تلك المدينة الجميلة

الماضي بلد أجنبي
السبت 2018/12/01
لوحة: سعد يكن

كتب الروائي البريطاني ليسلي بولز هارتلي عبارته الشهيرة في رواية “الوسيط”: الماضي بلد أجنبي. كان يصف فكرة الانقطاع عن المكان أو انقطاع المكان عن ناسه، إما بتغيرات الظروف المتسارعة أو بفعل عامل الزمن. الرجل في الرواية كان يحاول استرجاع التغيرات في بلدته مع تحولات نهاية العصر الفيكتوري ودخول القرن العشرين الجديد. كان يقرأ مذكراته وهو صبي ليكتشف كم كان متفائلا عام 1900، وكيف انتهى الأمر به في منتصف القرن وهو يرى “قرنا بشعا” يحمل المآسي.

متابعة أخبار البصرة تشبه مطالعة هذه الرواية. للصبي الذي عاش فيها في السبعينات، تبدو بصرة اليوم بلدا أجنبيا. من الصعب مطابقة إحداثيات الحياة والثقافة والرقي الاجتماعي والفكري في تلك المرحلة الزمنية، مع ما آلت إليه الأوضاع فيها اليوم.

يضرب العراقيون المثل “بعد خراب البصرة”. لكن بصرة السبعينات التي في ذاكرة الصبي لم تكن خربة، بل كانت مدينة تعج بالحياة. كانت من الجمال والإثارة إلى درجة أنه كان يفضل الرطوبة الشديدة وحرّها القاسي “اللذين يسويان الرطب ويجعلانه تمرا”، على السفر إلى بغداد أو إلى خارج العراق. الصيف هو موسم صيد الأسماك. وأحلى عصرية يمكن أن تقضيها رغم الحر الشديد هي على جرف شط العرب تنتظر المد الذي يأتي بأسماك الشانگ الصغيرة واللذيذة. هناك يتعلم البصريون أول دروس الصبر.

في تلك الأيام، يمكن لحفلة إنشاد مدرسية مشتركة بين الإعدادية المركزية للبنين وثانوية العشار للبنات أن تملأ قاعة مؤسسة الموانئ الكبيرة. هذا النوع من النشاط المدرسي كان جزءا من حياة البصرة. كان المقدمة للطرب والغناء والشعر الشعبي الذي ميّز أهل المدينة دائما. الطلبة والطالبات يختلطون معا بروح حية وخفر محسوب.

الأندية الاجتماعية والثقافية كانت حافلة بالناس. أقام البصريون والوافدون من بقية أنحاء العراق أنديتهم المهنية الخاصة. هذا نادي الميناء في المعقل وذاك نادي النفط في البرجسية. تجد خليطا من أبناء العراق، يعيشون بتجانس مع من بقي من مهاجرين من إيران والقارة الهندية وجنوب الخليج. لن يفوتك أن تلحظ الوجود المسيحي الأصيل أو ذلك الذي قدم من شمال العراق بحثا عن وظيفة في واحدة من أهم مدن العراق حيوية اقتصاديا، تميزهم بلهجتهم المصلاوية التي تشد على حرف القاف، لكنهم يمزجونها بكلمة “چا” التي يبدأ بها البصريون حديثهم. المسيحي ابن البريهة يحاكي ابن الحيانية المسلم.

تعايش البصريون من دون تمايز اجتماعي أو طائفي يذكر. أحياء الفقر مبتسمة وأحياء الغنى غير متبجحة. وفي ما عدا بعض الفيلات المميزة على شارعي متنزهي الخورة والبراضعية، تبدو البصرة متجانسة وحميمية.

لم تكن البصرة تخلو من مناسبة يومية، من الشعر والمسرح والدواوين الثقافية والمعارض. تفتخر يوميا بأعلامها الذين تطلق أسماؤهم على مدارسها وشوارعها وأحيائها. الأصمعي والفراهيدي والجاحظ وسيبويه. تشاهد عائلة السياب التي تأتي من أبوالخصيب بشكل دوري لتغسل تمثاله على حافة الشط وتنادمه في غربته الخليجية النهائية.

حتى أشهر الحرب العراقية الإيرانية الأولى لم تتمكن من تغيير الحياة في البصرة كثيرا. امتلأت بالجنود لقربها من جبهات القتال، وصارت القذائف الإيرانية تتساقط عليها، يوميا، ولكنها بقيت مصرّة على أن تحيا. الشاهد، أن الخليجيين، وخصوصا الكويتيين والسعوديين، ما انقطعوا عن زيارتها وقضاء سهراتهم فيها. كانت صفارات الإنذار تدوي، فيخرج التلاميذ من فصول الدراسة ليتجهوا إلى دور السينما في شارع الوطني بدلا من العودة إلى البيت. الصفارات كانت كجرس المدرسة، فسحة من ضغط الفصل الدراسي وليست إيذانا بتساقط القذائف. البعض كان يعبر شط العرب على الجسور المتحركة التي أقامها الجيش للوصول إلى منطقة التنومة حيث جامعة البصرة، ليتناول الحمص المسلوق (اللبلبي) من العربات التي تنتشر عند بوابتها.

غادر الصبي المدينة بعد أن كبر قليلا ليلتحق بالجامعة في بغداد ثم يهاجر، وبقيت الذكريات في مخيلته عن تلك المدينة الجميلة التي اقتلعتها الحروب من سكينتها. استمر بالتواصل مع أصدقاء المراهقة ثم تلاشت الخيوط مع تلاشي الصور وبعض الذكريات. شناشيل البصرة القديمة والعشار ما عادت إلا صورة بوستكارد بريدي مطبوع بطريقة رديئة تعكس الرداءة التي صارت تخنق كل شيء.

الماضي بلد أجنبي. لأن الماضي الجميل لا يبوح بما آل إليه الحاضر من بؤس. البؤس الذي جعل أهل البصرة وقد أنهكتها حرائق الحروب، يعمدون إلى إشعال المزيد من الحرائق لينتبه العالم لهم. من حقهم أن يتساءلوا: متى نقول “بعد عمار البصرة”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.