ثقافة الاعتراف والزمن الافتراضي

الأربعاء 2021/09/01

من معاني الصفح في اللغة الترك، الإعراض والمجانبة، فالمتهم أو المذنب لن يتلقّى هبة التخلي الكامل عن الحق والمعاقبة المادية والمعنوية في الوقت ذاته، وإنما سيسقط عنه الحق بالرد بالمثل كأن يعاقب عقابا جسديا، ولكن لن يسقط عنه العقاب المعنوي في حالة الصفح، لذا فهو ترك الرد أو ترك العقاب الجسدي والإعراض بالجنب عن المذنب، وهذا الإعراض يأتي من ثقل الذنب والظلم الذي تعرض له من يُطلب منه الصفح، لذا يمنّ على المذنب عند طلبه الصفح منه، مما يعني عدم تحقق التنازل الكامل عن الحق، وإنما ترك الرد والمعاقبة بـ”المثل”، أي أن الصفح لا يلغي العقاب ولكنه قد يخفف العقاب من إعدام الحياة إلى الإبقاء على الحياة والمنّ بها على المتهم، وهو رد على طلب يأتي من المذنب بعد أن يعي ويشعر بعظيم ذنبه وجرمه المرتكب بحق الآخرين الذين يراد منهم منح الصفح، ذلك الصفح الذي يتوقع منحه.. و قد لا يمنح وهو أمر ممكن أمام عظيم ما وقع من ظلم ومن ذنب كبير، لذا فهو الصفح المستحيل كما يعبر عنه جاك دريدا ولا يكون هذا الصفح إلا عن اللاممكن (ينظر: الصفح (ما لا يقبل الصفح وما لا يتقادم)، جاك دريدا، تر: مصطفى العارف، منشورات المتوسط، ط1، 2018: ص35) وعند بول ريكور هو الصفح غير متوقع الحصول الذي يستحضر الرفض أمام ما لا يقبل الصفح، وهو ما يمنح الصفح معناه. (ينظر: الاعتقاد والانتقاد، بول ريكور، تر: حسن العمراني، دار توبقال، ط1، 2011  ص41).

بعد هذا الاستعراض الوجيز للصفح، نأتي على العلاقة بين منح الصفح والاعتراف، وهي شبيهة بالعلاقة بين السيد والعبد التي تصدرت فهم حركة الجدل في الصراع من أجل الوجود وصولا إلى الصراع من أجل الاعتراف عند هيغل ومن بعده أكسل هونيث، فهيغل في مرحلة الصراع من أجل الوجود يذكر أن الأنا الأنانية تدفع باتجاه “أن يسعى كل فرد إلى موت الآخر، مثلما يجازف بحياته…” (فنومينولوجيا الروح، هيجل، تر: ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2006  ص 272). وهي رؤية تشترك مع رؤية مكيافيلي وهوبز للطبيعة البشرية كونها نزاعة للصراع وأنانية تسعى لإقصاء الغير ومنافسته والصراع معه وجودياً (الاعتراف في رواية الأجيال العربية المعاصرة، أطروحة دكتوراه، حمزة عبدالأمير حسين، العراق – جامعة بابل، 2021  ص 20)، ولا تعترف للآخر بحقه الكامل بالوجود والتمتع بالحياة والاستقلالية والحرية الذاتية، لذا فعندما نستحضر الصفح ضمن نسق الاعتراف النظري، نجد أن العلاقة بين جدلية السيد والعبد والصفح في جوهرها علاقة ًتنتهي بطلب الاعتراف، ولكنها في الصفح وفي حالات الجرائم والإبادة التي ترتكبها سلطة سيادية أو شخصية سياسية أو عسكرية أو مدنية ذات نفوذ وسلطة ترى في نفسها سيدا والناس أتباع وعبيد، فإن العلاقة في الصفح تنقلب وتمنح السلطة والسيادة لمن وقع عليه الظلم أو ارتكبت بحقه الجريمة ويتحول السيد السابق إلى مجرم ومتهم يطلب الصفح ويتوسل إليه، بعد أن يعترف بذنبه ويستشعر الخطيئة التي ارتكبها بحق الآخرين ويتوقع منهم اللاصفح كما أنهم يمنّون به عليه لو أرادوا ذلك ويريدونه لأنه جوهر الصفح ومعناه.

