جدار مليء بالصور

السبت 2022/01/01
تخطيط: حسين جمعان

لَوْ

لو كانت السنة أقل من اثني عشر شهراً،

لعشت سنين أطول،

لقرأت عدداً أكبر من الصحف اليومية،

عن أخبار القصف وكم دفن تحت الركام

من ضحية.

لو كانت الحروف تسعة وعشرين حرفاً،

لكانت شبابيك بيتنا أكثر

لزاد عدد كلمات قصائدي وقصصي

ولزاد عدد الكتب على رفوف مكتبي.

لو كانت الفصول خمسة،

لرأيت الأرض بشكل أفضل،

ولكانت للزهور ألوانٌ جديدة،

لربما ألوان سأسميها:

عطلوتو، مربتون،

أورارض، وزحشتري.

لو كانت الجهات خمسا،

لوجدت وطني،

لوجدته يبني نفسه بعلمه

ويركب حروف اسمه من حرف واحد

ويعزف نشيده من كل حجر

يسقط على وتر الغبار.

تخطيط: حسين جمعان
تخطيط: حسين جمعان

 

اصْطَدْتُ حجراً

أصوِّب رصاصتي نحو فكرتيَ الطائرة،

حجراً يطير نحو أي عشٍ،

حجراً يتمنى لو يرقد تحت طائرٍ

ويسرح بجناحيه خارج القفص.

ذلك الجانب النادم فيَّ يتذلل،

يرجو السماح من صغار الطائر،

يعرض قبلة تمحو آثار صوت رصاصة

أخافتهم.

أعود إلى غرفتي عبثاً.

لا مكان أجلس عليه سوى الحجارة.

قَدَمُ الكرسيِّ المكسورِ تحت سقف بيتنا

لن تستطيع المشي بعد اليوم.

شباك غرفتي الصغير لن تدخله أشعة الشمس،

بل سيزحف خيط الظلام السميك

من خلاله نحو فنجان قهوتي المسكوب

على فستان حبيبتي تحت الركام.

على ذراعي،

يركض الوقت للوراء،

يتعثر بصدأ في عقارب الساعة،

يتذكر أعشاشاً بنتها الحجارة

قبل أن تتكسر في مرايا الرصاص.

 

لو كنت أعرف

أتسلل إلى حديقة بيتنا

أسترق النظر إلى فنجان قهوتي عبر النافذة

لا تزال آثار فمي على الفنجان

الأبيض.

لا تزال الساعة تدور بعقاربها

لا تعرف أنها ستداوم على مشاهدة

وجوه غير وجوهنا.

لن يعرف شعورها سوى الجدار.

قلمي لا يزال على مقعد الكتابة،

والصفحات البيضاء تكاد تسقط،

يمسكها الصمت الثقيل كلما هبّت ريح

صفراء من جهة الحقول.

لو كنت أعرف، لكتبت على الورقة الأولى:

بيت، بئر، بذور السرو والصنوبر،

علّ البئر تسقي البذور ويصير بيتنا

حديقة أو غابة

أشاهدها من بعيد

من مخيم اللاجئين.

 

الساعة المقلوبة

هي ذي الساعة مقلوبة

وحائطي كومة حجر.

أصابعي تمسد خد الألوهة

بأوراق تمزقت من دفاتري

ومن الشجر.

عيوني تلمح خيوط الأبجدية

تحت ركام قاموس مزقته الشظايا.

أنت، يا من تقف على أطراف أصابع

صامتة،

تقدم، حرك هواء ساكناً يسكنه الخوف

ينتظر الرصاصة.

 

فناء

تحزم البيوتُ حقائبها.

يضرب الغبارُ له خيمةً في زاويةْ.

والصدأُ يحطُّ بأثوابه المهترئةِ

على الصنبور والملعقة.

يخطف من الماء أرجوحته الناعمة

بينما الهواءُ ينام على أرض الملعقة الخشنة.

لا مرآة إلا في النهار.

كلُ شيءٍ في الغرفة يسترُ عورتهْ.

لا عصفورَ ولا مذياعَ يلفت انتباهَ الأشياء.

الأن، كلٌ يمضي وقتَه في تتبُّع اهتراء غيره

بينما هو ممعنٌ في الفناء.

 

ذكرياتي البعيدة

أحنُّ إلى ذكرياتي البعيدةِ،

أضعها على شفتي وأقبِّلُ

بابَ البيت القديم.

أسمعُ خطواتِها مع نَبَضَاتِ الساعة

وزقزقةِ الستارة مع كل نسيم.

تشمُّ ذكرياتي رائحةَ سريري طفلاً،

هو الآن لابني الرضيع.

تَطمئنُّ وهي تحبو إلى غرفتي،

تتحسَّسُ عكاز جدي ونظارة جدتي،

يكسوهما الغبار.

أخيط للذكريات من دموعي غيمةً أغنيةً،

أضع لها ظلِّي لحافاً وقلمي وسادة.

أربّت على كتفيها وأمسِّد شعرها الأبيض.

تعزف لي لحناً سمعْتُه في بطن أمي

قبل الولادة

بدقيقتين أو ثلاثة.

أغفو…

تُمسك هي أصابعي الصغيرةَ،

تسرِّح شعريَ الأسودَ

وتدلِّك صدريَ النحيف.

لا لحن بعد اليوم.

ذكرياتي حاضري،

كلِّي هواءٌ

تدفعه ذكرى صامتة

وقصيدة.

 

خيمة القيادة

1

ضوء الشمعة الخافت على جدارٍ مليءٍ بالصور العتيقة

يلوّن ملابس وقبعة الجدّين

ويعطي الحديقة رائحة داكنة،

فتصبح الجدة ثائرةً على الحدودِ،

تطالب بالحرية،

ويلفها دخانُ الإطارات المشتعلة.

