امرأة جميلة في حضرة رجل دكتاتور مثل الوطن

الثلاثاء 2022/11/01
قوام رشيق (رسمة لماهر ناجي)

سألها إلى أين؟ ودّ أن يتجها إلى المحل، ويشتري التمثال، ويأخذ الكوفية التي لن تحتاج إليها رانو هناك. قالت إنها لا تريد العودة. اليوم، تفضل البقاء في وسط البلد وقتا أطول. ولم تضف كلمة، وسألته عن وجهته. قال: المحل، ومنه إلى مرسم سامي.

    أحكم إغلاق ثيابه؛ ليعوض غياب الكوفية. ورفعت الوشاح فغطي أنفها، واقترح عليها الرجوع إلى البيت، وقاية لرانو، فطمأنته بأن الكوفية تكفي، وشكرته مرة أخرى. مدّت يدها لتودعه، فعرض عليها مرة أخرى التفكير في العودة، وخيّل إليه أنه يرى من تحت الوشاح ابتسامة دهشة من إصراره على رجوعها. وشى صوتها بذلك، فكان أقل حدّة:

    ـ عندي رغبة في المشي. أقعد على رصيف قهوة، وأطلب شيشة. حنين مفاجئ للقهاوي المفتوحة على الشارع. المنيل بلا روح بعد إزالة القهاوي.

    لم تكن البرودة تسمح بالتوقف أمام كلمات امرأة يسهل عليها أن تعبّر عن نفسها بالإنجليزية، فتتكلم ببطء، لتنتقي كلمات عربية.

    ـ ملامحك تقول إنك لم تدخني إطلاقا.

    ـ لا أدخن ولا أشرب، فقط شيشة في أوقات متباعدة. وأنت؟

    ـ أدخن أحيانا، وأشرب في صحبة أصدقاء.

    ـ كنت أشرب قليلا، وأسكر بسرعة. وبعد موقف محرج جدا امتنعت.

    ـ لو مصرّة، فأنا أعرف قهوة فيها مواصفاتك، باستثناء الرصيف، من زمان منعوا إخراج الكراسي.

حكى لها ما روته أمه. بعد موت أبيه متأثرا بمضاعفات الإصابة بالفايروس، قبل ثلاثين عاما، ولم تفلح أجهزة التنفس إلا في الإبقاء على روح رهينة جسد هامد. أصيب رشيد وأبوه معا، لا أحد يعلم من أعدى الثاني. تغلّب رشيد على المرض، وعولج بالعزل في مكتب أبيه الذي نقلوه إلى المستشفى. كامل دخل الغيبوبة، ومنعوا الزيارة، واستجابوا بمشقة لإصرار هدى على رؤيته. وقفت قوية أمام المسجى، وخاطبته بمودة، وأمرته أن يقوى ويقاوم. ذكّرته بتفاصيل كان قد وعدها بالمشاركة في إنجازها، رددت اسمه في كل أمر، وكل رجاء، وكل وعد. شعرت بأنه يسمعها، ويجاهد لكي يبتسم فيعجز، يخذله جسده حتى في التألم، ويذوي غائصا في السرير كأنما يختبئ في جوفه، ويتستر بالأغطية، وتسيل دمعة عزيزة على خدّه، فتفرح بها هدى، دليلا على انتباهه، وتميل لكي تقبّل عينيه، فتأتي الممرضة لمنعها، وتخبرها «هدى» أنه أسلم الروح.

    تلك الأرملة لم تعرف كيف تصدّ الإلحاح بضرورة أن تتزوج، واحتجوا بأنها لا تزال صغيرة، مع أنها كانت على مشارف الأربعين. قاطعته سونهام:

    ـ ماما كانت في الأربعين؟ في سني!

    ـ سنك!

    ـ أنا في الأربعين. بدأت الأربعين.

