انتظرني في البيت

فصل من رواية
الأربعاء 2021/12/01
لوحة: جاسم محمد الفضل

«1»

ليلة المتاهة

لا أعرف ما هو اسمي بالضبط.. ولم أر هذه الدنيا إلا في ذلك اليوم الذي سمعت فيه ضحكة “شمس” وهي توقظني من النوم.. هبت الريح التي حركت باب الكوخ وأوراق الشجر، فلم أسمع صوتاً آخر غير تلك الضحكة الخافتة التي تتلوى مع برتقالة كبيرة تقشرها تلك المرأة على شكل شريط لولبي ينثر رذاذاً لاذعاً في الهواء. وجدت نفسي مرمية على الأرض عندما استيقظت من النوم، فقلت لنفسي ما هذا الهدوء الذي يلف هذا المكان الغريب؟ ومن هذه المرأة التي تضحك وتقشر البرتقال؟

نهضتُ بصعوبة بالغة من الأرض، فتوقفتْ المرأة عن الضحك.. والتفتتْ تنظر إلى باب الكوخ المفتوح تماماً، ثم سكنتْ السكين في يدها، وأصبحتْ محشورة تحت الحشوة البيضاء لقشر البرتقالة.. نظرتُ أنا أيضاً إلى الباب، فتحرك بقربه ظل طويل إلى أعلى.. ومع اختفاء ذلك الظل تحركتْ سكين المرأة مرة أخرى، وتكوم القشر اللولبي في حضنها حتى تكامل على شكل برتقالة فارغة من اللب.. شعرتُ بالخوف منها، ثم سألتها بصوت ضعيف: من أنت؟ فقالت إن اسمها “شمس”، وإنها لن تفارقني في هذا المكان الجديد، ولن تدعني أحزن أو أمرض أو أجوع… لا أعرف من تكون هذه العجوز التي رأيتها أول ما استيقظت من الغيبوبة، ولا أدري كيف جاءت بي إلى هذا المكان المنعزل عن العالم كله؟ إلا أنها من المؤكد تعرفني جيداً، وتخاف عليّ، وتريدني أن أغسل وجهي كما لو كنت ابنتها التي استيقظت تواً من النوم.

أغسل وجهي؟ وما هو شكل وجهي؟ أشعر بأنه فتي نحيل، ولا يشبه وجه “شمس” العجوز الذي يشف عن بياض وفير ويحيط به شعر كثيف. أما وجهي فلم أره أول مرة إلا في الماء الصافي عندما ترجرجت السماء، وتكسرت صورتها على صفحة النهر، فلم أستغربها، ولا استغربت كل ما ورد على صفحة النهر من غيوم تهتز وطيور تفزع، لكني استغربت شكل الوجه الذي أراه أول مرة يتوسط شعراً طويلاً يغطي رأسي وهامتي.

تناديني “شمس” بأسماء ثلاثة تتغير مع تحولات القمر.. فتطلق علي اسم “ثريا” عند المحاق وشدة الظلام، ويصبح أسمي “نصف القمر” بعد أيام قليلة من ظهور الهلال في السماء، ثم يتغير إلى “كل القمر” عند اكتماله بدراً على شكل وجه إنسان…… وحدها “سيسم” التي لا تتغير… و”سيسم” هذه ترحل بعيداً عندما يموت الإنسان، ولكنها الروح التي تبقى ولا تموت.. إنها تعيش في العيون على شكل نقطة الصغيرة في الوسط، وهي التي، يقول “مارد”، إذا ما نظرنا إليها يتحقق اتصالنا مع من نراه على الفور.

“مارد” طويل القامة ناحل الوجه، ولونه الأسمر مشابه للون الكوخ، غير أنه أفتح قليلاً من لون تراب الأرض، وفي وجهه يوجد تعبير جميل لإنسان تائه قد نسي نفسه في مكان بعيد لا يمكن الوصول إليه. رأيته أول مرة يمر بالقرب من كوخنا وقت الغروب، وكان يمشى ممتطياً حصانه “قندس”، فشعرت بأنني قد عرفت “مارد” في زمن مضى، ولبثت جامدة على صخرتي العالية أنظر إلى القمر في السماء، وأسمعه يتحدث مع “شمس” عن جرة سماوية يضع فيها أحجاراً ومحارات جمعها من قاع النهر. التفتُّ إليه فأصبح لون وجهه بلون الغسق، ثم نظر هو إليّ، فتحرك قلبي من مكانه، وتلون وجهي بلون أشد احمراراً من الغسق.

