جسامة‭ ‬التراجيديا‭ ‬وضآلة‭ ‬اللغة

الخميس 2015/10/01
تخطيط لـ حسين جمعان

المسألة في اعتقادي، تبدأ لدى المثقف عموما، والمبدع خصوصا، والشاعر على نحو أشدّ خصوصية، من وعيه لدوره في الحياة، وهو في جانب أساسيّ منه دور ثوريّ، من حيث سعيه الدائم والدائب والمثابر للتغيير، أي أنه سابق على الثورات والانتفاضات، بل هو ممّن يهيّئون ويمهّدون الطريق للآخرين من المفكّرين والقادة الثوريّين‭.‬ هذا من حيث المبدأ، وفي خصوص ما جرى ويجري في الساحات العربية من ثورات، أعتقد أن غالبية مبدعينا يقومون بدور ما في مساندتها، غير أنّ إسهاماتهم تظلّ هامشية أو ثانوية قياسا إلى حجم الجريمة التي ترتكبها قوى العالم‭.‬ ولكي ينسجم قول الشاعر وفعله مع وعيه وقناعاته، فلا بدّ من أن “يتخندق” في المعنى الكامل والعميق للكلمة/المصطلح، وخندقه قد لا يكون عسكريّا وحربيّا، مع أنْ لا شيء يمنع ذلك إلا الخبرة فقط، لكن خندقه يظلّ خندق مقاتل بالأدوات التي يملكها ويجيد استخدامها، وعليه استخدامها بالحدّ الأقصى من فاعليّتها، ومن دون النظر إلى المقولات المثبّطة من دور المبدع، فهو هنا، في هذه المعركة، “جنديّ” بالفعل المتجسّد في الكلمات، الفعل الذي تنطوي عليه اللغة بما تحتويه من طاقة للتعبير والتحريض، حتى لو اضطر للقيام بأبسط أدوار التعبير متمثلة في أن يتحول إلى ناطق باسم الثورة، أو مراسل حربيّ لها في الجبهة، وهذا دور لا يُستهان به، ولا يجيده أحد قدر إجادة الشاعر له، بما يملك من حساسية تجاه الأشياء والعالم، فضلا عن الحساسية اللغوية التي لا يجوز التهاون والتساهل فيها، بل يجب “تفجير” طاقتها بالحد الأعلى، ليترافق الدور العمليّ مع الدور اللغوي للشاعر‭.‬

هذا من حيث المبدأ أيضا، ومن حيث الصورة العمليّة الرّاهنة، أرى أن للشاعر دورا في تفعيل ذائقته عالية الحساسية، عبر اختيار الصور الأكثر تأثيرا في “الجمهور” الذي يتواصل معه ويتفاعل مع أدواته التعبيرية، سواء تمثل ذلك في إبداعه الشخصيّ، أو في ما يختار من مشاهد تعبّر عن رؤيته لما يجري أمام بصره وبصيرته، من دون أيّ مبالغات يمكن أن يكون لها التأثير المعاكس أحيانا، وهو ما تمارسه الكثير من وسائل الإعلام جلبا للشهرة‭.‬ فالشاعر لا يبحث عن الشهرة، وغايته هي إحداث الأثر الأكبر والأوسع والأعمق لدى من يتابعونه، وهذا التأثير يتطلب أدوات توازيه بل تفوقه عُمقا‭.‬

أخيرا، نحن أمام “حدث” شديد المأسوية، وربّما ليس مسبوقا في تاريخ البشرية على هذا النحو، لذا فالمطلوب استحداث “لغة” توازي الحدث وتجعله قادرا على استفزاز المشاعر وتحريض أصحابها على القيام بفعل ما حيال ما يجري‭.‬ وهذا الدور الفاعل ما يزال شبه مفقود، لأسباب تتعلّق بضخامة الجريمة وأهوالها، والمدى غير المعقول الذي بَلَغته دموية المجرم‭.‬ الأمر الذي يدعو إلى فعل جماعيّ لا يستطيع المبدع (الشاعر) القيام به وحيدا أو بمفرده‭.‬ وهو أيضا عمل ما يزال محدودا وضئيل الفاعلية، لأسباب تتعلق بغياب التوافق بين المبدعين على فهم ما يجري، والتشظي الذي أصاب النُّخب الثقافية العربية لجهة مواقفها من “الثورة” أساسا، وأساليب ووسائل التعبير عن هذه المواقف، والجهات التي تقف وراء هذا الطرف أو ذاك، ما خلق قدرا كبيرا من التشظي أهدر الكثير من الطاقات، من جهة، وجعل الكثير منها بلا فاعلية أو جدوى من جهة ثانية‭.‬ وفي كلا الحالين، بتنا أمام شاعر ومبدع بلا وجود حقيقي فاعل، أو بالحد الأدنى من الفاعلية‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.