    حيّرته ثقتها وصدقها، وقد ظنها دون الثلاثين. طرح أربعين سنة من الآن، وعرف سنة ميلادها أيّا كان الشهر. كانت الكاميرات مزروعة بوضوح أمام البنايات وفي مداخلها، وفي واجهات المحال، لاصطياد الحركة. تودعهما كاميرا، وتستقبلهما أخرى، فلم يكثر من الأسئلة، وهي أحبت أن تعرف ماذا جرى لأمه الأرملة في سن الأربعين؟ قال إنها وافقت، على كره منها، لتستريح من ضغوط زميلات وقريبات وشقيقات وأشقاء، حتى كادت تشكّ أنها عبء عليهم. وطلبت أن يتم التعارف في مكان عام، واختارت نادي المعلمين.

    وصلت «هدى» في الموعد، وساءها ألا ينتظرها. تأخر خمس دقائق، وجاء في صحبة شقيقته، زميلة هدى، وقد أخبرتها بالتفاصيل كافة: أخوها أرمل، ليس له أولاد، «له أخت واحدة هي أنا». ألقى التحية، ومدّت إليه يدها، ونظرت إلى الساعة في اليد الأخرى، ولم يفهم دلالة السأم، وأنه بدأ مشروع علاقة بالتأخّر. ولم تحب هدى صوته وهو يغالي في المجاملة، ويسألها لماذا تشرب قهوة؟ العصائر تناسب النساء. همهمت: «أنا نساء؟ أنا هدى»، وتمادت في العناد، وأشارت إلى النادل أن يأتيها بفنجان آخر. وطلب لنفسه عصير برتقال، ولم يستشر أخته فطلب لها عصير برتقال. وبتودد لا يخلو من احتجاج، سأل هدى عن فائدة القهوة. ومع كل جملة ينطقها كانت هدى تتخيل سماع الكلام نفسه بصوت «كامل» الذي مضى على موته أقل من عامين. تستدعي صوته؛ فتنفصل عن النادي، والرجل لا يلاحظ شرودها، وتشعر بحروفه توخز أذنيها. لم يعجبه أن تضع ساقا على ساق. لم يستنكر. أمسك لسانه، وأفصحت عيناه.

    تضحك هدى وتحكي لرشيد أنها قاومت رائحته. الرائحة بوْح النفس وعنوانها، وللأجساد روائح لا تذهبها العطور، ولا تخفف خبثها، لعلها خفّة الروح أو ثقلها. غلاظ الأرواح رائحتهم تبعث رسائل ينقبض منها الآخرون وينفرون. آنذاك، لم يفهم رشيد نعمة أن تكون للجسد رائحة جاذبة، ومغوية أحيانا، وأن هؤلاء المحظوظين لا تبلى ثيابهم. كانت لأبيه رائحة حلوة، ولا تزال ثيابه على حالها، وتحتفظ بها أمه التي لها رائحة طيبة ورثها رشيد.

    استحضرت هدى صوت «كامل»، وقاومت ثقل روح شقيق زميلتها بالاستسلام لنوبة ضحك. أمّ رشيد نصحت ابنها ألا يفرض ذوقه على امرأة، وأن يكون كلامه هامسا وقويا، فلا يتمادى في الشدة. وأن يحسم بمحبة، فلا يبالغ في الرخاوة.

    أنهت هدى فنجانها الثاني، وقصدت البوفيه، لدفع ثمن القهوة، وغادرت.

    ضحكت سونهام:

    ـ والدتك ملهمة. أخاف أن أقول كلمة دارجة لا أحبها.

    ـ قولي.

    ـ قادرة!

    ـ لم يقنعها رجل إلا بابا. أخبرتني أنها اكتفت به. أغناها عن الحاجة إلى غيره.

    زامت من وراء الوشاح. كادت تسأله: كيف اكتفت؟ وانصرفت عن الاستفسار إلى سؤال:

    ـ كل هذا بمناسبة الشيشة؟

    ـ لو أحبتها أمي ما منعها أحد.

    كانت القهوة أقل برودة، تدفئها جمرات الشيشة ونيران الموقد، وفي الأركان المرصودة بعيون الكاميرات يتناثر بضعة رواد: ثلاثة رجال، ورجلان ومعهما امرأة تبدو زوجة أحدهما، وعامل يضع بجوار مقعده حقيبة جلدية تبرز من ثقوبها عدّة الشغل. أعاد رشيد تأمّل المكان، هو نفسه بجدرانه التي تسرح فيها الشقوق والنمل، وتزداد قتامة، ويتساقط طلاؤها. كان في السابق واسعا، تتلاصق طاولاته وتتماسّ مساند الكراسي، ويكفي أكثر من أربعين شخصا، وهو الآن ضيق، تصفر فيه رياح يناير، ولا رواد يدفئ بعضهم بعضا.

