جرح دمشقي

الخميس 2022/09/01
لوحة: تمام عزام

حين تمسك القلم لتكتب عن صديق رحل، ينتابك شعور بالعدم، لكنني وأنا على وشك الكتابة عن خيري سرعان ما استحضرت حبه للحياة، الحياة كما يجب أن تكون عليها، ولهذا كنا دائماً حين نلتقي نتبادل قهرنا بحب الحياة التي تقع هناك، في مستقبل نريده، غير أننا ونحن على هذه الأرض نرفع همّنا الفردي إلى هم كلي، فالهمّ الذي خلقته الغربة عن دمشق بالنسبة إلى خيري همّ وجودي بامتياز.

فهذا الروائي الغارق في حب الشام كلها، ودمشق في قلبها، لم يكن يرى العالم إلا بعيون شامية، لكن العيون حزينة، وحين رأى الجمال المفقود بعيون حزينة راح قلمه يكتب حزنه وتمرده ولاءاته.

في الشام لا يكف خيري في أيّ جلسة نستقوي بها، كالعادة، على الطاغية، عن الحديث في التاريخ التراجيدي لدمشق، وعن الهمجيات التي غزت دمشق، وآخرها همجية النظام الحاكم.

ماذا يعني أن تجد محبوبتك مغتصبة؟ هكذا كانت علاقة خيري حين نتحدث عن دمشق ونحن فيها، وظل يتحدث عنها ونحن في دبي.

لكن قلب خيري الذهبي المعنّى بعشق الشام وأهلها لم يلغ الابتسامة التي لم تغادر وجهه أبداً، حتى حين الغضب.

ما كان يميز كبرياء صديقنا النبيل تلك الأنفة التي تمنعه من الشكوى من جهة، ومن تحويل أسره إلى طريقة للحضور، حتى إنك تنسى بأن خيري كان أسيراً لدى عدوك، حتى ظهر كتابه “من دمشق إلى حيفا”، فكبرياء الأسير الذي أمضى 300 يوم عند عدوه تحولت إلى جزء من سيرته الذاتية ووعيه بالعدو نفسه، وليس وسيلة للحضور.

لم يكن خيري سياسياً، ولم يدخل عالم السياسة في الكتابة، ولم ينتسب إلى حزب سياسي، لكن السياسة بالنسبة إليه موقف من الوجود والوطن والمعرفة بالتاريخ والحاضر والكفاح من أجل مستقبل نقيض لحال المسخرة التاريخية التي عشناها أجمعين.

حسبنا أن نستمع لخيري وهو يقول في إحدى الحوارات التي نشرت في مجلة “الجديد” حتى نعرف ماهية عقليه وروحه: “مشكلة سوريا الطبيعية، أو بلاد الشام عموماً، والتي ورثتها بعد تقسيم سايكس بيكو، ما سميت لاحقاً بالجمهورية السورية، هي أنها كانت ممراً لصراع الأمم التي تعيش في شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، سوريا الطبيعية بلد أنجب حضارات للعالم، أمّة كانت ممن أسهم في تكوين البشرية الأول، ولكن موقعها الجيوسياسي جعلها ساحة للصراع بين الفرس والروم والأناضول ومصر، ولعل تجربة دولة تدمر تدلل الكثير عن الحلم السوري، ولكن الأمة السورية لا تملك من مقومات الأمة/الدولة شيئاً، حدودها غير مُدرَكة مثل مصر أو الجزيرة العربية أو فارس، فيها تعدد عرقي ولغوي وثقافي وديني هائل، لذلك كانت كل تجارب الدول التي نهضت فيها تنتهي على يد الغزاة من جيرانها فيهدمون كل ما بناه السوريون، ولعل الصراع هذا يمتد حتى يومنا، ولا حل لتلك الأزمة إلا بالمواطنة والديمقراطية التي ستحمي حقوق الإنسان السوري وتشجعه على أن يسهم في بناء بلده بعد عقود من التهميش باسم القومية وشعارات لا دخل للسوريين بها، مغامرات القادة السياسيين الذين أودوا بالبلاد إلى المجهول”.

حين صعقني خبر رحيل خيري وأنا الذي كنت في شوق للقائه كتبت له قائلاً:

إلى خيري الذهبي:

صديقي خيري: وها أنت تفرد جناحيك طائراً إلى حيث واحة النبلاء الذين يسكنون الأبد، الأبد أرشيف المبدعين، أيها الصديق الذي أصيب بداء هوى دمشق، ازدادت جراحات دمشق جرحاً آخر برحيلك، وحزناً جديداً بغيابك. والأقلام المتمردة نكست ريشاتها حداداً عليك. وسوريا الكليمة تذرف الدمع في وداعك، وحيفا وكل أنحاء فلسطين تلوّح لحبيبها الأسير من أجلها أليمةً.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.