القفص والسماء

السبت 2020/02/01
لوحة وليد نظمي

أراك

أغلقت الباب خلفي، وانصرفت. مشيت في الاتجاه الآخر أمد الخطى منتصبة القامة كما لم تكن قامتي منتصبة يوما. استنشقت الهواء النقي الذي مضى زمن لم يملأ صدري، ورحت أستضئ بنور الشمس التي غابت عن وجهي أمدا.

سرت في جسدي قشعريرة أشعرتني أنني مازلت أحيا، وتسللت رغبة البقاء إلى روحي التي أتعبتها السنون التي جثمت فيها على صدري، وأنا أقف عند قدميك أقدم لك ولائم الطاعة، وأرتب لك مواعد الاشتهاء.

تحترق حدائق عمري كل مرة تلجها، وتذبل الزهرات التي تستنشقها. كانت أنفاسك فتيل حريق يذيب الشمعة فيّ، وأنا هناك أستظل بركن الزاوية، أحلم بزهرة تتفتح في صدري يوما تكون بداية عمر جديد، تمضي السنوات، تمضي قطارا يمخر عباب حياتي التي فرغت إلا من صوتك الذي يأتي من مساء إلى مساء، يزمجر في وجهي وأنت تبتسم، تنتقي أرق الكلمات لتهدهدني وأنام دهرا، وقد نسيت الحلم الذي في صدري.

صباحا عندما أنظر في المرآة ينكسر وجهي أمامي، وتتفتت ابتسامتي التي ظللت أرسمها على وجهي لأخبئ الحزن الذي تعرش أشجاره في صدري حتى كادت أغصانها تخنق صوتي، ولا أعود أستطيع الكلام، فأنكفئ على ذاتي المتعبة.. أسبح بنظراتي الشاردة في هذا البيت الواسع، أحالني كما ذلك الشاعر الواقف على الطلل، أقبّل ذا الجدار وذا الجدار، وأهيم في ساحة الدار أنقر بعيوني الأشياء، والأمكنة.. أناجي الحلم المبعثر في أعماقي، فتدمع عيني، عندها ألملم ذاتي المتشظية، أستجمع أنفاسي الضائعة بين سحب ما مضى، وما سيأتي.

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديار

إيه يا قيس! مضت القرون، ومازال شعرك النابض فينا..

أراك، وأنت تهيم على وجهك في تلك الفيافي، ولا من يسمع صوتك إلا صوتك، ورجع صدى الصحراء يملأ صدرك. فحيح الرمل يحاصر سمعك، وأنت تشكوها حبك وهيامك، ورحلة الفقدان فيك.

كنت وحدك تقاوم ريح الصحراء، تحاول أن تستدرجها إليك لتأخذك بعيدا عن الزمان والمكان، لعلك تنسى الحب الذي سكن الفؤاد، وما أراد إلا أن يكون فيه، أو لعلها ترق لشعرك، وتأتي بحبيبتك إليك فتهدأ روحك، وتستكين ذاتك فتنقطع عن الهجير. كنت تحلم وتحلم.

وأنا حلمت طويلا في هذا البيت الواسع المؤثث بأفخر الأثاث وأفخم الأفرشة. أقلّب نظراتي في قطعة البهية التي انتقيتها بعناية كما عادتك.

لكل قطعة ذكرى تسكنني، تمثل أمامي، أراها، أحدثها عن لحظة اللقاء بها. أحكي لها عن مدينتها، عن موطنها، عن تاريخها. أصف لها اليد التي صنعتها وأقص لها شغفي بها، وأني جئت بها لتكون بقربي تزين عالمي الصغير.

تمضي السنون، أراك تمد الخطى نحوي، تضع حلمي في كفك، وتخبئه بعيدا عن بصري حتى لا أرى سوى هذه القطع التي صرت منها.

أقلب بصري في السقف، في الجدران. أسمع صوت أمي.

احرصي على بيتك، كوني العين الساهرة لزوجك، كي لا ينقصه شيء، وهو يحبك. ستعيشين كما الملكات. وأنا يا أمي سحرني كلامه، همت به فلم أعد أرى سواه، آه يا أمي كم كانت وصاياك غالية!

أين أنت الآن لتسمعي أنين روحي؟

آه يا أمي، كم كنت طفلة مطيعة لك وله!

أين أنت الآن لترينني تحفة في هذا البيت الواسع، وحده ذلك العصفور الذي أحضرته من مدينة العشاق “فنيسيا” يؤنسني، يذكرني بأنني أسمع وأرى، لي قلب يرق وقد يقسو، وبأنني لست قطعة أثرية تزين المكان، وتبعث السعادة في نفس مالكها.

هذا الصباح يا أمي أطلقت سراح العصفور الذي رافقني أعواما، دمعت عيني وأنا أفتح له القفص والنافذة، لكن قلبي غمرته الفرحة وأنا أراه يحلق بعيدا يستنشق هواء الحرية.

