انفلات‭ ‬ضبابي

الخميس 2015/10/01
تخطيط لـ حسين جمعان

لا أعتقدُ أنّ من يدّعي “الشّعر” أو الكتابةَ، لديه مهامٌ أو واجباتٌ أو أيّ شيءٍ من تلكَ التّصانيفِ التي تصبحُ الكتابةُ فيها وظيفةً مملةً لها تفاصيل الوظائفِ العملية الروتينية، الكتابةُ انفلاتٌ ضبابيٌّ ذاتيٌّ من كل هذه المفاهيم الجمعية، وليس لصالح أو لترسيخ مفاهيم جمعية أخرى، هي انفلاتٌ وكفى‭.‬

ولكن إذا كنّا نريد الدخول في تفاصيل امتصاصه لما حوله من ظروف ذاتية وموضوعية، وطريقة إخراجه لها، فأعتقد أن من يّدعي “الشّعرَ” أو الكتابةَ عموماً، لا يشعرُ بأن عليهِ أن يكتبَ عن كذا، أو أن يقولَ كذا، هو يمتصُّ ما حوله من خلالِ ذائقةٍ مختلّة في الأصل، في علاقتها مع الكون والأشياء والبشر والكائنات، ومن هذا الخللِ الجيني فيه، ينسابُ بلا وجهةٍ محدّدةٍ ليهجو الوجودَ عموماً، هو دائماً ما كان يمشي في الشارع ويصيح “يا ناس يا هو يا عالم” إننا نسيرُ بخطىً واثقةً نحو الخراب الكبير، الكراهية تنمو يا قوم، الكراهية تزدهر، لكن لا أحد يصغي إليه ويتهمونه بالجنون والفشل ومعاداة الحضارة، وعند وقوع فجيعة ما في مكان ما يتراكضون إليه ليرثيها ويخلدها في اللغة، فيشتمهم ويشتمها ويشير بإصبع الاتهام إلى الجميع بعد أن يشير إلى نفسهِ أوّلاً، أنْ كيف لم يقتل نفسه قبل رؤية ذلك‭.‬

من لحظة انفجار الكونِ إلى يومنا هذا، تاريخنا نحن من نسمّي أنفسنا ” البشر” لم يتغير، لم نترك يوماً يمرُّ على الطبيعةِ بسلامٍ، دون قتلٍ أو كراهيةٍ أو استخفافٍ ببعضنا البعض، وربما يكون الــ”النزيف السّوري” بكل تفاصيله المؤلمة مجرد خيارٍ قصديٍّ في خطِّ صيرورتنا التي اخترناها لأنفسنا بالصراع الدائم دفاعاً عن القيم دون أن ننتبه لبداهة المعادلة التي تقول إن الصراع، أي صراع، يسقط كلّ القيم، هو أضحية -النزيف السوري- كغيرها من الأضحيات التي مرّت وتمرّ وستظل تمرّ كل بضعة عشراتٍ من السنين، وسنطبل ونزمر ونشتم ونجرّم، ثم نذهب للرقص في بار ليليٍّ كأن شيئاً لم يكن، هو تفريغٌ بسيطٌ لعنفنا الداخلي الذي ينمو يومياً بكل ما يحيط بنا، ننتقي له “كبش فداء” كي لا ندّمر الكوكبَ فوق رؤوسنا، سوريا ليست نزيفاً مستقلاً خاصاً للإنسان، هي جرحٌ آخرٌ في جسد البشرية المستمرّ بالنزيف، وريدٌ غير معطوبٍ بعد، لمدمنٍ على إبر العنفِ كلما أفسدَ وريداً انتقل إلى غيره، هكذا شيئاً فشيئاً، تتخرّب الدورة الدموية للكوكب، بسذاجة الاعتقاد أن التضحية بوريد خير من انفجار الجسد كاملاً، لا فرق في ذلك، إلا كالفرق بين الانتحاري الذي يفجّر نفسه في لحظة، والجندي الذي يتلقى الإصابات في المعارك ولا يستقيل من الحرب، إلى أن يقتل‭.‬

الموتُ غرقاً، الموتُ بالبراميل، الموت بالكيميائي، الموت بالرصاص، الموتُ بالسكين باللكمات، كلها تفاضلاتٌ وتنويعاتٌ وُضعتْ من الحكومات والسلطات منذ بدء التاريخ، لكي يصبح محور حديثنا عن هَول “الطريقة” طريقة الموت، لا عن القتل والموت بحدّ ذاته، عن القيح الذي بدأ يفرزه الجسد السوري إلى الجغرافيات الأخرى عبر اللجوء ومعاناته، لا عن الجرح الرئيسي الذي يستمر العالم جميعاً بالضغط عليه وعصره، نصيبنا الدم ونصيبهم القيح، القيح يُمسح ببعض الإجراءات لكن الجرح يحتاج إلى إخاطة، ولا أطباءَ في هذا الكوكبْ قتلةٌ وجراحو تجميلٍ فقط، لم نفعل شيئاً منذ أسطورة قابيل وهابيل، سوى أننا طورنا المُلكيات وطورنا أدوات القتل اللازمة للدفاع عنها، تنمو الملكية فتنمو معها أداة دفاعها‭.‬

وعن كيف يميز الشاعر صوته وموقفه عن بقية اللاعبين باللغة والكتابة والتعبير؟

أعتقد أنه يميز كل ذلك بالعواء والأنين والهجاء، بمقاطعة كلتا اللعبتين: مدح القتل، ورثاء الضحية، هو ليس ضميراً، وإنْ كانَ، فغائبٌ تقديره لا أحد‭..‬ وليس رايةً، وإن كانَ، فمهترئٌ ومعلّقٌ على فزّاعة قشّ‭..‬ وليس جندياً، وإن كانَ، فذلك في أيامٍ خلت منذ الطفولة ولعبة شرطة وحرامية‭.‬

هو بومٌ كهلٌ، يدلُّ على الخرابْ فقطْ، ويجلسُ بألمٍ عليه، الخراب، بعد حدوثه ليتغذى على الجرذانْ ويهجو‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.