المصعد

الثلاثاء 2022/03/01
لوحة: عدنان حميدة

حدث كل شيء داخل المصعد الآليّ.  لم يتطلّب الأمر الكثير من الوقت أو الجهد، تماما مثلما لم تتطلّب المسألة خطّة مسبقة للتّنفيذ لا هامش فيها للخطأ. فقط كانت كل أدوات التّنفيذ متوفّرة ساعتها، والمكان كان عاملا حاسما ومحفّزا لما سيحدث لاحقا، لكن هذا لا يمنع من القول بأن الأمر بدا محفوفا بالمخاطر المحدقة، ربما الإحساس بالتسرّع. ربما يكون الأمر ذلك، ولكن الشّعور بالاطمئنان داخل ذلك المصعد الآلي كان شعورا طاغيا، هو شعور نابع من الأعماق لا تشوبه شائبة مثلما يُقال، شعور سدّ جميع المنافذ التي يمكن أن يتسلّل منها الخوف أو التوتّر أو الارتباك والقلق.

الشّعور بالاطمئنان داخل تلك الأماكن يبدو شعورا غريبا وغير طبيعيّ، إذ عادة، أو في الغالب الأعمّ، ينتابنا الشّعور بالتّوتر والخوف والارتباك داخل تلك المصاعد الآليّة، ميكانيكيّة كانت أم كهربائيّة، بل هو الشّعور الأكثر التصاقا بأي إنسان يجد نفسه داخل ذاك الصّندوق المعدنيّ المتحرّك. رُهاب المصاعد أو فوبيا الأماكن المغلقة والمرتفعة كما يقول أطبّاء النّفس. تنقبض فيه النّفس وتصبح كل الحواس مستنفرة ولا هدف لها سوى لحظة انفتاح باب المصعد والخروج من القفص الصّاعد أو النّازل قبل أن يصيبه عطب ما، وما أكثر الأعطاب والأعطال التي تحدث للمصاعد، تماما كما أعطاب الحياة وأعطالها.

في النُّزل والفنادق الفاخرة مثلا، ابتدعوا فكرة المرافقة الموسيقيّة داخل المصاعد لتخفيف وطأة خوف مستخدميها من تعطّلها، أو ربّما لصرف أنظار النّاس وهواجسهم عما قد يُفسد مُتعتهم بأيّام الرّاحة والاستجمام التي يقضونها داخل تلك الفنادق والنُّزل. فنادق أخرى، أضافت إلى المرافقة الموسيقيّة، مرافقة بشريّة يؤمّنها الأعوان والعملة الذين يقومون بحمل حقائب النُّزلاء وإيصالها إلى غرفهم، وهي أيضا مرافقة تبعثُ على الاطمئنان وتبديد المخاوف داخل المصاعد وتبعد شبح وهن الحياة برمّتها، رغم أن حَمَلة الحقائب يشبهون الروبوتات في صمتهم وابتساماتهم المتكلّفة.

الحكاية لم تتطلّب مرافقة موسيقيّة أو مرافقة بشريّة داخل المصعد الآليّ. اللوحة الضوئيّة لأرقام الطوابق والأدوار المتتالية، والجوانب المعدنيّة بلونها الفضيّ الباهت والسّقف المصنوع من البلور، كان كل ما يتطلبه تنفيذ العمليّة في وقت قياسيّ.

الوقت القياسيّ، أو تلك اللحظات الضّئيلة التي نُمضيها داخل المصعد الآليّ غالبا ما تكون زمنا لا نهائيّا قاتلا، طويلا ومملاّ، بل إن تلك اللّحظات السّريعة التي تكون فيها دواليب المصعد الآليّ تتحرّك بشكل منتظم ومتسارع ودقيق، تشبه تلك اللّحظات الأخيرة التي نواجه فيها مارد الموت يهجم برمّته دون استئذان. موت لا يستطيع أحد منّا إيقافه أو صدّه عن إتمام مهمته على وجهها الأمثل. حتى تلك الأزرار الإلكترونيّة المثبتة داخل لوحة ضوئيّة تبدو محايدة، تفشل في منحنا بارقة أمل يتيمة. مطاردة مضنية للّحظات والثّواني، ركض وخبط ولهاث، لا صيّاد ولا طريدة داخل الصّندوق المعدنيّ. لا أحد يتمنّى الموت، لكن أمام تعدد أشكالها، لا خيار لنا إلا باقتناص أفضل الأشكال. أشكال الموت. هكذا. لكن الموت داخل مصعد آليّ لن يجد مكانا له ضمن قائمة الاختيارات، ففي النهاية، للموت وجوه ومراتب، لكن أفظع تلك الوجوه ما تكون داخل المصعد الآليّ.