    هل تنكمش أرواح الأماكن، وتضيق، كلما هجرها الناس؟ وطلب شيشة التفاح، وكوبين من الشاي، واستأذنها دقائق، ورجع بمخبوزات ساخنة من مخبز يعرفه: بقسماط، وأصناف متنوعة من خبز محشو بالعجوة وبالملبن والمحلى بالسمسم. خارج البيت يتجنب الأطعمة باستثناء المخبوزات الخارجة من الفرن.

    ـ وخبز ماما أشهى، أكلت منه أمس بعدما خرجت من المحل. وفرح به هادي.

    فأحست بالجوع. لم تخبره أنها لم تأكل من الليلة الماضية، فكيف فطن إلى ذلك؟

    أجاب:

    ـ ببساطة شديدة، أنت حكيت عن رحلة لم تتوقفي فيها لتناول شيء. من البيت إلى الشهر العقاري، ومنه إلى البيت، فإلى العيادة، ومنها إلى البار، فمتى يمكن أن تكوني أكلتِ؟

    واستدرك:

    ـ نسيتُ المحل!

امرأة جميلة (رسمة لماهر ناجي)
امرأة جميلة (رسمة لماهر ناجي)

فكرتْ كم هو حساس، يعفيها من الطلب، وليس بينهما مساحة للعشم. دعته إلى مشاركتها، وتناول بطرفيْ إصبعيه قطعة يقضمها على مهل، للمؤانسة. راقبت كيف يأكل، باطمئنان غنيّ لم يعهد إلا الشبع. وسألته: هل خالط أجانب، واكتسب منهم فضيلة التأنّي في تناول الطعام، والاستمتاع بالمضغ؟ كظم استياءه مما رآه استعلاء، وعجب أن تقرن السلوك اللائق بالأجانب. وأعاد الفضل إلى «الست هدى». علّمته أمه أن للأكل والثياب والكلام دلالة على الطبائع، وأنه بهذه الأمور الثلاثة وبغيرها يحدد شكل علاقته بالناس وبالأشياء. حكى أنه كان في مهمة عمل بمدينة بعيدة، وتصادف مقعده في السفر بجوار امرأة جميلة. نما بينهما ودّ. وفي اليوم الأول ذهبا معا إلى الغداء، وقصدت البوفيه مباشرة، وهي تكلّم رشيد وتظنه تأخر عنها خطوة، وقد وقف في نهاية الصف. ولم تهتم بنظرات تستقبح الاقتحام، وعدم الاحترام للأكبر سنا والأسبق في الطابور. وعند آنية الأطعمة، لم تنتظر الوصول بطبقها إلى الطاولة، وقذفت يدها من الطبق إلى فمها، ومن الفتات ما سقط. تذكر رشيد أنها في القطار كانت تعلك شيئا، واحتاج إلى قهوة، وسألها أيضا، فطلبت مثله. وجاءت القهوة، فلصقت العلكة بظهر المقعد أمامها. وكاد رشيد يتجاوز عن واقعة القطار وينسى، لولا سلوكها في المطعم. وبحث عن طاولة أخرى، وتجاهلها بقية الأيام.

    ـ تضحّي بامرأة جميلة بسبب اقتحامها الصف؟

    ـ لن تكون جميلة. الجمال لا يتجزأ، ولا يقبل القسمة على «لبانة» في قطار، أو همجية في بوفيه مفتوح. فاهمة قصدي؟

    وقطع كلامه رنين التليفون، وكلما تجاهله تجدد. ومازحته أن يردّ:

    ـ لا يتهرب الرجال الشّيك من الرد على اتصالات زوجاتهم.

    ـ زوجاتهم! حتى الصديقة غير العاقلة، تصبح بسرعة أثقل من زوجة.

    ـ صديقة؟

    ـ نعم.

    وضعت ساقا على ساق، واتخذت سمت الحكيمة:

    ـ لا تخذل امرأة تحبك.

