ترجمة بلا قيود

السبت 2022/10/01
ترجمة بلا قيود وباختيارات ذكية قد تعيد إيقاد نار الحضارة التي خبت

احتفت وكالة الأنباء العمانية بخبر فوز عالم الوراثة السويدي سفانتي بابو بجائزة نوبل للطب بطريقتها. فبالإضافة إلى ذكر الخبر، أبرزت الوكالة اسمي مترجمين عمانيين لكتاب بابو “إسان النيندرتال: في البحث عن الجينومات المفقودة”. حسين العبري وحمد سنان الغيثي التقطا أهمية كتاب بابو، وأمضيا سنتين في ترجمته إلى العربية. هذه الالتقاطة تستحق الإشادة فعلا. ليست المرة الأولى التي يحسن فيها حسين العبري اختيار كتاب مهم لترجمته.

العبري، الطبيب النفسي والروائي، قدم لمكتبة الترجمة كتابين آخرين. ترجم كتاب توماس نيجل “ماذا يعني هذا كله؟ مقدمة قصيرة جدا للفلسفة”. لم أقرأ الكتاب ولا أستطيع الحكم عليه، لكنه ينتمي لفئة كتب تحاول أن تقدم الفلسفة مبسطة لقارئ عادي، أو ما يمكن وصفه بـ”كيف تتعلم الفلسفة بلا دموع”. لكن اختيار الترجمة الأهم كان لكتاب يوفال نوح هراري “العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري”، والذي ترجمه مع صالح بن علي الفلاحي. هذا من الكتب التأسيسية التي من الضروري الاطّلاع عليها، هو والكتاب التالي لهراري “الإنسان الإله: تاريخ وجيز للمستقبل” الذي – لا غرابة – قام بترجمته شريك العبري في ترجمة “إنسان النيندرتال” حمد سنان الغيثي مع صالح بن علي الفلاحي شريك العبري في ترجمة “العاقل”.

يمكن القول إن اختيار كتب هراري للترجمة كان أسهل كثيرا من التقاطة كتاب بابو. صحيح أن كتاب “إنسان النيندرتال” حظي بالإشادة عند نشره عام 2014، لكنه لا يقارن بالشعبية التي رافقت نشر كتب هراري. لهذا ترجمة كتاب بابو التقاطة وترجمة كتب هراري اختيار.

ماذا نختار لنترجم؟ لديّ ردي الخاص، لكني آثرت أن أتوجه بالسؤال إلى شخصية تركت بصمة واضحة على مشاريع الترجمة إلى اللغة العربية. قبل أكثر من عشرة أعوام، تسلم الدكتور علي بن تميم مشروع “كلمة” للترجمة في أبوظبي. قبل تسلمه المسؤولية، كان كلمة مشروعا قائما، لكن العمل على تفعيله للمستوى الذي يحقق الغرض من إطلاقه أصلا، ظل متأخرا. خلال أشهر قليلة، كان كلمة قد تحول إلى مشروع معرفي حقيقي للترجمة يلبّي طموح القيادة في أبوظبي في تسجيل الحضور في الشأن الثقافي العربي عموما، وفي قضية الترجمة على وجه الخصوص. ماذا نترجم؟ كان رد بن تميم لافتا. قال في حينها ما معناه أن نترجم ما فاتنا في الشأن المعرفي. وتعريف الشأن المعرفي واسع، ربما أكثر بكثير من النظرة التي بدأت تضيق لما يمكن أن نعتبره معارف. كلمة ترجم كتابا عن الشاي مثلما ترجم عن الذبابة وتاريخها الطبيعي والثقافي. لم يتقيد المشروع بوهم أن المعارف اليوم يسود عليها التكنولوجي والحيوي الطبي. ترجم للطفل وللبالغ، وترجم من مروحة واسعة من اللغات. ومثلما كانت التقاطة كتاب بابو لافتة، فإن كلمة بدوره استبق بأشهر فوز هيرتا مولر بجائزة نوبل وترجم روايتها “أرجوحة النفس” وهي ما تزال مخطوطة. لم يقتنع محررو المشروع بمقترحي لترجمة كتاب “الضحلون: كيف تغيّر الإنترنت الطريقة التي نفكر ونقرأ ونستذكر بها” لنيكولاس كار. ربما نسي الكتاب على رف، أو “ضاع في الترجمة” كما يقول المثل.

حوّل القائمون على مشروع كلمة الإمكانيات التي سخرت لهم إلى مكتبة عامرة. ربما ما ينقصها هو التسويق.

في بلد محدود الإمكانيات مثل مصر، كانت الترجمة تحتل حيزا مهما في الشأن الثقافي. هناك الكثير من الترجمة بمبادرات فردية، بعضها جيد والبعض الآخر رديء. لكن بالتأكيد أن المشروع القومي للترجمة كان متميزا بالاختيارات. تستطيع أن ترصد وعي القائمين على المشروع، من نوعية تلك الاختيارات. كان لافتا مثلا اختيار كتاب ديفيد لانديس “بروميثيوس بلا قيود: التغيير التكنولوجي والتطور الصناعي في أوروبا الغربية منذ عام 1750 إلى الوقت الحاضر”. لم تقف المترجمة مي رفعت سلطان عند “الوقت الحاضر” وهو تاريخ صدور الكتاب عام 1969، بل اكتشفت أهميته المعرفية رغم مرور 35 سنة على صدوره. صدرت الترجمة العربية عام 2005. اختيار موفق للعودة إلى أسس النهضة الغربية على الرغم من أن لانديس كان قد أصدر كتبا أخرى مهمة في الثمانينات والتسعينات عن النهضة الصناعية في الغرب لعل أهمها “ثروة وفقر الأمم: لماذا البعض مترف الثراء والبعض مدقع الفقر”. كتاب “بروميثيوس بلا قيود” من الكتب المترجمة المهمة، ولعل ما كان ينقصه هو عملية تدقيق لغوي إضافية للابتعاد عن أخطاء مثل كتابة اسم المؤلف نفسه الذي وضع “لاندز” على الغلاف، ثم “ليندس” في الصفحة الداخلية الأولى. أنا ألفظه وأكتبه “لانديس”.

مشاريع الترجمة المعرفية متعددة في البلاد العربية. بعضها متذبذب بعدد الكتب التي تتم ترجمتها سنويا، والآخر متذبذب بمستوى الترجمة نفسها. صمود بعضها على مدى عقود مثل سلسلة عالم المعرفة في الكويت يستحق التحية، ومثابرة المترجمين الأفراد في تقديم ما يعتقدونه مهما للقارئ العربي جدير بالإشادة.

لا نحتاج فقط إلى المزيد من الترجمة، بل من الضروري أن نتأنى بالاختيارات. وكما أطلق إله النار بروميثيوس الحضارة بلا قيود، بحسب الأسطورة الإغريقية، فإن ترجمة بلا قيود وباختيارات ذكية قد تعيد إيقاد نار الحضارة التي خبت في عالمنا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.