والجدُّ يلقي بالجرائد الحزبية في الموقدِ، كي يشعل

نارً تدفِّئُ أرداف السياسيِّين في خيمة القيادة.

2

أصوات الإسعاف والرصاصات الطائشات

تَغرقُ في وحل ضجيج الضحك وأغاني فيروز وأم كلثوم،

في خيمة القيادة.

سياسي يناقش فكره المتطور

وأيَّ لونٍ من الزهور الذابلات سوف يُهدي

جرحى الحدود.

وسياسيٌ مراهقٌ يناقش مع زميلٍ متمرّس

أيَّ أغنيةٍ وطنيةٍ سيسمعها قبل أن ينام مع زوجته،

كي يُنجبوا طفل الثورة.

وآخرُ يَمْضَغُ عِرْضَ جارته ويخبر الجميع

عن وقت نومها مع زوجها.

لا حدود للخيال في خيمة القيادة.

تمتلئ الخيمة بغازات وسوائل شديدة الاشتعال،

غازاتٌ نثرتها أرواح الشباب القتيلة،

ودمٌ سَالَ على الأرض الجافّة،

كلاهما بحث عن رائحة القيادة.

يصرخ الشباب مع كل جرحٍ،

فتشعل الصرخات المكتومة خيمة القيادة.

 

خطبة اللاجئ

كم مرة صحوت وأنا أتفقد عدد أصابعي!

أركض نحو المرآة.

هو أنا نفسه، قبل أن أصحو وبعد.

كم تمنيت لو أستيقظ ويزول الممل

من تقاسيم جسمي ولون جلدي.

حتى اسمي لا يتغير،

شعري طوله ثابت

كعدد حروف الهجاء على الحائط.

أنظر إلى الشمس في الصباح.

هي، هي،

لم تنقص ولو زراً من قميصها.

حتى الغيوم التي أمطرت يوم ميلادي،

لم يزدد عدد الشعر في رموشها.

بل تزيد وجناتها ابتلالاً،

بينما لونها لا يقل بياضاً

تحت السواد.

كم من شارع طرقت بابه الأرضي،

لم تخرج سوى حبة أو حبتي رمل

حديثتا الولادة،

نظرتا إليّ بشيء من الحنين،

تسألان عن سني وتاريخ اليوم

وعن آخر خطاب ألقاه اللاجئ.

لم تعلما مرة أن اللاجئ لا يتكلم.

حتى لغته تشردت ووضعوا صدى كلماته

في متحف السكان الأصليين.

 

المقبرة

“هل أنا حقاً وحيدٌ هنا؟”

يتساءل شاب دفن قبل يومين في مقبرة كبيرة،

أوسع من بيت عائلته والشوارع المجاورة.

يلتفت يميناً نحو صوت طائرة مقلعة من المطار،

يساراً نحو أخرى تنخفض تستعد للهبوط

قادمة من بلد بعيد لم يسمع به.

عرف ذلك من صوت المحرك المنهك.

تمرين له في صالة ضيقة

لكنها كانت واسعة لتحريك الرأس حركة نصف دائرية.

الساعة السابعة مساء،

يوم الخميس،

السادس والعشرين من نوفمبر،

صوت المشروبات الغازية

وهي تصب في الكؤوس

ليلة عيد الشكر.

تزور العائلة قبر ابنها ذي الخمسة عشر عاماً،

يتركون نخباً عند الشاهد. يجلسون ويقرؤون دعاءً من الانجيل.

يخبرونه ماذا أكلوا خلال الأيام الماضية،

بعض الحلويات التي يحبها،

فيلماً مفضلا لديه سيشاهدونه الليلة.

تضيء بعض اللمبات المشحونة بأشعة الشمس.

تضيء بعد أن تغيب الشمس

ويتناثر الظلام على الأرض والرخامات الباردة.

يود لو يخبر عائلته أن يجلبوا له مقعداً خشبياً

ومظلة يجلس تحتها عندما يخرج في الليل.

يود لو يطلباً كأساً آخر أو كأسين يتشارك فيهما

الشراب مع صديق وصديقة تعرف عليهما بينما كان

يجول في المقبرة.

رآهما يسقطان أرضاً عندما وقع فرع من شجرة

عليهما وهما يمشيان في الليل.

كان الجو عاصفاً يومها،

كان الفرع ضخماً ولكنها كانا خفيفين جداً،

طارا بعيدا عندما سحب يديهما

من تحت الفرع البارد.

كان الفرع قد بدأ بالدفء من أثر لهاث الصديقين

وهما يختنقان تحته.

ها قد غادرت العائلة

تبرق السماء وترعد.

ينزل المطر ويعطى الأرواح حماماً

يزيل عنها عرق الانتظار على باب الوعد والوعيد.

يمسك الأنبياء بمقبض الباب،

معهم كتب تكليفهم، وأسماء من آمن وكفر.

بينما الملائكة تجدد الدهان على زخارف الباب بنورها.

يغسل المطر الذنوب، كبيرها وصغيرها، عن الجميع،

مؤمناً كان أو كافراً، مذنباً أو تقياً.

علمانياً، تقدمياً أو متطرفاً يمينياً

يغفر الله للجميع،

لم يرد أن يغير ما فعل المطر.

عرشه على الماء،

خلق الانسان من ماء،

جعل كل شيء حياً من الماء،

لربما سائل قلمه من ماء.

يجلس جميع الموتى على الأشجار في المقبرة،

كانوا مبتهجين برؤية الماء يغسل أرواحهم،

والريح تدفع ذنوبهم نحو الثقب الأسود

وتصير حجراً كبيرا يسد فوهة ذلك الثقب.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.