هل يشبه المصعد الآليّ سجنا عالي الأسوار مثلا؟ ربّما، لكن الأكيد أن له شبها كبيرا بقبر محفور في باطن الأرض، لا يقدر على فتحه إلا مشعوذ محترف دون لوحة أزرار ضوئيّة، ليستخرج من جوفه الكنز المغمور.

هناك المصاعد الذكيّة سويسريّة الصّنع، بلوريّة مكشوفة، يمنحنا زجاجها السّميك تسريح النّظر على كل ما يقع عليه بصرنا خارج المصعد. يمكننا أن نستغيث ونطلب النّجدة والمساعدة بالحركات والإشارات والإيماءات، لكن البلّور لا يخفّف عنّا وطأة التّوتر والارتباك والخوف، وحتى التطوّر التكنولوجيّ الرّهيب في المصاعد وتطوّر طرق التّأمين والسّلامة داخلها وإمكانيّة التّحكم بجهات فتح الأبواب، تفشل جميعها في منحنا الشّعور التّام بالاطمئنان، ولكنّني لا أعيش في سويسرا. لم أسافر قطّ، ولم أركب طائرة تحلّق في السّماء، ربّما أفكّر في السّفر بعد سنتين أو ثلاث سنوات. سأفتح حسابا بنكيّا أو بريديّا في أوّل يوم أتسلّم فيه الدفعة الأولى من أجرتي بعد أربعة أشهر.

عمري الآن أربع وعشرون سنة. منذ أسبوعين احتفلت بعيد ميلادي مع حياة، زوجتي المستقبليّة. كان حفلا بسيطا فاجأتني به حياة، لكنّه كان بهيجا وصادقا والأهم من كل ذلك أنّني أقنعت حياة أخيرا بوجهة نظري. أطفأت الشّمع وأضأت أمنياتي العديدة، ومنها السّفر إلى سويسرا لقضاء شهر العسل مع حياة. الآن أصبحت طبيبا ويمكنني السّفر وركوب الطّائرة والصّعود برأس مرفوع في مراتب الحياة… سأرفع عاليا رأسي وأصعد الخطوة تلو الخطوة والناس من حولي يقولون أنظروا لقد أصبح طبيبا. الدّكتور وصل، مرحبا أيّها الطّبيب، رجاء أيّها الطّبيب، الدّكتور قال، شكرا دكتور… إنها كلمات تشبه أزرار هذا المصعد، كلّما سمعتُ كلمة منها ارتقيت مرتبة أعلى، تماما مثلما ترفعنا الأزرار من طابق إلى آخر أين تنفتح في وجوهنا أبواب لا يعلمها إلا الله. يا الله إن كل أبوابك مراقٍ ومراتب.

لوحة: عدنان حميدة
لوحة: عدنان حميدة

منذ وصلت هنا، طبيبا مقيما في المستشفى، قبل شهرين، لم أنقطع يوما عن ترتيب أحلامي الصغيرة وأمنياتي البسيطة. أتحرّك بين المرضى والمصابين والجرحى والجثث بخفة رشيقة وبمهارة وتفان في معالجة المرضى وتضميد جراح المصابين وتفقّد صناديق الجثث بعد نقلها من المشرحة وترصيفها داخل بيت الموتى والتثبّت من هويّة كل جثّة وترقيم الصندوق الذي تنام بداخله. أحببتُ هذه المهنة منذ طفولتي عندما أنقذ حياتي طبيب القرية بعد أن جرفتني مياه الوادي الذي يفصل بين منزلنا والمدرسة وغرقت بمحفظتي وأقلامي وكتبي وسط الأوحال والصخور والمياه الهادرة. كنت في غيبوبة مميتة، لكن الأصوات كانت تصلني واضحة وتخترق الظلمة التي غمرتني: الدّكتور وصل، مرحبا أيّها الطّبيب، رجاء أيّها الطّبيب، الدكتور قال، شكرا دكتور.

