المهربون‭ ‬في‭ ‬انتظارنا‭ ‬على‭ ‬السواحل

الخميس 2015/10/01
تخطيط لـ حسين جمعان

الشاعر أول الضحايا يا صديقي، ولكنه كذلك أوّل المتصدّين لهذه البشاعات الكونيةّ التي اقتحمت علينا فرديتنا ونصوصنا ووضعتنا ضمن أتّون من الحرائق والعطش والغرق، أنا بوصفي من العراق أعيشُ المحنةَ مضاعفةً، أعيشها على مستويات عدة منها الشخصي ومنها العائلي ومنها الوطني، تركنا كلَّ شيء وراءنا بسبب الوحوش، لا كتاب عندي ولا ورقة، هل أسكت؟ هل أنزوي وأندب كما يندب الآخرون، لا، كل ما فعلوه بنا هو لإسكاتنا وذبح ألسنتنا، هم قدروا على هدم بيتي، لكنهم لا يقدرون على هدم كينونتي، لا أتحدث لك الآن بكلام نظري، أو تهويمات شاعر مترف، أتحدثُ وأنا مهجّر أو نازح أو لاجئ، والله لا أعرف التوصيف الذي أصف به نفسي وعائلتي الآن، فقد مررتُ بكل هذه الأسماء، الطفل (إيلان) غرق في بحر ما، ولكن هناك عوائل بأكملها غرقت في بحر آخر من الرمال والصحراء والعوز والبكاء، وأنا وعائلتي منهم‭.‬ أيّ مصائب هذه، وكيف يواجهها الشاعر؟ كنتُ خائفاً أن تضيع مني القصيدة، خائفاً أن لا أقدر على الكتابة بعد هروبي من بيتنا، فكيف يكتب من لا يملك أدوات الكتابة، حتى؟ ما نحنُ فيه أكبر من التوصيف، كيف تستطيع أن تصفَ رقبةَ الضحية البشرية حين يمرُّ عليها حدُّ السكين؟ ولكن، لا صمت، صمت الضحايا يغري السكاكين، عليَّ أن أقول: لا وقلتُها بأعلى ما في الحنجرة من ألم، لأول مرة أحس وأنا أكتبُ بأني أدافعُ عن المستقبل، أيامنا القادمة تدعونا لأن نحافظ على التقاويم ولا نتركها لريح الذبح والهدم والتهجير والغرق، القصيدةُ تقاتلُ اليومَ عاريةً إلا من روحها أمام البشاعات، لا نريدُ لأحاسيسنا أن تتبلّد، الصغارُ لم يعودوا يشيحون بوجوههم عن المذابح التي تطلع علينا كل يوم في الفضائيات، هل تبلّدتْ أحاسيسهم؟ هل تبلّدَ مجتمعنا العربي؟ وهل هذا هو المقصود، أن نتحوّلَ إلى قطعانٍ لا تحسُّ ولا تتحسّس؟ يا صديقي الشاعر الذي يكتبُ نصاً في الحبِّ في هذا الزمن أشدُّ بطولة من (عنترة بن شداد)، والمغنية التي تقف على مسرحٍ تغنّي بكامل قلبها أشدُّ بطولةً من (جان دارك)، كلنا مطالبون بأن نقاوم، هم يريدون أن ينقلونا ببساط الخرافة إلى عصورهم الظلامية، وعلينا أن نرفض الصعود، بل أن نمزقَ البساط ونقتل الخرافة، بإصرارنا على الحياة، هم يريدوننا بلا أيّ هوية وطنية أو إنسانية، جاؤوا بنصوصهم من عمق الظلام وأقاموا محكمة ليحكموا على الجمال والحب والرحمة بالذبح، الله منحنا الحياة وهم يريدون سرقتها أو قتلها أو إلباسها جلباباً لا يليق بها، أتعمّدُ هذه الأيام ومع كل الذي يمرّ بي من المصائب التي ذكرتها أن أكتبَ قصائد في الحب، أو أن أبتسم أو أضحك، تصوّر، الابتسامةُ أصبحتْ بطولة أيضا، ففي شرق المتوسط هذا من الخراب ما يُعجزُ كل البومات في العالم على النعيق فيه، بالقصيدة والرواية والأغنية والمسرحية والمكتبةِ والفيلم السينمائي نستطيعُ أن نوقف على الأقل جزءاً من هذا الخراب، وعلى الشعراء بالذات أن يعوا أنهم يقفون قريباً من الحائط الذي أعدم أمامه لوركا ، وإذا تسنّى لهم أن يكونوا لوركا فإن الجنرال فرانكو العربي المعاصر هو الأكثر ظلاميةً وعنفاً، فعليهم أن يكونوا أكثرَ من لوركا واحد، وأن يصدحوا بالغناء الآن، الآن، وإلا فالمهرّبون بانتظارنا هناك على السواحل التركية‭..‬ وسنغرق حتماً‭.‬

شوكولاتة الغَريق

أخبركَ البحرُ شيئاً؟

قالت لك الحورياتُ لا تحزنْ؟

قصّتْ عليكَ موجةٌ غرقَها؟

أم كنتَ نائماً أيها الولـــــد؟

أم كنتَ كعادتكِ عندما تطلبُ شيئاً

هكذا تُخفي وجهَكَ متقلباً في المشاكسات؟

أمّكَ لم تنمْ منذ يومينِ أيها الولد

أمُّكَ تسبحُ في الأحلام

حتى إنني عندما أستيقظُ أرى على المخدَّةِ أسماكاً صغيرة

وأرى زبَداً طافياً على شفتيها

أين أمكَ أيها الولد؟

أم إنها ذهبتْ جُفاءً

وبقيَ هذا الذي على شفتيها؟

قُمْ

قُمْ

لا وقتَ لنا هنا

البحرُ غامضٌ جـداً

والمهرِّبونَ مشبوهون

والخرائطُ متشابكة

يقولونَ هناكَ في ألمانيا يستقبلونَ المهاجرينَ بالشوكولاتة

منذ متى لم تذقْها أيها المشاكس

يقولونَ امرأةٌ اسمُها ميركلْ تبكي هناك

تسأل عنكَ لتعطيَكَ لُعباً

منذ متى وأنتَ تحلمُ بلعبةٍ جديدة؟

اتركِ المشاكساتِ يا ولد

هذا المكان غيرُ صالحٍ للنوم

هو صالحٌ للغرَقِ فقط

لستَ غريقاً أبداً

الغريقُ هو السماء والكواكبُ والأدعيةُ

ألم ترَ أن البحر أشدُّ زرقةً من جرحٍ غائر؟

تلك هي جثّةُ السماءِ تملأُ البحـر

جثةُ الحبر وهو يختنقُ بالكلمات

لا وقتَ لنا

قمْ يا ولدي وأيقظْ أمَّكَ

أم إنّكما استطبتُما النومَ على زبَدِ الأحلام الغريقة

أم إنّكما‭...‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.