الولع بالماضي

عن معاني "الماضوية" ومأساتها
الاثنين 2021/11/01
لوحة: أسامة دياب

كيف يمكن لطقوس الولادة أن تكون متشابهة، والمولود شخص لن يوجد إلا مرة واحدة فقط في هذه الحياة، ألا يعني ذلك أنه لن يدرك الدنيا كما هي؟  كيف تتشابه طقوس الزواج والوفاة احتفالا بالعروسين، ثم بفراق من رحل عنا، بنفس الطريقة، أي باستقبال الأهل والأحباب بحفاوة وسخاء، ألا يعني ذلك أن اللقاء والوداع لا يختلفان في نظرنا؟ وأفكارنا القديمة، أليست حصيلة ما تعلمنا وما ورثنا، وما قيل لنا من حكايات حول الحقيقة؟ كيف الهروب من التكرار، ذلك الستار الذي ما انفك يحجب عنا كل تفرد ووجود، الرحيل إلى مكان بعيد لم تطأه قدم، يمنحنا اكتشاف الحياة خارج كل السجلات والدفاتر القديمة؟ هل يمكن ذلك، وقد تحولت الأمكنة إلى ذكريات لأحداث قديمة؟ كيف التطلع إلى الحرية وجل المعتقدات، جل الأقوال والمؤلفات، جل الحكايات تتشابه، جل الحكم تعاد علينا وكذلك جل التجارب وجل الرغبات؟

إننا جميعا ننتمي إلى الماضي، لم ندرك الحاضر أي الحياة إلا صدفة، نحلم بما كان وبما قيل، ونسمّي ذلك بالأجواء ثم نصفها بالعائلية، العاطفية، للتعبير عن حنيننا إلى بعض الأغاني والعطور والملابس والبنيان القديمة وكل ما اتصل بها من مشاعر.

إننا نحيا مع ما اندثر، نحاول جاهدين إعادة النظر في لغة مسيجة بألف قاعدة وقاعدة، أن نتأمل المكان الذي سمعنا عنه في ألف كتاب وكتاب، أن نعيش قصة حب، قننت أصولها بكل الطرق الممكنة والمستحيلة، فنحن لا نتخيل إلا ما كان، ولا نستعيد إلا ما سبق قوله، من منا قادر على إعادة النظر في رمزية النار أو الماء أو التراب أو الهواء؟

من منا خلق لنفسه أجواء خارج الطقوس المألوفة؟ من منا تصور الجمال على غير نماذجه المعروفة؟ أليست الثقافة سلسلة من الابتكارات والاختراعات المتواصلة التي تستمد طاقتها الإبداعية من القديم؟

لذلك كنت دائما أتساءل لماذا تعاد نفس الحروب، نفس الصراعات، نفس الروايات التاريخية؟ حتى أنهم أوهمونا أن التاريخ يعيد نفسه ثم وضعوا الساعات في كل الساحات، ومنحوا الأيام والأعوام تسميات قديمة، حتى لا نسهو عن مرور الزمن.

فليس التاريخ هو من يعيد نفسه، بل اللغة بما تحمله من أوهام وتصورات وأسماء، إنها هي التي تعيد علينا كل ما حدث وما كان.

نحن إذن نعيش دائما في الماضي، ومادام الأمر كذلك، فلا يمكن لنا الاعتراف بحقيقة الموت أي بسنّة الفناء لأنها تقتضي منا أن نحيا حاضرنا.

ألم ننتبه إلى أن النبض والتنفس، الحركتان الباعثتان للحياة، متصلتان بالحاضر؟

فهل نكون بذلك منفصلين وجدانيا وفكريا عن أجسادنا، لانخراطنا في فهم وتأويل مجموعة من الإشارات والعلامات الموروثة، حتى نتواصل مع العالم؟

بل حتى أسماؤنا هي أيضا قديمة وكذلك ألقابنا بما تحمله من حكايات حول انتمائنا، جميع الأنهج والطرق والمدن والقرى تحمل هي الأخرى أسماء قديمة، غالبا ما نجهل مصادرها، وما يحدث يوميا ألسنا نقرؤه من زاوية الماضي؟

لكن الماضي هو ما اضمحلّ وزال ولم يعد واقعا بل أضحى بقايا لمعنى أسديناه على ما حدث ثم امّحى، ألا يكون فكرة حلت محل الحاضر فأوهمتنا بوجودها، وبعثت فينا الشوق المستحيل لكل ما زال؟

نعيش إذن تحت طائلة حاضر مقنع بوجه الفناء وبعلامات تحاول أن تؤسس له معنى مستمر، نعيش بنصف حياة تهرع من المغامرة والاكتشاف، تختفي وراء الأقنعة وتقمص الأدوار.

فهويتنا لم تتشكل من مشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا الحاضرة أو الماضية بل من مجموع القصص والحكايات التي تبنيناها.

لذلك ما انفكت تلك الحكايات تتغير بمرور الأيام بعد استعادتها لحديث أجدادنا حول الإنسان والآخر والعالم، ماذا عسانا أن نضيف إليها؟ بصمة صغيرة لما كان.

لا شك أن “للماضوية” درجات، فمن الشعوب من يؤمن بها دون أدنى لبس بتقديسه للموروث الفكري، أخرى تؤمن بالاكتشاف والعقل لفك أسرار الطبيعة وخفاياها ومعرفة كل ما هو موجود ورؤيته كما هو، خارج كل الروايات والمعتقدات والأحكام المسبقة.

إنها الثقافات التي اهتمت بما هو “حادث” من فعل أو ظاهرة، فسخّرت العقل كي يطرح كل الأسئلة وأن لا يلتزم بالحدود التي رسمتها المعارف القديمة.

إلا أن الحداثة كما سميت، لم تقطع مع التاريخ في تسلسله الزمني الخاضع للعد التصاعدي بداية من ميلاد المسيح، ومعنى ذلك أن التاريخ الإنساني في تطور مستمر، لا يمكن فهمه إلا بمعرفة القديم، فحتى الثقافات الأكثر اعترافا بالحاضر، لم تقطع هي الأخرى مع الماضوية.

ما الحاضر؟

جميع الموجودات تؤكد حلوله، لأنها تعيش على وقع حاجياتها من نوم وأكل وجنس، أي على وقع ما تشعر به بين الفينة والفينة، وهي لا تستمر بفضل ذاكرتها أي بفضل ما عرفته أو تعلمته بل بفضل غرائزها.

هو الإحساس بوجودنا الآني المعرّض للفناء.

نحن نعيش إذا في زمنية مبتدعة، لا تؤمن بوجود الحاضر أي بالحياة باعتبارها مغامرة عابرة ومتجددة، لذلك نتنكر لحقيقة الموت.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.