ظلّت حادثة الغرق عالقة بذاكرتي وظلت تلك الكلمات عن طبيب القرية ترنّ في أذنيّ. منذ تلك الحادثة صرت أرفض الذّهاب إلى المدرسة عندما تُمطر السّماء. أقضي كامل اليوم مع أمي وأختي في المنزل أحفظ الدّروس وأنجز التّمارين المدرسيّة، وعندما أنهي فروضي ألعب لعبة الطبيب القادم من المدينة، فأجبر أمي وأختي على التمدّد فوق الفراش وأشرع في مداواتهما وتضميد جروحهما التي أرسمها بالقلم الأحمر مرة فوق معصميهما ومرة فوق كاحليهما وأضمّد الخطوط الحمراء بقطع الملابس التي تعترضني. كم كنت لجوجا وأنا أجبر أمي وأختي على إسماعي تلك الكلمات الرنّانة: الدّكتور وصل، مرحبا أيّها الطّبيب، رجاء أيّها الطّبيب، الدّكتور قال، شكرا دكتور. وظلت تلك لعبتي المفضّلة في أيّام العطل عندما أعود من المدينة التي انتقلت إليها بعد نجاحي الأوّل.

كنت في المدينة، أثناء دراستي، أنتهز كل فرصة للهروب من المعهد والتوجّه نحو المستشفى الصغير للمدينة، أين أقضي وقتا لا أعرف كم يطول أترصّد حركة الأطبّاء والممرّضين يدخلون ويخرجون ويتحرّكون في كل الاتجاهات داخل المستشفى، وكنت أقترب من كوكبة الأهالي الذين يتجمهرون قرب سيارة الإسعاف عندما تصل أو في مدخل المستشفى فأسمع كلماتهم تتقاطر من كل الأفواه وتختلط بدعوات الشّفاء والصّحة لمرضاهم والتضرّع إلى الله طلبا لرحمته، غير أن الكلمات التي تصلني كانت هي التي أنتظرها حتى أعود إلى المعهد بشحنة كبيرة من الأمل: الدّكتور وصل، مرحبا أيّها الطّبيب ، رجاء أيّها الطّبيب، الدّكتور قال، شكرا دكتور. وظلت تلك الكلمات تميمتي والسرّ الذي أحتفظ به طيلة السنوات التي قضيتها في المدينة إلى أن نجحت وانتقلت إلى كليّة الطبّ بملاحظة مشرّف جدا.

هناك، في الكليّة، لم أعد أسمع تلك الكلمات الرنّانة، بل أصبحت أراها قريبة منّي. أكاد أمدّ ذراعي لأقطفها من الأفواه، أضمّها إلى صدري، أحنو عليها براحتي، ولذلك لم تعد تلك الكلمات لعبة ألعبها مع أمي وأختي عندما أعود إليهما في القرية التي مازال أهاليها ينتظرون بناء جسر فوق الوادي كما وعد بذلك عدد كبير من المسؤولين الذين زاروا القرية طيلة السّنوات التي مرّت. وفي الكليّة أيضا لم أعد أنتهز الفرص للذّهاب إلى المستشفى الكبير الذي يعجّ بالنّاس، فقد أصبحت أخرج من باب الكليّة مرتديا الميدعة البيضاء مع حياة التي تتأبّط ذراعي اليسرى ونتّجه نحو المقهى المقابل أين أصبحنا نرصّف أحلامنا وأمنياتنا التي سننطلق في تحقيقها عندما تصلنا كلمات المرضي والمصابين والمجروحين وهم يتهامسون: الدّكتور وصل، مرحبا أيّها الطّبيب، رجاء أيّها الطّبيب، الدّكتور قال، شكرا دكتور.

