذي حققته قصيدة النثر العربية أمام ما سبقها من أنواع شعرية، حيث يجدها البعض مرادفا لحلقة كانت مفقودة بين القصة والشعر‭.‬

ولو أن الراهن العربي والإنساني هو الهمّ الذي ينشغل به الكاتب، وأقصد الكاتب الحقيقي، فسوف يصلح أيّ جنس أدبي ملائما لمعالجة انشغالاته، ولكن تظلّ طريقة التناول وحساسية الطرح هي الفيصل النهائي في المسألة‭.‬

ويأتي هجران أغلب القصاصين كتابة القصة القصيرة إلى الرواية، لأن التلقي العام للرواية والتسليط الإعلامي أصبح مغريا للكاتب، ثم من ناحية أخرى أتصوّر أن هناك جانبا كبيرا له علاقة بظهور جوائز مالية، لا قِبل للكتّاب العرب بها، خُصّصت لفن الرواية، ليزداد الأمر ترسّخاً بانسحاب كثير من الكتّاب لشروط هذه الجوائز بدءاً من المعايير الفنية والأخلاقية، وصولاً إلى معيار الحجم، لتظهر روايات “الكعب” العريض بكثرة على غير العادة‭.‬

وأتصور أننا لسنا بصدد حالة احتفاء بالقصة كجنس أدبي، ولكن أمامنا ما يمكن تسميته بانتقائية المتلقي، وهو نفس الحال الذي أصاب فنونا أخرى تراجع الإقبال الشعبي عليها مثل المسرح، ولكن تلمع بينها حالات استثنائية‭.‬ وأنا لا أرى اضطرارا للوقوف دفاعا عن فنّ لم يعد جذّابا للمتلقي‭..‬ إذا كان هذا الجنس الأدبي لم يعد مشبعاً أو جذاباً للجمهور، فلا عليك‭.‬ البشر لن يتأثروا بحالة التراجع هذه‭.‬ هُم فقط سيستبدلونه بآخر أكثر ملاءمة لهم في هذا الزمن، خصوصا في ظل عدم إدراك الفنان لضرورة تطوير نفسه بتطوّر المتلقي‭.‬ أنت تكتب القصة القصيرة ليس دفاعا عن استمرارها، ولكن لأنك ترى في النص الذي بين يديك قربا من هذا الوسيط الفني أكثر من غيره، ليس إلا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.