    وجاءته إشارة رسالة، فقرأها وابتسم. استغربت وسألت نفسها: كيف لا يتردد الرجل في إيذاء امرأة، بتجاهل الردّ عليها، ثم يستعجل قراءة رسائلها؟ صارحت بذلك رشيد الذي لم يكن قد فكّر في المفارقة. وأعفته من التفسير، وجرؤت على استئذانه في معرفة نصّ الرسالة. راقت له جسارتها، وقرأ:

“دكتاتور أنت مثل الوطن، ولا هروب منك إلا إلى المنفى”.

   ـ هذا كلام امرأة مختلفة.

    ـ مؤكد. لا أحتمل امرأة غير ذكية.

    ـ أنا حاليا في حضرة دكتاتور.

    بالجملة التي نطقتها بحياد، لم يتبين لرشيد هل تقصد الإقرار والتعجب، أمْ الاستفسار والاستنكار؟

    أوضح أن صاحبة الرسالة طالبة دكتوراه، تدرس القانون، وقريبا ستناقش أطروحتها، وترجع إلى بلادها.

    ـ لو أنك دكتاتور فهذا مخيف.

    ـ مبالغات ما قبل النهاية. نقترب من النهاية. بقي الاتفاق على صيغة تحفظ الكبرياء، وتقلل الألم.

    ـ الكبرياء لا تداوي الجروح. كل تجربة تترك ولو بعض الندوب، إلا إذا كانت تسلية.

    مسّ الكلام شيئا في نفسه:

   ـ حتى في شغلي، لا أترافع في قضية لا أؤمن بها. ولا أدخل طرفا إلا في علاقة حقيقية. وإذا رأى العقلاء في الاستمرار تكلفة نفسية أكبر من الفراق، فمن الحكمة أن يفترقوا، ويبدأوا علاقة لا تستنزفهم نفسيا.

    ـ قلت: «العقلاء». متى يتوفر العقل في المحبين؟

    وأتبعت:

    ـ لا تهتم بكلامي، أنت أدرى.

    نفدت المخبوزات، وظلت بقية القطعة بين إصبعيه. وتأسى على الشارع الكابي. كان أبوه يحمله على كتفيه، هنا قبل أربعين سنة، بصحبة أمه أحيانا، ويبحث في زحام منطقة «البورصة» عن ثلاثة مقاعد متجاورة، من قهوة إلى أخرى. والشارع كله مسرح من القهاوي، ومن صخب الحالمين بالتغيير. فانقبضت أسارير سونهام. طلبت أن تمشي، واكتشفت أنها لا تقوى على النهوض.

    أشار إلى الشارع المظلل بالصمت، وقال إنه قبل تسعة وتسعين عاما خرج من هذا الشارع الصغير بيان الجيش في يوليو 1952. من مبنى الإذاعة تحددت مصائر حكومات عربية ومستقبل دول.

    ـ الضباط قالوا: «انقلاب»، و«الحركة المباركة». وبعض المثقفين قالوا: «ثورة»، فتبعهم الضباط: «ثورة». ومع العدوان الثلاثي تحول الانقلاب إلى ثورة شعبية، إلى حقيقة.

    قالت سونهام:

    ـ ماما تحب عبدالناصر، وتغضب لو سمعت كلمة “انقلاب”.

    ـ وماما تحبه، وكان بابا يحبه إلا قليلا. وأنا صغير، سمعت اسم عبدالناصر يتردد هنا كأنه حيّ. وكانت منطقة البورصة منتدى للغاضبين والحالمين والأفاكين، قبل حلول الصمت. ماما قالت لي إن برج القاهرة هو الشاهد اليتيم على مدينة يتيمة.

    ـ ماما وأنا وأختي شهدنا نقل شجرة أفندينا من أمام البرج. كنا هناك وبكينا.

    ـ خلعوها من جذورها، ورفضت التربة الجديدة وماتت. كان يوم نقلها جنازة. ودّعها الناس بالبكاء، وترحموا على أفندينا القديم، الخديو إسماعيل. أمر بإحضارها من الهند، وأشرف على زرعها في الزمالك سنة 1868. ماتت الشجرة كمدا، قبل وصولها إلى «كيان» المماليك.