تُعدّل حياة ياقة قميصها الأخضر وترفع بأصابعها الرّقيقة إطار نظّارتها الطبيّة ثم تهمس في أذنيّ: الدّكتورة وصلت، مرحبا أيّتها الطّبيبة، رجاء أيّتها الطّبيبة، الدّكتورة قالت، شكرا دكتورة. تهمس بهذه الكلمات همسا دافئا يرفعني إلى أعلى السّماوات، فأراني طائرا محلّقا فوق الوديان الهادرة أبحث عن الأطفال الذين جرفتهم المياه وبعثرت محافظهم وأقلامهم وكتبهم بين الأوحال والصخور والمياه الهادرة، فلا أنزل من سمائي إلا بعد أن أنقذ طفلا واحدا على الأقل من غيبوبته، ثم أطير مجدّدا وقد تركته بين حلم ويقظة تصله الكلمات من الأفواه واضحة وتخترق الظلمة التي غمرته : الدّكتور وصل، مرحبا أيّها الطّبيب ، رجاء أيّها الطّبيب، الدّكتور قال، شكرا دكتور.

ظللنا هكذا أنا وحياة طيلة دراستنا الجامعّة إلى أن تخرّجنا من كليّة الطبّ، هي تهمس في أذنيّ همسا دافئا، وأنا أطير إلى أعلى السّماوات لأنقذ الأطفال الغرقى. ظللنا منسجمين في كل شيء، ما عدا أمر واحد اختلفنا حوله، ولم أتمكّن من إقناعها بوجهة نظري إلا منذ أسبوعين عندما رتّبت لي حياة احتفالا مفاجئا بعيد ميلادي الرّابع والعشرين.

لم تنفصل أصابع يدينا المتشابكة والمتعانقة على ضوء الشّموع المرشوقة فوق قطعة المرطّبات التي بيننا. تحدّثنا في كل شيء ماعدا نقطة اختلافنا. كل واحد منّا كان يعرف أنّنا نقترب من هذه النّقطة التي رافقتنا منذ تعرّفنا إلى بعضنا البعض. لم نكن نسلك مسالك ملتوية ولم نتهرّب من المواجهة، بل كنّا نسير بالحديث نحو هذه النقطة بالذّات. في الحقيقة كانت حياة أسرع مني في الوصول إلى النقطة التي أرّقتني كثيرا. قالت بكل بساطة ودون تردّد “لن أسافر ولن أرحل ولن أغادر لأشتغل طبيبة خارج البلاد”. صمتت قليلا ثم واصلت الكلام وهي تضغط بأصابعها الرّقيقة على أصابعي الملتهبة وقالت لي “يوجد الكثير من الأطفال هنا ينتظروننا لننقذهم وننقذ محافظهم وأقلامهم وكتبهم من الأوحال والصّخور والمياه الهادرة”.

لم أجد الكلمات التي أجيب بها حياة. أحسستُ بأنفاسي تتجمّد ولساني ينعقد ورأيت ضوء الشّموع التي بيننا يتراقص في بؤبؤ عينيها مثلما يتراقص في محجري عينيّ، فتركتُ أصابعي تركب صهوة أصابعها وتتكفّل برسم كل الكلمات على أصابعها وتقول لها كل شيء. كان كل شيء بيننا واضحا وجليّا ومكثّفا في كلماتها تتمايل في كامل جسدي: الدّكتور وصل، مرحبا أيّها الطّبيب، رجاء أيّها الطّبيب، الدّكتور قال، شكرا دكتور.  وكلماتي تتمايل في كامل جسدها: الدّكتورة وصلت، مرحبا أيّتها الطّبيبة، رجاء أيّتها الطّبيبة، الدّكتورة قالت، شكرا دكتورة.

حدث كل شيء داخل المصعد الآليّ.  لم يتطلّب الأمر الكثير من الوقت أو الجهد، تماما مثلما لم تتطلّب المسألة خطّة مسبقة للتّنفيذ لا هامش فيها للخطأ. حدث أن حياة لن تسافر ولن تغادر ولن ترحل إلى بلاد أخرى لتعمل طبيبة، ولن تسافر معي إلى سويسرا لنتمتّع بشهر العسل، فقد تعطّلت كل المصاعد في البلاد، إلا المصعد نحو السّماء. تحطّمت أصابع حياة الرّقيقة وانعجنت بباقي جسدها عندما سقطت بها كابينة مصعد المستشفى وارتطمت في الهاوية السّحيقة، لتصعد روحها إلى السّماء الواسعة ترفعها أفواه الأطفال الغرقى في أوحال الوديان الهادرة وهم يهمسون لها: الدّكتورة وصلت، مرحبا أيّتها الطّبيبة، رجاء أيّتها الطّبيبة، الدّكتورة قالت، شكرا دكتورة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.