الوشم

مقطع من رواية
الجمعة 2022/04/01
لوحة: محمد عمر خليل

كنت أضع يدي على رأسي تأتي الضربات على ظاهر كفيّ، أجمع أصابعي تأتيني العصا على رقبتي وظهري، على رأسي ووجهي، على الساقين.. كنت أتلوّى وأحاول تفادي الضربات.. عبثاً، كانت غاضبة بشدة وتسارع بالضرب ولم تصدق أنني لم أغش، لم أنقل الإملاء من الكتاب.. كنت بكل بساطة قد حضّرت الدرس بشكل جيد جداً حتى استطعت أن أسبق إملاءها لنا.

 وبسبب الأوجاع والإهانة صرت أتحاشى نظرات بنات الصف ومراقبتهن وحيادهن.. وركضت إلى البيت أستنجد بأمي.

وجدت نفسي مضطرة أن أقسم لها الأيمان بأني لم أغش وأني تألمت وأهنت. تفاعلت الأم لبعض الوقت ثم انشغلت بتحضير الطعام.

 تلك المعلمة النحيلة قصيرة القامة وذلك العقاب جعلني أنسى الكتابة، حتى كتابة اإسمي وكنت فقط في السابعة من عمري. ولم أستعد موهبتي بالكتابة والقراءة إلا على يد معلمة تعرف الحقوق وتتلطف، لم تعاقب بنتاً ولم تبخل علينا بالتعليم. كان لجولييت ابتسامتان مختلفتان، واحدة للجواب الصحيح وواحدة للجواب الخاطئ، وكنا نعرف الخطأ من الصواب من تمايز الابتسامتين ونتمنى أن ننال الابتسامة الفرحة وليست تلك المعاتبة. صرت أضع حقيبتي تحت إبطي وأركض أقطع الشارعين في منطقة محطة بغداد في حلب باتجاه مدرستي لأتصبح بوجه جولييت وأبيّن لها اجتهادي وحبي.

وما إن تدخل علينا حتى أنهض برأسي وصدري كي أريها حضوري أو ربما كي أثبت حضوري وثقتي بنفسي، وكانت تبتسم مرات وهي تنظر إليّ لأني أبالغ في إظهار نفسي بين البنات، كأنها تقول، أنا أراك.

 هذه الثقة وهذا التعليم لم يدم، مضت جولييت تلحقها دموعي ودموع بنات الصف، ودخلت معلمة جديدة. دفعت الباب مثل شرطي ووقفت عند عتبة الصف، كأنها تتفحص المكان قبل أن تلج فيه أو كأنها تشم رائحة لا ترضيها، أو تبحث عن وسيلة السيطرة على البنات ذوات الثماني سنوات فقط. كانت ترتدي معطفاً كحلياً وفارغة القبضتين. انتصبت أمام البنات تقطب حاجبيها، تنظر إلينا كأنها تنوي على شر. وسألت عن الأسماء، سناء، جميلة، هدى.. وحين أتى دوري وقلت: لولا!

ـ لولا! سألت ساخرة ونثرت من بصاقها: ما معنى هذا الاسم؟ توقفت فقط عند اسمي لتسخر من تلميذة لا تدري لمَ كان اسمها لولا.

أصبت بخيبة وخوف وسكتُّ، لأني لا أعرف معنى لاسمي. وحطت على رأسي صدمة جديدة.

 صرت أذهب إلى المدرسة خائفة من مراقبة المعلمات وأرجع مهمومة من يوم مدرسي قادم. تراجعت مرة ثانية في الكتابة والقراءة. صرت أنطوي على نفسي وأخفض رأسي حتى أكاد أدخله في درج المقعد، وأدّعي أيّ حجة حين تسأل شيئاً كي أهبط أرضاً وأبحث عن شيء أسقطه وأختفي تحت المقاعد. صرت أتجنب أن أكتب اسمي أو أنطق به أو أبادر بأي شيء في الصف، وضعت بطاقة الاسم على الدفتر وكتبت الكنية فقط لأن الآغا كنية تعرف في حلب ولن تسألني عن معناها، أما لولا! فأنا مذنبة من رأسي إلى قدمي بما أحمله بهذا الاسم الذي لم تجد له المعلمة أيّ معنى. ذهبت إلى أمي وعاتبتها، وقالت أسميتك لولا لأنك دلوعتنا وحبنا. ولم يكف جواب أمي لي لأقنع المعلمة. قالت لي إنها اختارت هذا الاسم حين استمعت إلى أغنية وردة، لولا الملامة.. وحلفت يميناً أمام أبي أنني إذا أتيت بنتاً سأسمّيها لولا.. رغم اعتراض أبي.

 لقبني أبي بالآغا الصغير، اللقب الذي كنت أحبه ويجعلني أشعر أنني أكثر قوة وثباتاً على الأرض عن اسم لولا.

 كبرنا بعد ذلك كثيراً أنا وبنات الصف كبرنا وتعلمنا أن نسكت ونحن نرى ابن المعلمة ذات المعطف السموكن، يتحرش بالبنات لأن المديرة والمعلمة أمه لم تكونا لتصدقا فعل الولد.