ليتني كنت أمتلك هبة الرسم لشكلته في لوحة خالدة وهو يرفرف عاليا مبتهجا بنور الشمس، فرحا بالفضاء الفسيح.

أشعر الآن بالسعادة التي كانت تملأ قلب دافنشي، وهو يطلق سراح طيوره، يرقب حركاتها، يستشعر فرحها يجسدها ألوانا لا تموت في لوحاته التي كتب لها البقاء لأنها كانت طالعة من القلب، ألوانها دم الروح.

كم مرة يا أمي كنت أنتبه للخادمة، وهي ترمقني بنظراتها الحزينة في صمت لا يكاد يغادرها، كنت أحس وهي التي فقدت زوجها، وتسعى في الأرض لتطعم أولادها من عرقها النازف أنها تشفق علي أنا الغارقة في الرفاه.

قبل عام حركني كلامها، وهي تغادر البيت ذات مساء شتوي بارد.. نظرت إليّ مليا، وبصوت أجش تكاد الدموع تخنقه وقالت:

انتبهي إلى نفسك، لا تتركي العمر يضيع من بين يديك، لا تصدقي كل ما يقال.

ما سألتها ماذا تعني، وماذا تريد أن تفهمني، كأني كنت خائفة من الإجابة، وما عادت هي لمثل ذلك الكلام مرة أخرى.

 الآن أدركت أنها هي المرأة البسيطة المطوقة بالتعب، كانت تعرف ما لا أعرف، تدرك ما غاب عني سنين عددا، وأنا مدثرة بحلو الكلام، أحادث أيقونات المكان.

كان يقول: انتظري، أصبري، ما حان الوقت بعد، أمامي مشاريع سأنجزها، بعدها سأتفرغ لك، وللأولاد، نكون معا. لا أريد أن أنجب أولادا يكبرون على الشوق إليّ، ولهفتي إليهم، لا أريد أن أتركك تشقين، وتتعبين وحدك.

كنت ألتف بعباءة كلامه الحلو، واستغرق في الحلم وحدي مرتشفة سنوات الانتظار.

تلك العباءة تمزقت، وانكسرت الأحلام في صدري وأنا أراك تمد الخطى نحوي. أقترب نحوك، لا تراني كما الظل كنت، كما الغمام. استدرت وما رأيتني. كنت مزهوا بما تمسك يدك، لا ترى إلا ما في يدك، ولا تسمع إلا صوتا يطلع من بين يديك يناديك: أبي!

ابتعدت خطوات، وأنا أتعثر بقدمي اللذين أتعبهما المسار. ضجيج الشارع اختفى، واختفى كلامك من صدري، ما عدت أسمع إلا صوتا قادما من الأعماق صارخا فيّ: أمي!

اللّوحة

لوحة وليد نظمي
لوحة وليد نظمي

أقف الآن على المنصة، أحمل اللوحة بيد، والجائزة بيد، أنظر إلى الجمهور الذي تغص به القاعة، وهو يصفق، وزغاريد النساء تتعالى.. أنحني تحية لهم، أرفع رأسي، أرى وجهك بين الحضور وقد اكفهرت أساريرك، وانتفخت أوداجك، وأخرجت مسدسك، وأفرغت رصاصاته في لوحاتي، وألواني.

كان دمي ينزف، والألوان تسيل من العلب، والقارورات، وتلطخ سطح الغرفة، وأنت تصرخ في هستيريا:

 – لا أريد هذه اللوحات في بيتي، لا أريد لهذه الشخوص أن تزاحمني مكاني، أبعدي عبثك هذا عني. تكلمت، وتكلمت، كنت أفهم شيئا، وتغيب عني أشياء، وأنا مكومة في الزاوية أنتظر دوري، أنتظر الرصاصة التالية تقطع شرايين القلب، وتسكت صوتي الطالع من لوحاتي.

كم مضى من الوقت، وأنا مكومة هناك؟.. لا أذكر سوى صوت الممرضة وهي تقول: إنها الآن في أحسن حال، لقد استعادت وعيها.

يومها تمالكت أعصابي، حاولت بكل قوتي، بكل إيماني أن أظل ثابتة، وألا أفقد نور عقلي، ولا أرى جسدي يفقد لونه.

تحسست أعضائي عضوا عضوا، وحمدت الله أن أصابعي مازالت تنبض. يومها غادرت زمنك، حملت حقائبي الصغيرة، ورحلت بعيدا. اقتطعت ذاتي من ذاتي، ضمدت الجرح بعظمي، وفتحت الدرب الذي لست فيه، ومشيت.