يتحقق مطلب الاعتراف لدى أكسل هونيث بتوفر الشروط الثلاثة: الحب، الحق (القانون)، والتضامن، وهو بذلك يشارك هيغل ويكمله بجعل الصراع بين الأفراد والجماعات لدوافع أخلاقية بالدرجة الأولى، وليس بدافع غريزة البقاء والأنانية كما عند مكيافيلي وهوبز، فالعلاقات الاجتماعية يصيبها عطب ينتج عنه توتر أخلاقي يؤدي إلى تجاوز أخلاقي وقانوني واجتماعي تنتصر فيها إرادة الأقوى الذي لا يرتدع بقانون أو أخلاق ولا يمانع المجازفة بالحياة والوقوف أمام الموت أو الوقوع به (الصراع من أجل الاعتراف، أكسل هونيث، تر: جورج كتورة، المكتبة الشرقية، ط1، 2015  ص ص 130 – 131) لذا فثلاثية أكسل هونيث هي من أجل تجاوز التوتر الأخلاقي والحفاظ على نموذج حياة مثالي للاعتراف وولادة الهويات وتمتع الذوات بالحرية والاستقلال والقدرة على الإبداع وتحقيق القيمة الذاتية، فالحب = الثقة بالذات، والحق = احترام الذات، والتضامن = تقدير الذات. وتمثل العاطفة التي تبدأ بالأسرة والأصدقاء والحبيب، ثم القانون والعقلانية التي يوفرها الدستور والقضاء وينفّذها النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. والمنظمات المدنية، أما التضامن فيعكس روح الجماعة التي تحفظ للفرد فرادته وإبداعه وتقدر ذلك العمل الذي يقدمه ويعود عليه بتقدير الذات والشعور بالاكتمال والأهمية حيث يلتحم الجزء بالكل الذي يقدره ولا يستغني عنه أو يحتقره أو يزدريه، فتقدير الذات يأتي من اهتمام الآخرين وتضامنهم مع الفرد المرئي لهم، لأنّ شعور الفرد بالإهمال يعني أنه شخص لامرئي وغير مشاهد أو ملاحظ من الآخرين، ذلك الإهمال الذي يدفع اليوم كثير من الشباب إلى جنون النشر على مواقع التواصل الاجتماعي وممارسة شتى أنواع الأفعال والتصرفات لجذب انتباه الآخرين والاشتهار، وقد وصل الأمر إلى حد ارتكاب الجرائم والقتل والانتحار أثناء البث المباشر، وتم إنتاج كثير من الأفلام التي تظهر الهوس الذي يعيشه بعض الأفراد الباحثين عن الشهرة والتقدير العابر للمحلية نتيجة لتطور وسائل الاتصال العالمية وتوفرها للجميع، فالذين لا يحصلون على التقدير والاحترام في الواقع الحقيقي يعوضون ذلك بمحاولة الحصول على التقدير في الواقع الافتراضي، وينفصلون عن واقعهم بالعيش دخل العالم الافتراضي الذي يعد أكثر مثالية لاسيما وأنه يعطي الفرص المتساوية للجميع دون تفرقة أو محاباة، وهو عالم أشبه بالعوالم الخيالية والشيوعية التي يختفي فيها الرب والرقيب فيمارس الأفراد حياتهم داخل هذا العالم الذي لا يعترف بالقيود ولا بالسلطة العليا الواحدة، ولا يعترف بالهويات الجغرافية ولا بالحدود، فالأفراد يختارون من الهويات واللغات والأسماء والأفكار والمعتقدات والأزياء ما يشاؤون، ومن هذا المنطلق يمكننا تطوير نظرية الاعتراف بدمجها بالواقع الافتراضي وعدم الاكتفاء بالتنظير الفلسفي والثقافي عن الواقع الحقيقي، فالواقع الافتراضي يوفر اليوم لمليارات البشر البيئة الحرة للتواصل وتبادل الأفكار والثقافات الذي يتوّج بتحقيق الاعتراف العالمي العابر للسلطات المحلية وهو جزء من تكنيك عبقري للإفلات من سلطة الجور والرقابة الصارمة والتقييد الذي تمارسه الدكتاتوريات والحكومات على شعوبها، يعني ذلك أن سلطة الحكومات المحلية قد انحسرت ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا ولم تعد سوى سلطة لتمشية الأمور الإدارية والخدمية والأمنية، وأن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت أقوى تأثيرا في الأفراد وهي من تحقق الاعتراف العالمي بهم، وتمنحهم سلطة تفوق سلطة الرئيس في التأثير على الأفراد وتوجيههم، وتقليد المشاهير جزء مهمّ من محاولة الفرد لاكتساب الاعتراف بمعاصرة أقرانه ومجاراتهم بالأفكار والأزياء وهذا النوع من الاعتراف هو اعتراف جيلي، إذ يكون لكل جيل طرقه وأفكاره وبيئته الخاصة للاعتراف، وهذا الجيل يمتاز بالعالمية ولا يرتبط بما هو محلي، لذا يرتبط سكان العالم المعاصر برباط الموضة المقدس، وهو مقدس بما أنّه ينتقل بالتقليد وغير خاضع للنقد والتحليل من قبلهم. وهؤلاء لا يتقبلون منتقديهم ويزدادون تشبثا بأفكارهم وأزيائهم وطقوسهم العابرة للحدود وهم يعبّرون بهذا عن خروجهم على السلطات التقليدية ورقابتها ويثورون عليها بمخالفتها والسخرية من منظومتها الرثة والبالية.

إنّ هروب الأفراد من الواقع الحقيقي إلى الواقع الافتراضي وهجرة الناس من بلدانهم على الرغم من المخاطر العالية، واللجوء إلى دول أوربا وأميركا بحثا عن الحرية والحياة والعمل والاحترام بعيدا عن سلطات الجور والطغيان التي عممت الإهانة والاحتقار والذل والفقر والمنع والتقييد على شعوبها، وأصبحت مؤسساتها ودوائرها موطناً يذل فيه المواطن ويهان عبر بيروقراطية بالية تزداد تضخما وبشاعة، يستلزم من الدول والحكومات والجماعات والأفراد أن تجنح للسلم وأن تمنح الحرية والحقوق والتقدير، ليتحقق نموذج الاعتراف، مسبوقا بالتسامح والعفو والصفح والغفران، وأن يكون “مبدأ الشك كشرط مسبق للاعتراف” (عنوان مبحث في أطروحتي للدكتوراه: الاعتراف في رواية الأجيال العربية المعاصرة)، ويطرح هذا المبحث فكرة الشك بوصفه الشرط المسبق لقيام الاعتراف المتبادل، هو السائد، فلا حقائق مطلقة على مستوى الأفكار والمعتقدات ولا تقديس للشخوص، فكل فكرة أو رأي أو معتقد قابل للنقاش والحوار، تحت مظلة العقل والتعدد والاختلاف.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.