 أقف أمام مرآة خزانة أمي وأفكر كيف أتخلص من المعلمات الظالمات وأبنائهن المدللين، كيف أدافع عن نفسي واسمي ووجودي؟ وكيف أنال مرة جديدة لقب البنت السبعة أو الآغا الصغير! كيف ألتقي بمعلمة كجولييت وأحب القراءة والكتابة؟ لم أكن أحصل على جواب أو أن الأجوبة كانت كلها معروفة لديّ، ميؤوس مني ومن تعليمي.

 لم أكن أسمح لأحد أن يرى بكائي، كان أول مرة وآخر مرة بكيت في الطفولة تحت عصا تلك المعلمة في درس الإملاء وكبرت كثيراً بعدها.

لوحة: محمد عمر خليل
لوحة: محمد عمر خليل

 طويت مريلة المدرسة استعداداً لصيف مقبل أعطل فيه عن المدرسة وألهو مع القريبات وأنسى هموم المعلمات وهموم التفاهم معهن. لا لن أسعى للتفاهم معهن. نادتني أمي أن أغسل أرض المطبخ وفعلت، انتظرتهم أن يفرغوا من المطبخ وسكبت الكثير من الماء ولهوت حافية في الماء الغزير.

ـ سوف أصبح معلمة جيدة مثل جولييت.. أخبر أمي وأخواتي عن حلمي.

تبتسم أمي كأنها تسخر من أحلامي.. البنت للزواج.

أهرب من استبداد الأمهات إلى هوايتي، قطط الحارة. كنت أعشقها، الكبيرة منها والصغيرة.. كان سور بيتنا منخفضاً تتسلقه القطط وتطل تنتظر مني أن أهرّب لها طعاماً، بعض الجبن والحليب من ثلاجة البيت.

ـ أريد أن أربي قطة. أكرر طلبي يوماً بعد يوم.

ـ أختك تخافها والقطط تجلب أمراضاَ.

ـ غير صحيح.

وكل احتجاجاتي لم تنجح في إقناعهم، وصرت بدلاً عن الاعتناء بقطة واحدة، أطعم كل قطط الحي من طعام البيت الذي أسرقه.. أكافئها على تسلقها سور بيتنا.

ـ تعالي للغداء.. تناديني أمي.

ـ ليس قبل أن أضع طعاماً للقطط، كيف آكل والقطط جائعة؟

تقبل أمي على مضض وتناولني طبقاً صغيراً فيه بعض الدهن فيما أختي تتوارى تنتظر أن أنتهي من مهمتي لتخرج إلى أرض الدار مرة ثانية.

رافقني أبي في بعض مشاويره واشترى لي ولأخواتي الحلوى ودللني لأنني كنت آخر العنقود، كنت أركب الدراجة الهوائية خلفه وأمضي حيث يأخذنا هواء حلب وشوارع حلب. وكثيراً ما كان يمازحني ويتلاعب بالمقود حتى نكاد نسقط، يضحك ويعدله من جديد.. كل يوم إلى أن بلغت. وقتها تغير أبي معي وانتقلت من مرتبة الآغا الصغير لأصير من نساء البيت، صبية ويجب أن تتزوج قبل أن تبلغ السادسة عشرة حيث تقترب البنت من سن العنوسة في عرف البيت. أقابل الخطابين مثل منوّمة وأنتظر النصيب.

 كنا أربعة أولاد، ثلاث بنات وصبي واحد. والصبي الوحيد يعني أن يتطلب ويتدلل وعلى كل من في البيت أن يطيع. أحضري ماء! أحضر الماء.. اعملي متة! أعمل المتة.. رتبي غرفتي! أسارع لترتيب غرفته. لكن حين يحل المساء وكنت مازلت في التاسعة من عمري ويجلس أبي ليشاهد أفلام الرعب، فإني رفيقته ولن يحركني من أمام التلفزيون زلزال الأرض. أجلس بفم مفتوح وقبضة مضمومة وأتابع مصاصي الدماء والوحوش وآكلي لحوم البشر.. وحين ينتهي الفيلم أركض إلى حضن أختي لأنام بجوارها خائفة، تؤنبني الكبيرة لأني أشاهد هذا الرعب كل ليلة وتأخذ عهداً عليّ ألا أفعل مرة ثانية، لكنني في اليوم التالي أتربع بجانب أبي وأشاهد الفيلم تلو الفيلم.. ومادام يوجد حضن أختي بعد ذلك فسلسلة الأفلام مشروعة.

 فرغ البيت كثيراً حين تزوجت الكبيرة، ولكن حين تزوجت أختي الوسطى حدثت هزة حقيقية في حياتي. بكيت ليلة عرسها كأنني في مأتم، ورجعت إلى غرفتنا أنظر في الفراغ الذي تركته وأتساءل إن كنت أحتمل هذا الفراق، كنا نتخاصم ونتصالح في الدقيقة الواحدة ونتحدث في كل شيء حتى الفجر، كنت مدللتها وكانت حصني المنيع في الحياة.

 تنشقت رائحة أشيائها ومخدتها ولم أستطع أن أنام.. نهضت في آخر الليل وألبست المخدة منامتها ووضعت عليها عطرها وحضنتها إلى أن غفوت. وظللت أفعل هذا كل ليلة إلى أن سلوت واعتدت غيابها. الأخت الوسطى مثل العصافير والورود لم تعش طويلاً مرضت وماتت وفقدت إلى الأبد أماني في الحياة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.