المرآة

 فصل من من رواية
الجمعة 2020/11/06
لوحة: إسماعيل الرفاعي

أنا في غرفة باباي الشيخ يوسف العفيف شيخ مشايخ “تاكنسة”، وهذه المرأة الجالسة على “بنك” خشبي فخم هي عروسه الجديدة. كنت أرى وجهها لأول مرة. كان باكيا. جلست تمسح دموعها وأخت الشيخ يوسف بجانبها تحاول تهدئتها وتكلّمها بصوت خافت. لم أسمع من كلامهما الشيء الكثير. بدت لي صغيرة السن جدا. قد تكون في سنّي أو في سنّ أختي نسريّة.

ربما كانت تبكي رعبا من حياتها الجديدة أو تبكي لأنها سمعت صوت بنت المشّاط ضرّتها فأوجعها الموقف وهي بعيدة عن أهلها! لا أعرف. ذهني كان يسافر من فكرة إلى فكرة دون راحة. تفرقت حواسّي في الغرفة كعصافير صغيرة فضولية جذلى تلتقط كل ما يعترضها بلهفة. أذناي كانتا تحاولان سماع شذرات الحوار الهامس. وعيناي تجولان في الغرفة بين الأثاث الفخم والزخرفة التي تجمّل السقف وحليّ العروس وجمال وجهها الأبيض وشعرها الفاحم. أما أرنبة أنفي فكانت كفأر صغير يُطارد رائحة الطعام التي غطّتها أخت الشيخ في انتظار أن ترضى العروس وتمدّ يدها لتأكل. كانتا غافلتين عنّي، وهو ما سمح لي بالمكوث طويلا تحجبني عنهما السّتارة، وواصلت عيناي الجولان في الغرفة الفخمة. كانت طويلة قليلة العرض.

ومن حيث كنت أقف، رأيت خزانة خشبية كبيرة بدفّة واحدة تتوسّطها مرآة واسعة. كانت الخزانة مرتفعة أيضا تنتهي بتاج خشبي مزخرف بالورود والأغصان يعلو المرآة الكبيرة النّقية الصّافية.

تجوّلت فيها عيناي بسرعة ثم غادرتاها، لكنهما عادتا إلى التّحديق فيها من جديد. كان هناك شيء ما يحتل وسطها. إنه أنا. تلك الفتاة التي وجدتها في المرآة هي أنا. وكانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها نفسي!

داده الزينة زوجة عمي عندها مرآة صغيرة تعلّقها على الحائط وهي لا تتجاوز مساحة كفّ اليد. لها إطار بلاستيكي أخضر. لا تسمح لنا باستخدامها أو النظر فيها. ولا تخرج من الغرفة أبدا. لذلك رفضت عيناي أن تتزحزحا عن هذه المرآة الكبيرة التي رأيت فيها نفسي لأول مرة. وأعتقد أنني سأتذكّر هذا اليوم جيدا لأن ما رأيته أربكني. إنه الجسد الذي أسكنه. أول ما شدّ انتباهي أنني كنت حافية. قدماي كبيرتان بعض الشّيء وهما معفّرتان بالتّراب.

لأول مرّة اكتشف لوني الأسمر القمْحي الداكن. فستاني كان فستانا قديما لأختي نسرية. لبسته في أحد الأعياد ولمّا صار لا يناسبها جاء دوري لألبسه. كان طويلا يغطي قصبة رجليّ، فضفاضا بكمّين قصيرين تمزق أحدُهما عند الإبط.

هذا الفستان سترتديه أختي غزيل حين يصبح أصغر من مقاسي. لذلك يجب أن أخيط ذلك المكان الممزق وأُحسن الحفاظ على الفستان. كان أزرق سماويا بورود بيضاء صغيرة بدا فيه نهداي في حجم حبّتي خوخ.

أما رأسي فكان قصّة أخرى. الوجه أسمر قمحيّ داكن، والعينان سوداوان كبيرتان يغطّيهما حاجبان كثيفان. أدهشني ما رأيت. أنفي صغير يترك المكان لشفتين ورديتين كبيرتين.

رفعت يدي لأتلمس إحداهما، تلك التي ضربتني عليها داداي الزينة ذات يوم. فوجدت الندبة هناك عند زاوية فمي. أحدثت نتوءا شوّه منظر الشفتين. كان هناك في أحد حاجبيّ جرح قديم التأم وترك علامة بيضاء قسمته جزأين. يد الزّينة في كل مكان من جسمي وعلاماتها كثيرة.

شعري كان شعِثا في مقدمة رأسي لكن الجديلة التي رتبتها أختي نسريّة يوم أمس ما تزال متماسكة لم تُفكّ. تتدلى ورائي كثعبان أسود يزحف فوق ظهري ويهتز كلما ركضت حتى كأنّه يجري ورائي ويضرب ظهري.

أمسكت جديلتي لأوّل مرة ووضعتها على صدري فتجاوز طولها خصري. تمنّيت أن تطول هذه اللحظة أكثر فحبست أنفاسي حتى لا تتفطن إليّ العروس وأخت زوجها.

لم أشبع بعد من صورتي في المرآة. كانت تحمل كل تاريخي. ومنها تعرفت على البنت التي تسكن جسدي. كانت تنظر إليّ هي الأخرى نظرة مندهشة نافذة تتفحّصني بها. كل شيء فيها يشبهني لكنّها مختلفة عني. لا أعرف كيف؟ ولكني أشعر بعد وهلة أنّني وهي اثنتان ولسنا واحدة كما ظننت في البداية.

لم أستطع أن أفهم سر الاختلاف لأن تلك كانت اللحظة التي انتبهت فيها المرأة المسنّة إلى وجودي في الغرفة فسمعت صوتها القاسي ينهرني وينبهني إلى أنني موجودة في مكان ممنوع.

“مش قتلك اكنسي الساحة؟… أش تعملي هنا يا طفلة؟ اطلعي لبرة.”

آنذاك عادت لي كل حواسي التي أطلقتها في الغرفة لتستكشفها وتشبع فضولي لمعرفة خباياها وأسرارها. فجمعتها في حضني وخرجت مسرعة من هناك وقدماي السّمراوان الدقيقتان تدقّان الأرض كمسمارين حديديين خرجا من تحت يد حداد نشيط ماهر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.