كم مضى من عام؟.. سنوات العمر تمر، والأحلام التي رسمت ألوانها ذات مساء خريفي، وأنت تقف أمام لوحة من لوحاتي في معرضي الأول بتلك المدينة التي شهدت طفولتي وصباي، ولونت أحلامي الصغيرة بألوان قوس قزح.. وقفت طويلا أمام تلك اللوحة، كانت امرأة قد استضاء وجهها وهي تخرج من ظلال الليل لتتلون بنور الشمس.. في نظرتها كان التحدي، وفي ابتسامتها كان السكون. قلت لي يومها:

– أعجبتني هذه اللوحة، أحب المرأة التي تنظر دائما نحو الشمس، نحو الأفق البعيد متحدية، مصرة على أن تلامس بيديها النور مهما كانت شدة العتمة التي تحاصرها فهل أنت مثلها؟

أجبتك:

– ربما.

ولكن في أعماقي، أعجبتني كلماتك، أردت أن أعبر لك عن إعجابي بتفكيرك، بتحليلك ولكني التزمت الصمت، وانصرفت.

في صباح الغد سبقتني إلى المعرض، وجدتك واقفا أمام اللوحة كما أمس. اقتربت منك، وقبل أن أتكلم بادرتني:

– لا تعجبي، شدتني هذه اللوحة فأردت أن أعود لأتأمل خطوطها، وأستشف خباياها، ولم لا أشتريها إذا أمكنني ذلك؟!

وبلهفة لم أعهدها في تصرفاتي قلت لك:

– هي هدية لك، تعال وخذها يوم انتهاء المعرض، ستجدني في انتظارك. أنا متأكدة أنك ستحفظها كما تحفظ هذه الرموز التي تزين كتفيك.

ابتسمت وأتت ترد:

– سأضعها في أفضل مكان أراه، ستكون مؤنسة لي، تودعني عند المغادرة، وتستقبلني عند العودة.

لكم أسعدتني تلك الكلمات، وكأنها كانت لي أو كأني أردتها أن تكون لي!

كنت أتمنى ألا تنقضي أيام المعرض، وأن تظل لوحاتي معروضة للناس، وأنا أجول بينهم أرى الدهشة في عيون هذا، وأقرأ السؤال في عيون ذاك، وألمس الإعجاب في نظرات تلك، فأخالني أميرة تقطف الورد من حديقتها المفتوحة على الأحلام الجميلة، لكن فجأة وجدتني أستعجل الأيام لتنتهي مدة المعرض، وأراك مرة أخرى.

وحانت لحظة اختتام المعرض، وجدتك كما ذلك اليوم واقفا أمام اللوحة، ودون أن أعير انتباها لمن حولي أسرعت إليك كطفلة مزهوة بهدية جاءتها على حين غفلة. أمسكت بيدك، وأنا أقول:

– خذ اللوحة هي هدية لك كما وعدتك، لن أكتب عليها إهداء فهي الإهداء، والأغلى يهدى إلى الأغلى.

 كأن تلك الكلمات التي لا أدري كيف خرجت من أعماقي قد لامست شغاف قلبك فافترقت شفتاك عن ابتسامة صغيرة أوحت لي بسعادة غامرة قد جللت محياك.

وأنت تحمل اللوحة أحسست أنك تحمل وليدا بين يديك، شعرت بالسرور لأن لوحتي العزيزة على قلبي ستكون في يد آمنة، وأحسست بالغيرة لأنها ستكون معك، وأكون أنا بعيدة.

لم تطل الأيام، وإذا بك تقف أمام باب المعهد، ودون مقدمات طلبت الارتباط بي، ودون أن أفكر قبلت.

لم أحاول أن أسأل من أنت، وكيف هو ماضيك، وما المستقبل الذي تفكر فيه، ولم أعر تحذيرات أمي اهتماما.

قادتني مشاعري إليك فراشة، أرادت للدرب أمامها أن يستنير، فأحرقها نور المصباح قبل أن ترى ما حولها.

مضت الأيام الوردية، الأيام الحالمة سريعا، وارتديت ملابسك الأولى وأعلنت عنك كما لم أرك، كما لم أستشعرك، قذفت بي من أعلى الصخرة لأرتطم بموج لم أعرف كيف أقاومه.

وجدتني وحدي في مواجهة ماضيك: كانت هنا تملأ حياتك، وكنت هنا تصنع الأحلام لك ولها، كنت منتش بوجودها، وعندما أفقت وجدت لها أحلاما أخرى، وأنك لم تكن في حياتها سوى عابر سبيل ينتهي زمنه في اللحظة التي تختارها له.

فتشت عنها، وفتشت، ولم تعثر على أثر لها، ضاقت الدنيا بك على اتساعها، وأقسمت على الانتقام فأحرقت كل السفن التي قد تبحر بك نحو شاطئ الأمان.

رأيتك تخرج من بين الحضور، كنت أنت، كان وجهك الحاضر الغائب، كنت تقترب، وكنت أبتعد.

ممرّ ضيق بين مبنيين.

الرسالة بالعامية الجزائرية.

حزام يتشكل من دراهم ذهبية، تزيّن به النساء فساتينهن في بعض المناطق.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.