الهاربون

الاثنين 2021/11/01
لوحة: سموقان أسعد

توشك السنة على نهايتها، والكل سعيد بهذه النهاية باستثنائي، فأنا أكره النهايات كيفما كانت؛ أكره نهاية الشهر لارتباطها بانقضاء أجرتي الشهرية، ولا أحب انتهاء المؤونة من الثلاجة لأن ذلك سيدفعني إلى أن أعيش معاناة السوق التي لا أطيقها، أكره نهاية العلاقات الإنسانية لأنها هدم لكل ما بنيناه بقِطع من مشاعرنا واحتراقنا الداخلي، ببساطة أكره النهايات لأنها شبيهة بالموت. ومما يزيد من نفوري من نهاية السنة أنني أعيشها مرتين؛ مرة عند نهاية السنة الدراسية، ومرة أخرى عند نهاية السنة الميلادية. أفليس من الظلم أن أعيش الحالة مرتين.

ما يزعجني حقا في نهاية السنة الدراسية هو امتحانات ابني لؤي؛ فخلال هذه الفترة تعُم البيت فوضى عارمة، فلا يوجد شبر في البيت لا يمكن ألا تعثر فيه على كتاب أو ورقة؛ في المكتبة والصالون وغرفة الجلوس والمطبخ. يصبح همّ ابني خلال هذه الفترة رفْع مهاراته التذكرية كي لا ينسى دروس التاريخ واللغة وقواعد الرياضيات والعلوم. يتحرك في البيت جيئة وذهابا مكررا ما دوّنه على كراساته خلال سنة كاملة، وبين الفينة والأخرى يقدم لأحدنا دفترا ويشرع في الاستظهار. إنها الحرب ضد النسيان.

كي أخفف عليه عبء الامتحان أخذته معي إلى المقهى قبل اجتيازه آخر اختبار، اقترحت عليه أن يشرب عصير برتقال لكنه فضل أن يتناول فنجان قهوة لأنه يحفز ذاكرته أكثر. لم أقل شيئا وقتها لأنني كنت أعرف معنى أن تخونك الذاكرة، وابني محق في حرصه الشديد على ملء ذاكرته بكل هذه الأشياء المفيدة منها والتافهة.

في المقهى ذاته، كنت أجلس رفقة صديقي محمد كل يوم. لقد كان مدمنا على ارتشاف فناجين القهوة وتدخين ما يشفي غليله من السجائر. في أكثر من مناسبة كنت أنصحه كي يكف عن التدخين واستبدال القهوة بمشروب آخر، لكنه كان يبدي امتعاضه المستمر من نصيحتي، فيزفر بعمق كأنه يريد استنزاف كل الهواء الذي بداخله ثم يجيبني:

– إنهما أفضل ما يمكنني أخذه كي أنسى.. ثم يُواصل حديثه مازحا:

– كم تمنيت لو كان في رأسي زرّ أضغط عليه فأمحو ماضيّ كله.

أرد عليه بروح الفكاهة نفسها:

– لكنكَ لست حاسوبا يا عزيزي، وحتى لو أسعفك النسيان فإنك ستعيد الأخطاء نفسها.

إن صديقي محمد يريد نسيان أحداث ومواقف بعينها. مواقف كان يعيشها بشغف كبير في زمن ما، لحظات كان يوثقها شعرا وتصويرا، بل إنه يسترجعها بين الفينة والأخرى متحسّرا على أيام جميلة مضت، لهذا يستحيل عليه محوها بكبسة زر. لكن على كلّ حال كنت أتفهم حال صديقي لأني أعرف لعنة الذاكرة ووخزها، وكيف يمكن للوجوه والأمكنة والأشياء أن تطاردنا وتنغص حياتنا حتى في الأحلام.

ولأننا في نهاية السنة فقد أصبحت أملك ما يكفي من الوقت لزيارة والدتي التي لا تقطن بعيدا عني، ولكن مشاغل الحياة تمنعني من زيارتها بإيقاع ثابت.

والدتي في العقد الثامن من عمرها، أرهقتها السنون والمرض وأصبحت حالها تزداد سوءا بعد أن ثبتت إصابتها بمرض الزهايمر الذي يؤثر سلبا على أداء الذاكرة والسلوك. كل مرة أدخل فيها على والدتي تنظر إليّ نظرة غريبة كأنها لا تعرفني، فكنت أهوّن عليها الأمر وأعرّفها بنفسي بأسلوب لبق وأسألها عن حالها. في حديثها معي كانت تخلط كل الأشخاص والأحداث فأضطر إلى مجاراتها لأني أعرف أنه ليس هناك أسوأ من أن تفقد ذاكرتك.. فجأة نصبح غرباء ننسى أماكن كنا نعبرها بلامبالاة، نعجز عن تذكر أشخاص كنا نعرف الكثير عنهم.. أن تفقد الذاكرة يعني أنك تلقي سنوات عمرك كلها في القمامة، وأنك مضطر لأن تبدأ حياتك كل مرة بداية جديدة فاشلة.

تتحرك عجلة الأيام؛ وابني ما يزال مصرّا على أن يخزّن في ذاكرته كمّا هائلا من المعلومات، ويجاهد صديقي من أجل النسيان وكسر قيود ذاكرته، بينما تواصل والدتي فقدان تفاصيل حياتها رغما عنها. بين التذكر والنسيان تتلاعب الحياة بهم جميعا، وأظل أنا هنا جالسا على الكرسي الذي جلس عليه ابني وصديقي أكتب كي أنسى وأتذكر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.