لوحة: جاسم محمد الفضل
لوحة: جاسم محمد الفضل

“مارد” يحفظ الكثير من القصص والأساطير التي لا أعرفها، ويعلمني أسماء الثمار التي يجمعها من الفيافي، ويجلبها لأبيه المشبرق حكيم العشيرة.. كان يقلعها من قيعان الأرض، ويطرحها في الجرار والأكياس لكي يخمّرها فيما بعد، ويحولها إلى عطور وعلاجات لتهدئة الحزن وتسكين الألم… ليست “سيسم”، التي تعيش في العيون، هي النقطة الوحيدة التي حدثني عنها «مارد»، وإنما حدثني عن نقطة أخرى هي قطرة المطر التي تعيش في الغيوم.. قال لي إنها لا تولد بذلك الشكل الدائري، ولا تتخذ هذه الهيئة الكروية إلا عندما تقترب من الأرض التي تجذب كل شيء إلى أسفل بما في ذلك نحن البشر.. ولكي يوضح لي كيف يتكون الشكل الكروي لقطرة المطر، فقد غطس رأسه في ماء النهر، ونفخ الهواء فيه، فخرج زفيره على شكل كرات شفافة هي الفقاعات.

قلت له كيف تحول زفيرك إلى كل هذه الفقاعات المدورة، فقال «مارد» لأن الحركة في هذا الكون تعتمد كلياً على شكل الدائرة… فهو الجمال الأمثل الذي يخدم وجودها المتحرك على الدوام.. سألته: وهل الجمال يعني شكلاً واحداً فقط هو الدائرة؟ قال كلا.. الجمال يأتي في أشكال متعددة، غير أن الشكل الكروي هو الأكثر شيوعاً بين الكواكب والثمار لأنه يأخذ الحيز الأقل من الطبيعة.. سألته إذا كان شكل الكرة هو الأجمل والأمثل، فلماذا شكل البيت ليس كروياً؟… ضحك «مارد» وقال: ربما البيت هو الشيء الوحيد الذي يجب ألاّ يتدحرج بعيداً عن مكانه في هذه الدنيا.. أليس كذلك؟

«مارد» يعرف الكثير من الأشياء التي لا أعرفها.. وأنا فعلاً لا أعرف الكثير.. وأحب أكثر مما أعرف.. ولولا أن هناك أشياءً أحبها عندما أستيقظ من النوم لما شعرت بالفرح أبداً في هذا المكان الغريب…. فأنا أحب هبوب الريح المنعشة من ضفة النهر لأنها تتخلل شعري الطويل وتجعله يتطاير في كل الاتجاهات، وأحب رائحة العجين عندما ينتفخ، لأنها تغربلني من حزني وتجعلني أشعر بالراحة والأمان. وأكثر من هذا كله كنت أحب صوت الرعد عندما أسمعه للمرة الأولى بعد انتهاء الخريف.

قطرات المطر المتساقطة أيضاً أحبها كثيراً لأنها تبعث عطراً طيباً عندما تتغلغل بذرات التراب، أو تشق صفحة النهر في حفر صغيرة يتراقص حولها الماء، وفي الحالين يتردد اسم «مارد» في رأسي، ويتكتك بعدد القطرات التي تنقر سطح النهر، أو تتخلل طيات التراب. وحتى إذا أمطرت الدنيا وأنا نائمة، فإن الحلم يجمعني بـ”مارد” دون أن أعرف كيف حدث ذلك. أقول لنفسي هل «مارد» يحلم بي مثلما أحلم به، أم تشغله الفيافي والسباسب عن الحديث إلى نفسه كما أتحدث أنا؟

تقول نفسي لا تقلقي من تسلل «مارد» إلى أحلامك كلها، فهو يفكر بك مثلما تفكرين به، وما دمتِ رسمتِه على هذه الصورة، فهو أيضاً قد رسمك على هذه الصورة. سكن قلبك وسكنتِ قلبه، وهو لك وأنت له، وستكون لكما روح واحدة ويجمعكما قلب واحد… طيبةٌ نفسي وحنونة ولا تمل من تحويل همي إلى سعادة…. فمن هي نفسي الموجودة داخلي هذه؟ ولماذا أشعر بالسعادة عندما أتحدث إليها فوق صخرتي العالية؟.. هل هي أنا أم أنا هي؟.. هل هي جن مختبئ في داخلي، أم ملاك؟

أعيش في هذا الكوخ مع «شمس» منذ سنوات أو شهور عديدة.. لا أدري… الشهور تمضي دون أن أهتم كثيراً بعدها أو أعرف متى بدأ الحساب. ولولا أعواد الثقاب المشتعلة لما عرفت أنها انقضت وطارت مثل الدخان.. كأنني لا زلت نائمة في تلك الغيبوبة التي استغرقتْ عدة أيام بعد وصول القارب إلى هذا الكوخ.. وجدت نفسي فيه بعد أن  قذفني النهر إليه، ليكون بيتي مع تلك المرأة البيضاء التي أنقذتني من الغرق، فرأيتها أول من رأيت بعد استيقاظي من الغيبوبة… كانت تقشر البرتقالة عن شريط لولبي ينثر رذاذه اللاذع في الهواء.. اسمها «شمس»، وهي التي ربتني بعد أن نجوت من فيضان كبير أغرق مدينتي كلها، ولم يتبق من أهلها وأهلي سوانا.

