القصة ليست مكانا آمنا

الجمعة 2019/03/01
لوحة: محمد خياطة

تراقب البحر الموحش مدركة أن الطوف الذي تتوسطه يرتج، يحوّل مساراته، يعافر الثبات لكنه لن يتحطم، فهو أتى في لحظة سحرية هائلة، وجدته على غفلة، بعيداً عن تجاربها الشعرية. فمثابراتها التي ضربت بها أرض يباس القصائد، لم تورق إلاّ القليل الزهيد، فما استوى نبتها ولا علت ولا نضج ثمرها. كان الشعر خيار الرغبة في الوصول إلى الإله/الأب، العاشق الذي يكتب وريقات مشبعة بالرومانسية والحلاوة، دون دس نصوصه لرهانات النشر، أما الابنة فطموحاتها سعت لاستنساخ خيار أبيها الشعري والمضي لغزو القارئ. لكنها فقدت صوتها لعشر سنوات إثر رحيل الوالد المروّع، فحادت عن الكتابة.

في لحظة استيقاظ مفاجئة أخرى استجابت لحبال أسئلة تدلت، وهي قابعة في جرف اليومي واللامبالاة، في هاوية اللاجديد سارعت إلى النهوض للتسلق والخروج.

وجدت إجابات شكوكها الوجودية وإلحاحها بين محاولات موسيقية في عزف شارد على العود، إلى إمساك ألوان ريشة عصيّة على الدهشة، لترجع أخيرا إلى بوابة الشعر، هذه المرة أنصتت سريعاً لمزامير الحقيقة فجنحت للسرد. في قفزة واحدة اتجهت إلى شواطئه، وضعت نصب قلبها احتمالات المضي في مجاهيل بحار غامضة الاتجاهات، تجابه بإصرار إعصارات تقليدية، زعيق الرافضين للتجريب، عجين الثرثرات الوصفية الكثيفة، سخاء النص في المباشرة، أزاحت كل هذا عن نصها، مصرّة على أن القصة خيارها الأحب وليس الأوحد، دون تعمد الاتجاه لنهر الرواية في عذوبة مائها واستقطابها للواردين، شهرتها في عشب الجوائز وتشعبات غدرانها، رأت بها إيغال طين التكرار والاستسهال من البعض، لم تشعر أنها تحكم قبضتها عليها وتستطيعها، لم تشغف بها، ولا رأت ضرورة خوضها.

كانت القصة لها فتنة الاكتشافات في انكماشها بعيدا عن استهلاكها، هكذا مضت تبحث عن طوف الكتابة في القصة، لتضع صرختها في الريح، تخبر النوارس عن حكايات مبتسرة تبحث فيها عن خصوصيتها، وتصطاد سمك الدهشة،  قررت معالجة تجاربها مرة وأخرى فأخرى لتمضي إلى نكهات الأنسنة، الاختزال، التكثيف، تخلخل السرد، ففيها ترتكب المتاهة، تشد أوتاد القصة عبر المفارقة، تنثر موج المكر والتلغيز والإيحاء دون كثير إفصاح في نص يميل للغة الشعرية، وتظل تفتش كلما ركن طوفها إلى يابسة ما، تسير بين أركانها، تعاين نضج نصوص السابقين والحاليين، إمعانهم في التحديات، فتبحر في سكونات الأيام أو ضجيج العواصف، تصمت طويلاً قبل أن تدفع نتاجها، كانت تظن أنها متأنية، متمهلة، فوجدت أنها بطيئة بإفراط.

هكذا تمضي برحلة أوديسيوسية لا تريد لها بوعي تام أن تنتهي، فالكاتب لا يقف عند ميناء، هو يخشى الرسو في مكان واحد، يخاف نضوب المسالك وتفكيك روح المغامرة في النص، مأزق يلاحق كل من تنازل عن الثبات، والقوالب الصلدة وأختام الجودة التي يتبرع بها الآخرون، الكتابة متفلتة والقصة لا تعطي نفسها إلا لمن ألقى نفسه في عباب موج التجربة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.