    بذكره الكيان، كان على سونهام إنقاذه من حماسة، أو حماقة:

    ـ أعتقد أني أقوى على القيام. لا بدّ أن نمشي.

    شكرها على نباهتها، وطلب أن تظل الهواتف مغلقة. قال إنه سيمشي إلى ميدان أفندينا. وهمست:

    ـ أرجوك، لا تقل «ميدان أفندينا». اليوم أحب سماع الاسم الحقيقي للميدان، كما تسميه ماما.

    أمّ سونهام أورثتها تفادي المرور بالميدان. لم تطأه قدماها منذ سنين. وتشعر بغصّة حين تعبره في سيارة؛ فتمتنع عن النظر إلى معالمه.

    وعدها رشيد بأن يحكي «واقعة الكشري» ليلة الحشر في الميدان. وللمرة الأولى، ماءت رانو، فأشفقت عليها سونهام، وكادت تحتضن الصندوق. طيّبت خاطرها، ووعدتها بسرعة الرجوع إلى “نايان”.

    ـ ناي؟

    ـ نايان.

    ذكّرته بموت «ناي»، واحتفاظها باسمه. آثرت ألا تطلقه على القط الذي آنس رانو، وفضّلت أن يجمع الأنيس بين الراحل والباقي، فكان «نايان». اختارت اسم «ناي» اعتزازا بأقدم آلة موسيقية في التاريخ، اكتشفها فلاح مصري مجهول نام على شاطئ ترعة، في قيظ يوم شاق، وصحا ساعة الرواح ليترنم بموال، وسحب عودا من البوص، وقشّر أوراقه، فالْتمع عود الغاب، وأخذ منه عقلة، وحلا له أن يبريها، ونفخ فيها، ومن الزفرات نبتت موسيقى حببت إليه الحياة، وأنسته جولات الشقاء. من الطين المصري ولد الناي. لم يذكر المصريون القدماء بأي أقلام معدنية كتبوا يومياتهم ووثقوا معاركهم ومعاهداتهم، بالحفر الغائر على جدران المعابد والمسلات الجرانيتية. وإن أمكن ردّ الناي والقلم، الذي كتبوا به على البردي، إلى أصل واحد. غابة مجلوّة ناعمة الطرفين تصدر موسيقى، وأخرى مشطوفة الطرف تسطر حروفا. كان القلم البوص أول ساطر بين إصبعين. ذلك القلم اكتشفه في طفولة التاريخ ربُّ المعرفة والحكمة، تحوت، الذي سمّاه الغزاة الإغريق هرمس. في طين مصر نبت الغاب، ومن الغاب خلق الناي والقلم، كلاهما ناعم ومستقيم، وبالاستقامة بدأ النظر إلى الأعلى، واكتشاف الآفاق، فاستقام الظهر واختفى الذيل، واستوى الإنسان، وفكّر بالقلم، وغنى بالناي.

    استراحت وأتبعت:

    ـ في الكلية أعددت بحثا عن جذور الناي في مصر القديمة. وذكرت طرفة أضحكت لجنة المناقشة.

    ـ طرفة في بحث علمي؟

    ـ استعنت بأغنية «بعيد عنك» لأم كلثوم. عازف الناي، الذي تحرّيت عنه وعرفت أن اسمه «سيد سالم»، فاجأها بالخروج على النوتة. ارتجل تغريدة غير متفق عليها في اللحن، فانطلقت آهات الجمهور، واستحسنت أم كلثوم وفاءه لجدّه الفلاح مكتشف الناي. التفتت إليه، وسألت بدهشة: «إيه ده؟». وابتسمت «الست» وتمايلت.

    من البرد، غطت سونهام جبينها وأذنيها إلى عنقها بكبس القبعة، وحشرتها تحت ياقة المعطف.

    ـ لم أحب أن يكون اسم الضيف الجديد «ناي». المهم أن رانو فرحت برفقة “نايان”.

    رفع رشيد طرف الكوفية، ورأى رانو مستدفئة بالانكماش على نفسها، وقال:

    ـ محظوظة رانو، تفقد ناي، فيعوّضها نايان.

 مشهد من رواية "2067" تصدر قريبا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.