قالت إنها وجدتني عائمة على الماء، فأخذتني في قاربها الكبير ونجت بي من الكارثة.. شعرها طويل وكثيف وأبيض كالشمس، ولها القدرة أن تحمل فوق ظهرها نصف أغراض الكوخ دون أن تتعب أبداً، وأن تصف كل شيء تراه بعينين قديمتين ولسان قديم. تحتفل كل يوم بشم الهواء كما لو كان عيداً للفطر بعد الصوم، وتقول إنها امرأة الحياة التي تتطيّر من الموت وتُتقن فن البقاء، لهذا وضعتْ في قاربها كل الحاجيات التي حفظتها في غلاف مكنون لمثل هذا اليوم العصيب، فأخذت وسادتها مع صندوق مليء بالخضار المجففة والطحين والملح والشاي والسكر، كما وضعت في القارب حقيبة مليئة بالملابس والعُدد الصغيرة وعلب الكبريت والصحون والمناشف والشموع والصابون.

كانت الحقيبة زرقاء بلون أغمق من لون السماء، ولا تنفد منها أبداً محتوياتها الكثيرة.. كم غريب أن يحدث هذا… لماذا لم تكن تلك الحقيبة تفرغ من كل تلك الحاجيات؟ وكيف يحدث هذا؟ سألت «شمس»، فقالت إن تكرار الحروب والاستعداد لها عبر عقود من السنين جعلها تتعلم فن الفرار، فتضع دائماً حليَها وملابسها ومرآتها في حقيبة معدة للسفر، وأعشابَها وبذورها وطحينها في حقيبة أخرى.. كما قالت إنها رمت إلى الماء حقيبة ثالثة مليئة بألبومات الصور والتذكارات وأوراق الدفاتر.

الصور؟ أي صور؟ من المؤكد أنني رأيتها عندما عشت حياة جميلة سابقة لهذه الحياة تزدحم فيها الوجوه داخل أمكنة تمتد على مرمى البصر.. ولهذا عندما تحدثت «شمس» عن ألبومات الصور، هجمت تلك الوجوه الكثيرة كالعصافير الجوعانة فوق سمت رأسي، ثم تناثرت بين صالات واسعة وحدائق جميلة كانت تتسرب كالرمل من بين الأصابع.. حاولتُ بجهد كبير الإمساك بصورة واحدة والإبقاء على وجه واحد من تلك الوجوه.. لكن كل الذي مر بالي هو صوت بعيد لمغنية عمياء ما لبث أن غرق هو الآخر إلى قاع البحيرة.

لم تنفد ذخيرتها من متاع الشاي والسكر إلا بعد وقت طويل، أما ذخيرتها من البذور والطحين فلا زالت تزودنا بالطعام إلى حد الآن. لا أعرف من حصد وجفف وطحن تلك البذور، ولا أتذكر شيئاً مما كانت تقوله حول قارب نجاتنا وما ترويه من أهوال الفيضان، ولا أدري لماذا خلا النهر من القوارب بعد ذلك، فلا أجد بشراً يعبره أو مركباً يطفو عليه، كما وليس هناك من مخلوقات تجاورنا سوى الدجاجات والحملان الصغيرة  التي لا أعرف من أين جاءت لتبحث عن طعامها حول الكوخ..

بدا ذلك الكوخ وكأنه ينتظرنا هناك بعد أن انحسر الماء، واستوى القارب على هذه الأرض الجميلة. أما ماء النهر فأصبح صافياً وهادئاً تستقر فيه صورة السماء بلا اهتزاز أو اضطراب، بل لا أثر فيه لتلك النوبة الضارية من جنون الماء والطين التي حدثتني عنها «شمس». الغيوم ناصعة البياض مخلوطة حافاتها بندف من سواد فاتح اللون.. وعندما ينعكس بياضها على صفحة الماء، فإنه يتشقق عن وجه جميل يتوسط شعراً طويلاً يغطي رأسي وهامتي… إنه وجهي الذي تأملتُ صورته في الماء طويلاً، وشعرت بالسعادة لأني أمتلك هذا الوجه الفتي والشعر الناعم الطويل.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.